الحروب والمرأة.. انتكاسة الحقوق وشرعنة العنف – د. أنجيلا سلطان المعمري
الحروب والمرأة.. انتكاسة الحقوق وشرعنة العنف
“العالمُ اليومَ يبدو ككرةٍ ملتهبة من الصّراعات اللا متناهية،
تتأرجح بين حروبٍ ونزاعات وأزمات
آخذة بالتّصاعد مع صعود القوى الاستبداديّة المعادية للديمقراطيّة،
ما يُعزّز أشكال العنف والتّمييز ضدّ النساء
ويجعلها المتضرر الأكبر من هذه الصّراعات”
د. أنجيلا سلطان المعمري
تُشكّل الحروب محطات مفصليّة تُختبر فيها قيم المجتمعات وإنسانيتها، لكنّها غالباً ما تكون لحظات انكشاف تسقط فيها المكاسب النسوية التي تحققت على مدى قرون. فمع اندلاع النزاعات، تتحول النساء من فاعلات في بناء الحضارة إلى ضحايا لتوابع العنف الممنهج الذي لا يتوقف عند حدود الحرب، بل يمتد ليُعيد إنتاج هيمنة الذكورة عبر شرعنة العنف المنزلي وتهميش الحقوق.
تتفاقم جميع أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني، مثل القتل في صورة “جرائم الشرف”، والعنف الجنسي في صورة الاغتصاب، والزواج المبكر والقسري. يستغل المنتهكون الذين قد يكونون من أفراد الأسرة أو الأقارب أو أفراد المجتمع، انهيار أنظمة إنفاذ القانون وهشاشة آليات الحماية الاجتماعية لزيادة خطورة جرائمهم ونطاقها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تلجأ الدولة والأفراد والجماعات التابعون فعليّاً للدولة إلى استخدام العنف الجسدي والتعذيب لترهيب النساء للبقاء خارج المجال العام. كما يسود العنف الاقتصادي ضدّ المرأة في شكل الحرمان من الحقوق والموارد، والحرمان من التعليم، والسّيطرة على الراتب أو الدخل، والحرمان من الميراث.
فالعالم اليوم يبدو ككرة ملتهبة من الصراعات اللا متناهية، تتأرجح بين حروب ونزاعات وأزمات مناخية آخذة بالتصاعد مع صعود القوى الاستبدادية المعادية للديمقراطية، ما يُعزز أشكال العنف والتمييز ضدّ النساء ويجعلها المتضرر الأكبر من هذه الصراعات.
تتعرض النساء للتهميش ولجرائم العنف بدرجات أكبر خلال الحروب وبعدها، ونادراً ما يُراعى فيها منظور النوع الاجتماعي في التخطيط والتنفيذ. بالتالي لابدّ من التنبّه إلى واقع النساء في ظلّ الحرب وما بعد الحرب، عن طريق إجراء الدراسات الميدانية للنظر في احتياجات النساء وأوضاعهن، وإعداد البرامج الملائمة في مجال معالجة آثار الحرب والنزاعات المنعكسة على النساء، وكيفية حماية حقوقهن المكتسبة سابقاً التشريعية أو العملية.
كما أنّ أوضاع ما بعد النزاع تتشابك بعمق مع بناء السلام والحكم الرشيد وسيادة القانون، غير أنّ تأكيد حقوق المرأة في المجتمعات الخارجة من النزاع ليس سهلاً. غالباً ما تُعتبر المساواة الجنسانية ذات أولوية منخفضة خلال المفاوضات الدستورية مقارنة بمسائل مثل تقسيم سلطة الدولة ومواردها والطريقة التي ينبغي أن تترجم بها إلى التصميم المؤسسي.
في كلّ مفاوضات دستورية تالية للنزاعات، تتكرر المأساة حيث يتمّ تهميش المساواة الجندرية كما لو أنّها ترفٌ لا تحتمله الظروف الوطنية الحرجة. تُدفع قضايا النساء إلى الهوامش بينما ينشغل الفاعلون السياسيون بتقاسم النفوذ والسّلطة، وكأنّ تحقيق العدالة نصفيّة لا تمسّ جوهر السلم الاجتماعي. هذا التهميش لا يُعبّر فقط عن غياب الإرادة السياسية، بل يعكس ذهنية متجذرة ترفض الاعتراف بالنساء كشريكات كاملات في صياغة المستقبل. في النتيجة، تُولد أنظمة جديدة مشوّهة، تُكرر أنماط التمييز السابقة ولكن بأسماء وشعارات برّاقة.
يختلف تأثّر النساء والفتيات والرجال والفتيان بالنزاع العنيف وعمليات بناء السلام. فتتغير الأعراف الاجتماعية وعلاقات القوة والأدوار الجندرية بشكل متواصل، ويُعاد تحديدها أثناء مرحلة النزاع العنيف كما أثناء مرحلة ما بعد النزاع وبناء السلام، وغالباً ما تكون الحدود بين هاتين المرحلتين غير واضحة. يمكن للنزاع العنيف أن يُنشئ مساحات وأدواراً جديدة، وأن يخلق مخاطر ونقاط استضعاف جديدة لأشخاص وفقاً لنوعهم الاجتماعي وعمرهم وحالتهم الاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من المؤشرات الاجتماعية ومؤشرات الهوية.
