ثورة المرأة أعمق ثورات الحريّة والمساواة – بيريفان خالد
ثورة المرأة أعمق ثورات الحريّة والمساواة
“يمكن أن تلتقي المرأةُ مع جوهرها من خلالِ بناءِ نظامٍ كونفدرالي لها،
فهي تمتلكُ قوّةً وتنظيماً في النضال من أجل تحرّرها،
لدرجة أنّه يمكنها أن تصلَ بنساءِ الشّرق الأوسط والمجتمع إلى الحريّة والديمقراطيّة،
وإعادة الحياة لجوهرها، حياة حرّة تليق بها وبمجتمعها”
بيريفان خالد
يتجسّد الإصرار والطموح في قضيّة المرأة الكرديّة الثوريّة، التي حققت مقاومة وملاحم بطوليّة لتضفي لونها الخاص والريادي في ثورة الحريّة وتعزيز الحياة التشاركيّة المجتمعيّة؛ في إيمانها بأنّها مليئة بالطاقات المحفّزة للسمو والرقي وصولاً لأعلى درجات الحريّة. المرأة كانت وستظل حاضرة على الدوام, سواءً في مضمار العمل والتفاني من أجل رفعة الأسرة والمجتمع، أو في مضمار النضال من أجل الحريّة والثّورة على كل ما هو تقليدي.
تعيش المرأة في شمال وشرق سوريا في دائرة خاصّة من النضال، ذلك لتغيير صورتها النمطيّة في المجتمع وتحقيق المساواة بين الجنسين، وقادت الثورة بطابعها منذ اندلاعها في شمال وشرق سوريا. بدأت فكرة تمكين المرأة للعمل في الحياة السّياسيّة والإدارية في ثورة روج آفا – شمال وشرق سوريا، إذ فتحت الإدارة الذاتيّة المجال لطرح رؤى وأفكار داعمة لتحرير المرأة، وسَعتْ لإشراكها في جميع الأعمال السياسية والإدارية التابعة لها، ويعود الفضل في تحقيق المرأة ريادة النظام الديمقراطي والتشاركي إلى مؤسسات ومنظمات نسائية كمؤتمر ستار الذي يعطي أهمية كبرى لتحرير المرأة، بالإضافة لطرح فكرة الأمة الديمقراطية المستنبطة من أفكار المفكر عبد الله اوجلان، وخطت المرأة خطوات هامة في كافة المجالات، وبرزت بدورها التنظيمي، العسكري، السياسي، الدبلوماسي، الاقتصادي، والاجتماعي، وأصبحت مثالاً تقتدي به كل نساء العالم.
ساهم مشروع الإدارة الذاتية في النهوض بدور المرأة في المجتمع نحو التطور والتقدم، ويُعتبر هذا المشروع الديمقراطي الأول من نوعه في العالم، لأنّه دعم جميع أفراد المجتمع بما فيها المرأة للوصول إلى حقوقهم كاملةً، ويُمثّل الحياة التشاركيّة الحرّة لكافة المكونات في المنطقة، ويعتمد في مضمونه على نهج وبراديغما الديمقراطية الأيكولوجية وحرية المرأة، وهو نموذج لنظام جديد ومتطور مناقض لنظام الدولة والمركزية.
فنظام الرئاسة المشتركة المطبّق في مؤسسات الإدارة الذاتية، هو تجسيد واقعي لمشاركة المرأة في كل مفاصل الإدارة بعد تهميشها وحرمانها من حقوقها لفترة طويلة. نظام الرئاسة المشتركة مهم جداً للمرأة، وكذلك للرجل، لأنّ الدول المهيمنة صيّرت الرجل أيضاً دون إرادة، وهذا النظام سيجعلهم أصحاب إرادة في اتخاذ القرارات، فهو ضمان لحريتهم وبالتالي تقوية روح المبادرة والمشاركة والمساندة لديهم، وترسيخ السياسة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وبالتالي إنهاء السّلطة والأنانية، وكذلك التخلص من العبودية.
