الإعلان الدستوري في سوريا بين إقصاء المرأة ومطالب العدالة الشاملة – هيفين إسماعيل
الإعلان الدستوري في سوريا بين إقصاء المرأة ومطالب العدالة الشاملة
“عبر دستورٍ عادل ومُنصف للجنسين ولجميع المكونات
وبدون إقصاء أو تهميش،
يمكن لسوريا أن تتحول من دولة أنهكتها الحرب
إلى سوريا المستقبل التي لطالما حلمنا بها وسعينا إليها”
هيفين إسماعيل
تمرّ سوريا منذ عقود بأزمات دستورية تعكس تعقيدات الصراع السياسي والهوياتي، بدءاً من هيمنة حزب البعث عبر دستور 1972، ومروراً بالتعديلات الشكلية في دستور عام 2012، وصولاً إلى سلطة دمشق المؤقتة وإقرار ما يسمى بالإعلان الدستوري بعد سقوط النظام البعثي البائد. لكنّ هذه السلطة لم تُفضِ حتى اليوم إلى دستور توافقي يعكس تنوع المجتمع السوري، بل ظلَّت حبيسة الصراعات الجيوسياسية ورفض التنازل عن السلطة المركزية. وفي هذا السياق، برزت إشكالية إقصاء حقوق المرأة والمكونات المجتمعية كواحدة من أبرز الثغرات في الإعلان الدستوري الأخير، مما يطرح تساؤلات لدى جميع السوريين حول إمكانية بناء دولة المواطنة المتساوية.
عند الحديث عن الخلفية التاريخية، بدءاً من الهيمنة إلى التفكك نجد أنّ دستور عام 1972 كان يعبر عن هيمنة حزب البعث وتهميش التعددية. كرَّس الدستور السوري عام 1972 سيطرة حزب البعث على الحياة السياسية، وأغفل الاعتراف بالتعددية الأثنية والقومية الموجودة في سوريا (كالكُرد والسريان) أو الدينية (كالعلويين والدروز)، كما تجاهل حقوق المرأة رغم خطابات “التحرر” الاشتراكية في وقتها، وحُصِرَت الحقوق الفردية تحت شعار “سلطة الحديد والنار”، ما سمح بتوسّع أجهزة القمع .
بالنّظر إلى دستور عام 2012 الذي تضمّن شكلياً إلغاء بعض المواد، حين أقرَّ نظام البعث البائد دستوراً جديداً عام 2012 كَردٍّ على الاحتجاجات الشعبية، الدستور تضمَّن إلغاء المادة 8 التي تُكرّس هيمنة البعث، لكنّه حافظ على نظام رئاسي مُطلق الصلاحيات، ورغم إدراج مصطلحات مثل “العدالة الاجتماعية” و”المساواة” لكنها ظلت حبراً على ورق ولم يتم تطبيقها على أرض الواقع بل ظلّت القوانين التمييزية ضد المرأة والأقليات سارية.
يجب النظر بعناية إلى أنّ الإعلان الدستوري أو الدستور ليس بنوداً قانونية فقط، بل هو العقد الاجتماعي الشامل لجميع المواطنين، وبمعنى آخر، هو عنوان التوافق الاجتماعي والسياسي للشعوب في أي بلد، وهو الذي يُعبّر عن هوية المجتمع كَكُل وثقافته العامة كَكُل، وليس عن هوية جزءٍ من المجتمع ولا يُمكن أن يكون إقصائياً ذو لونٍ واحد.
إقصاء المرأة في الإعلان الدستوري الأخير وآليات التهميش:
إنّ غياب الضمانات الدستورية للمساواة بين الجنسين كان له الأثر الأكبر في إقصاء دور المرأة السورية مجدداً، حيث لم تُدرج “الكوتا النسائية” في البرلمان أو الحكومة، بينما تُعدُّ الكوتا إحدى الآليات العالمية لتعويض التهميش والتمييز بحق المرأة عبر التاريخ، كما تجاهل الإعلان الدستوري الأخير الإشارة إلى “التمييز الإيجابي” لصالح المرأة في مجالات التعليم والعمل.