تُعيد المجتمعات تشكيل أدوار النوع الاجتماعي بعد الحرب، حيث يُنظر إلى الرجال المحاربين كأبطال، حتى لو ارتكبوا عنفاً منزليّاً. تُغلق الأبواب أمام محاسبتهم تحت ذريعة “الصّدمات النفسيّة”، بينما تُجبر النساء على الصّمت كجزءٍ من “التضحية الوطنية”.
من بين عددٍ كبيرٍ من النساء اللواتي يتعرضن للعنف (الناجيات من العنف) هناك عددٌ قليل ممن يَقُمن بالتبليغ عن حالات العنف والانتهاكات، وذلك يرجع إلى فقدان الثّقة في الجهات القانونية، وعدم وجود آليات حماية يستطعن من خلالها الحصول على حقوقهن، والخوف من وصمة العار الاجتماعية مما يضطرهن للصمت والتكيّف السلبي والتعايش مع الألم مع هذه الانتهاكات بعدم التبليغ عنها.
لذلك فإنّ التغيير الحقيقي لا يحدث بانتهاء الحرب، بل بمدى نجاح النساء في فرض وجودهن السياسي والاجتماعي في مرحلة إعادة البناء. المجتمعات التي تفشل في إعادة تعريف أدوار النوع بشكلٍ عادل، تخسر فرصة تاريخية لبناء سلام شامل ومستدام.
عدم وجود قوانين منصفه وآليات حماية ممكنه، يجعل المرأة تلتزم الصمت وتبقى في دائرة العنف اللامتناهية، واستمرار هذه الحلقة المغلقة لا يعود فقط إلى غياب القوانين، بل إلى ثقافة اجتماعية تُبَرر العنف، وتُحمّل الضحية مسؤولية ما تتعرض له. هذه الثقافة تدفع بالمرأة إلى الشعور بالذّنب بدلاً من الشّعور بالحق في العدالة والكرامة.
لا ننسى الآثار النفسية المترتبة على استمرار دائرة العنف على مستوى الأسرة والمجتمع، وعدم وجود برامج وآليات الدعم النفسي التي من شأنها العمل على التخفيف من حدة الألم النفسي والاجتماعي والمساعدة في التكيّف والاندماج وإعادة التأهيل بالمجتمع.
في ظل هذه الظروف، لا تقتصر الآثار على الأذى الجسدي والنفسي المباشر، بل تمتد إلى تدمير ثقة المرأة بنفسها، وإضعاف قدرتها على بناء مستقبل مستقل وآمن. كما تنعكس هذه المعاناة على المجتمع ككل، إذ ينشأ جيل جديد يرى العنف كأمر طبيعي، ويفقد الإيمان بقيم العدالة والمساواة.
كما يؤثر تدني مستوى التعليم عند النساء والقيود الاجتماعية المفروضة على حركتهن وفرض هيمنتهن، بالإضافة إلى اعتماد البعض منهن على التمويل الاقتصادي من الأقارب الذكور مما يجعلهن أقل حيلة وأكثر خضوعاً واستسلاماً وعرضة للعنف، خاصة في ظل افتقارهن للحماية القانونية. نستطيع القول بناءً على ما سبق بأنّ العنف ضدّ النساء هو انتهاك صارخ لحقوق النساء بسبب هيمنة العادات والتقاليد وفرض السلطة الذكورية وضعف القوانين وآليات الحماية وتنفيذها على أرض الواقع لحماية النساء.
إن كسر دائرة العنف يبدأ أولاً بسنّ قوانين عادلة، تُجرّم العنف بجميع أشكاله دون تمييز أو تبرير، وتؤسس لآليات حماية حقيقية تضمن للنساء النجاة والدعم الكامل بعيداً عن الابتزاز والضغط المجتمعي. كما يجب أن تترافق هذه الجهود مع حملات توعية ثقافية تغيّر النظرة السائدة إلى الضحية، وتؤكد على أنّ من حق كل إنسان أن يعيش آمناً وكريماً.
بالنّظر إلى أدوار النساء في بلدان الصراع والنزاع نتيجة فقدان العائل في جبهات المواجهات، أصبحن هن العائل للأسرة ويقمن بالكثير من المهام والأعمال داخل وخارج المنزل. لكن لا نجد من يتحدث عن هؤلاء النساء اللواتي خُضن المعارك بأشكالٍ مختلفة ومتنوعة من أجل البقاء.
إنّ فقدان العائلة ليس مجرد خسارة فردية، بل هو تدمير كامل للهيكل الاجتماعي. المرأة في هذه الحالة تصبح حاملة عبء الأمل الوحيد لمستقبل عائلتها، سواء كانت سيدةً تعيش حياةً أسريةً طبيعية قبل الحرب، أو أُمّاً تسعى جاهدة لتأمين حياةٍ أفضل لأطفالها في ظل ظروف غير إنسانية.