استمر إخضاع المرأة للقوانين المجحفة بحقها، حيث لم يتم التطرق بشكل واضح وإيجابي على حالات قضايا الأحوال الشخصية مثل (الزواج، الطلاق، الميراث)، مما يُعمِّق التمييز ضد المرأة خاصةً في المناطق التي تُهيمن عليها تفسيرات مغلوطة عن الفقه الإسلامي، وأيضاً لم يتطرق الإعلان الدستوري لتجريم ممارسات مثل تزويج القاصرات أو العنف الأسري، وقد تجاهل المشاركة السياسية الفاعلة، حيث اقتصر دور المرأة في النصوص على “المشاركة في بناء المجتمع” دون ضمانات وصولها إلى مراكز صنع القرار (كمناصب القضاء أو الجيش).
كان هناك استبعاد لمطالب الحركات النسوية، فقد تجاهل الإعلان الدستوري مطالب حملات نسوية سابقة مثل “المساواة في الميراث” و”تجريم التحرش الجنسي”، معتمداً على خطاب يختزل حقوق المرأة في “الحماية الأسرية”.
إنّ تمثيل المرأة في عملية صياغة الإعلان الدستوري كان محدوداً، ولم يتم تضمين آليات واضحة لضمان مشاركتها الفعّالة في الحياة السياسية والاجتماعية. فرّق بين النساء من مكونات الشعب السوري، وفضّل بعضهن على بعض في محاولة لطمس وتقسيم قضية المرأة وشموليتها على مستوى البلاد، وبالتالي تجريدها من حقوقها المشروعة.
بالنظر إلى ما مرّت به المرأة السورية في عهد سلطة البعث نجد بأنّ العادات والتقاليد البالية ساهمت في تهميش دور المرأة، كما غابت عن مواقع صنع القرار وجُرّدت من حقّها في إبداء الرأي وممارسة حياتها السياسية بحريّة.
ماهي الخطوات اللازمة لضمان حقوق المكونات والمرأة في الدستور السوري الجديد؟
لتحقيق دستور عادل لجميع المكونات وتعزيز دور المرأة، يجب أن تكون الصياغة قائمة على مبدأين أساسيين، أولهما؛ الاعتراف بالتعددية وضمان المساواة الجندريّة عبر عدّة بنود تنصّ على ضمان حقوق المكونات المجتمعية من خلال الاعتراف الدستوري بالتنوع.
اعتبار سوريا دولة مدنية ديمقراطية تقوم على المواطنة المتساوية، وتعتزّ بتنوعها العرقي والديني والثقافي، والاعتراف باللغات الكردية والسريانية والأرمنية كلغات رسمية في مناطق انتشارها، مع التأكيد على مبدأ اللامركزية السياسيّة، وتبنّي نظام إدارة لا مركزي يمنح المناطق الجغرافية صلاحيات تشريعية ومالية. ضمان تمثيل كافة المكونات في المجالس المحلية وحماية حقوق الأقليات ومنع التمييز على أساس العرق أو الدين، وفرض كوتا للأقليات في البرلمان.
بالإضافة إلى السماح بإنشاء مدارس تُدرِّس باللغات المحلية وتُدَرِّس تاريخ المكونات المجتمعية في سوريا، وأيضاً إتباع خطط مدروسة لتمكين المرأة وتؤخذ بعين الاعتبار الظروف السياسية والاجتماعية للتركيبة المجتمعية في سوريا.باعتقادي أنّ أهم الخطط الناجحة لتمكين المرأة هو تعزيز التعليم، وذلك لضمان وصول الفتيات للتعليم الأساسي والثانوي في جميع أنحاء البلاد بما في ذلك المناطق الريفية، ووضع برامج تثقيف وتدريب مهني لتوفير برامج تعليمية للنساء تركز على المهارات التقنية والمهنية لتأهيلهن لسوق العمل.
بالإضافة للتمكين الاقتصادي، ودعم ريادة الأعمال من خلال تقديم قروض ميسرة للنساء لإنشاء مشاريع صغيرة ومتوسطة، ولا ننسى أهمية التوظيف العادل وإنشاء برامج مُخصصة تُشجّع على توظيف النساء في القطاعات الحكومية والخاصة، ودعم وتحفيز الابتكار عبر تعزيز مشاركة المرأة في مجالات العلوم والتكنولوجيا بواسطة المنح الدراسية والمسابقات.
محاربة الصور النمطيّة والعنف ضد المرأة وإقامة حملات توعوية ووضع الإعلام في خدمة نشر التوعية، بالإضافة إلى سن قوانين صارمة تشدد العقوبات على جرائم العنف ضد المرأة وإنشاء مراكز للدعم النفسي، ومناصرة حقوق المرأة عبر دعم منظمات المجتمع المدني ووضعها في خدمة هذا الهدف، من خلال تمويل المنظمات المحلية التي تعمل على تمكين المرأة، مع التركيز على أهمية المشاركة في صياغة السياسات العامة لإشراك النساء في وضع القوانين التي تؤثر على حياتهن، وفتح آفاق التعاون الدولي والتعلم من التجارب العالمية من خلال الاستفادة من الدعم الدولي والممارسات الناجحة من البلدان الأخرى، وتمكين وتطوير نظام عدالة مستقل عبر إنشاء هيئات لمتابعة قضايا التمييز ضد المرأة وضمان حقها في العدالة.
من خلال هذه الخطوات، يمكن لسوريا أن تسير نحو تعزيز دور المرأة ودمجها بشكل كامل في المجتمع والسياسة، بما يضمن بناء مجتمع أكثر عدلاً وشمولية، مع التأكيد على ضمان حقوق المرأة من خلال إقرار المساواة الدستورية الصريحة، والإقرار بأنّ المواطنين متساوون في الحقوق، وتلتزم الحكومة بإزالة جميع أشكال التمييز ضد المرأة عبر تطبيق سياسات إيجابية، وتخصيص 50% من مقاعد البرلمان والمهام الوزارية للنساء.
كما يجب إصلاح منظومة القوانين التمييزية، ومنع تزويج القاصرات وتجريم العنف الأسري، مع إنشاء محاكم متخصصة أو دواوين للصلح، ومراعاة التمكين الاقتصادي والاجتماعي عبر آليات توفير ضمانات لتمويل المشاريع الصغيرة للنساء، وحماية العاملات من التمييز في الأجور.
إلزام الحكومة بتوفير مراكز إيواء لضحايا العنف الجنسي، ووضع آليات للرقابة والتنفيذ من خلال تشكيل هيئة قضائية مستقلة لمراقبة تطابق القوانين مع مبادئ المساواة الجندرية، وتشكيل هيئة وطنية للمرأة ومنحها صلاحية تقديم مقترحات وتشريعات بالإضافة إلى منحها الحق في متابعة شكاوي التمييز بحق المرأة. يجب دعم منظمات المجتمع المدني النسوية وضمان حقها في الطعن الدستوري أمام المحكمة .
إنّ توصيف الإعلان الدستوري أو الدستور كأحد أدوات السلام والسلم الأهلي والمجتمعي هو ضرورة قصوى لسوريا في هذه المرحلة الحرجة، شريطة أن يراعي الدستور السوري قوانين تصون حقوق المرأة، وخصوصية المجتمعات السورية من الناحية الدستورية، لأنّه من غير الممكن فصل مستقبل سوريا عن دستور يُعيد تعريف العقد الاجتماعي على أساس الاعتراف بالآخر وبحقوقه.
تهميش وإقصاء المرأة والمكونات من حقوقهم ليس إخفاقاً قانونياً فحسب، بل استمرار لسياسات الإقصاء التي غذَّت الصراع، ولضمان حقوقهم يجب أن يكون هناك إشراك حقيقي للنساء والفئة الشابة في كل مراحل صياغة الدساتير، والاستفادة من النماذج الناجحة، كمثال قريب النظام المطبق في إقليم شمال وشرق سوريا وكمثال بعيد دستور1996 في جنوب إفريقيا الذي جمع بين الاعتراف بالتعددية والمساواة الجندريّة.
فقط عبر دستور عادل ومُنصف لجميع المكونات وبدون إقصاء أو تهميش، يمكن لسوريا أن تتحول من دولة أنهكتها الحرب إلى سوريا المستقبل التي لطالما حلمنا بها وسعينا إليها.