يمكنني القول: إنّ النساء في مجتمعات الحروب يُصبحن مقاتلات الحياة، رغم أنّهن لم يُسجّلن يوماً في قوائم الجيوش. مع كل فقدان جديد يتزايد القتال من أجل البقاء، من أجل إنقاذ أطفالهن، من أجل بناء ملاذٍ آمنٍ لهم، على الرغم من فداحة الخسائر ورغم ذلك لا يلقى صوتهن مناصرة أو دعماً حقيقياً على الأرض.
تُشكّل الدساتير الوثيقة القانونية الأساسية في الدول التي توجد فيها، وعادةً ما يكون لها الأولوية على التشريعات العادية. فهي توفّر منظوراً تفسيرياً سيتم من خلاله تطبيق التشريع، وتحدد مسار وضع القوانين بشكل عام.
تستهدف النزاعات المسلحة الهوية الثقافية للمجتمعات عبر الاعتداء على النساء، باعتبارهن حاملات للرمزية الثقافية. الاغتصاب كسلاح حرب – كما في رواندا والبوسنة – ليس مجرّد عنفٍ جسدي، بل أداة لتفكيك الانتماء العرقي عبر تشويه “شرف” المجتمع. فالاعتداء على النساء أثناء النزاعات لا يأتي عرضاً أو من باب الفوضى، بل هو جزء مدروس من استراتيجيات إذلال المجتمعات، كسر إرادتها، وتحطيم نسيجها الثقافي.
تشترط الحياة المستقرة توازناً في الحقوق والصلاحيّات، لكنّ الأمن في الخطاب الدولي ما يزال يُفهم عبر البعد العسكري، متجاهلاً أمن النساء. قرار مجلس الأمن رقم 1325 حول المرأة والأمن والسلام يظل حبراً على ورق في ظل غياب آليات تنفيذية. لا بدّ من انتقال فلسفة الأمن من حماية الحدود إلى حماية الكرامة الإنسانية، عبر إشراك النساء في مفاوضات السلام ووضع سياسات تُعيد الاعتبار لهنّ كشريكات لا ضحايا.
منذ أن بدأ تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1325، الذي يدعو إلى مشاركة المرأة، مشاركة فعّالة في تحقيق السلام والأمن، لم تطرأ سوى زيادة طفيفة جداً على مشاركة المرأة في محادثات السلام. يستمر هذا الاستبعاد على الرغم من تزايد البحوث التي تشير إلى أنّ مشاركة المرأة في عمليات السلام والأمن والعمليات الانتقالية قد تساهم في معالجة قضايا العدالة والمصالحة والمساءلة بشكل فاعل، ما يجعل اتفاقيات السلام أكثر استدامة.
إنّ التواطؤ على تغييب النساء عن محادثات السلام، ليس مجرّد تجاهل عابر، بل هو جريمة سياسية مستمرّة بحق المجتمعات الخارجة من النزاعات. الذين يحتكرون طاولات التفاوض ينسون أنّ النساء لم يكنّ مجرد شهود صامتين على الدمار، بل كنّ الخطوط الأمامية للبقاء، حملن المجتمعات فوق أكتافهن حين انهار كل شيء. لذلك يمكنني القول أنّه لن يكون هناك سلام حقيقي طالما ظلّت النساء خارج دوائر صنع القرار، ولن تُبنى أوطان عادلة فوق رماد الإقصاء، ولن تنجح أي مفاوضات لا ترى النساء شركاء حقيقيين، لا مجرد رموز صامتة.
لاتـزال الكثيـر مـن النسـاء تسـعى جاهـدةً للتأثيـر علـى أرض الواقـع فـي مسـاحة دوليـة محـدودة، فقـد تمثـل بـروز عـدد مـن الهيئـات النسـائية التـي تسـعى لتحقيـق السـلام، ورفـع أصـوات المكونـات النسـوية علـى المسـتوى الإقليمـي والدولـي فـي محاولـة منهـن لرفـع الصــوت ووقــف الحــرب وإحــلال الســلام.
من الصّعب على العالم أن يعترف أنّ المرأة ليست فقط جزءاً من التغيير، بل هي القوة التي تقود هذا التغيير، رغم أنّ النظام الاجتماعي والسياسي يمارس ضغطاً مستمراً للتقليل من قدرتها وتهميش دورها. كما أنّ تغيير السياسات بدون تغيير الذهنيات هو تغيير هش، سريع الانهيار أمام أوّل أزمة.
من هنا نحن بحاجةٍ ماسةٍ لتغيير السّردية الذكورية والسلطوية نحو مفهوم العدالة الجندرية والمساواة والمشاركة العادلة، كما أنّنا بحاجـة إلـى المزيـد من التحـركات القويـة حتـى يصبـح الواقـع مصداقـاً للخطـاب الإيجابـي حـول جهـود معالجـة العنـف القائـم علـى النـوع الاجتماعـي، بالإضافة إلى أنّنا بحاجة إلى ثورة فكرية تُعيد تعريف مفهوم العدالة بعيداً عن الانحيازات الذكورية التي صادرت الحريات وأفرغت المساواة من مضمونها.