لا تنتج الدولة والسلطة سوى العبودية والحروب والعنف والاستغلال والاحتلال والفقر، والكثير الكثير من القضايا الشائكة التي تفاقمت في يومنا هذا، وكل ذلك للتحكم بالمجتمعات حسب مصالحهم السلطوية. إنَّ نظام الرئاسة المشتركة هو البديل عن الحضارة الدولتية السلطوية، وضمان الحضارة الديمقراطية هو الضمان لسياسة ديمقراطية، وبقدر انضمام المرأة للسياسة بقوّتها التنظيمية ستصبح ديمقراطية، وكلّما صارت السياسة ديمقراطية فالمجتمع أيضاً يصبح ديمقراطياً.
تمّ تطبيق هذا النظام في مناطق روج آفا – شمال وشرق سوريا، بداية في البلديات في عام 2013، كما كانت هناك 4 رئيسات لهيئات الإدارات في الإدارة الذاتية في الجزيرة والتي تم إعلانها في عام 2014م، وفي عام 2016 تبنّت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا نظام الرئاسة المشتركة بشكل رسمي، وأصبح نظاماً معمولاً به، بدءاً من الكومينات وصولاً إلى الرئاسة العامة لكافة المؤسسات المرتبطة بكافة الإدارات الذاتيّة العسكرية منها والمدنية.
وبعد النجاح والتقدّم الذي حققه نموذج نظام الرئاسة المشتركة للإدارة الذاتية الديمقراطية، وبات ركيزة أساسية في جميع الإدارات الذاتية والإدارات المدنية في كافة مناطق شمال وشرق سوريا، أصبح يُشكّل خطراً على الأنظمة التي تزعم الديمقراطية، وهناك العديد من الدول المعادية للمنطقة، كالدولة التركية التي تسعى بكافة الأساليب إلى إلغاء نظام الرئاسة المشتركة ، بهدف إعادة ذهنية نظام الدولة المتمثل بالذهنية الذكورية السلطوية، ونشره من جديد للضغط على الشعوب الحرّة والعيش المشترك، وتسعى للقضاء على تنظيم المرأة الحرّة، ونظام الإدارة الذاتية الديمقراطية التي تتخذ من الرئاسة المشتركة أساساً لها.
إنَّ إلغاء نظام الرئاسة المشتركة، وإلغاء دور ووجود المرأة بشكل مساوٍ للرجل في جميع المجالات، هو إنكار لتضحيات النساء، وإنكار للطبيعة القائمة على الثنائية، كما أنّه يؤثر على الإدارة الذاتية التي اعتبرت مشاركة النساء في الشأن العام أحد مقومات نجاحها.
يُمكن أن تلتقي المرأة مع جوهرها من خلال بناء نظام كونفدرالي لها ولجميع بنات جنسها، فهي تمتلك قوة وتنظيم وفرصة سانحة للاستفادة منها في النضال من أجل تحررها، لدرجة أنّه يمكنها أن تصل بنساء الشرق الأوسط والمجتمع إلى الحرية والديمقراطية وإعادة الحياة لجوهرها، حياة حرة تليق بها وبمجتمعها.
يقول المفكر عبدالله أوجلان: “لقد أضاع النظام منذ زمن بعيد فرصة تقويم نفسه بالإصلاح، فما يلزم هو ثورة نسائية تُخاض في جميع الميادين الاجتماعية”، “وكيف أنّ عبودية المرأة هي أعمق العبوديات، فثورة المرأة أيضاً ينبغي أن تكون أعمق ثورات الحرية والمساواة”، و أنّ “الاستسلام للعبودية ليس قدراً محتوماً”.
إنّني نوّهت سابقاً إلى أنّ المرأة كانت في طليعة الثورة، وأخذت مكاناً بارزاً ودوراً هامّاً في كل ساحات النضال وساهمت فيها، بدءاً من الساحة العسكرية وصولاً للساحة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛ بغية التصدّي لأشرس السياسات الاحتلالية, متحدّيةً الأيدولوجيات الرجعية والقمعية المستهترة بكيان المرأة وقدسيتها.
حضور ودور النساء الكرديات الثائرات في مشهد الانتفاضات السائد في العالم لم يكن محض صدفة، بل يعود إلى كون المرأة جزءاً لا يتجزأ من عملية إحداث الثورة، ويستند إلى حقيقة أنّ صنع الثورة يستوجب لمسة فنية وإبداع أنامل تعيش فن الثورات وإبداع الانتفاض.
وهنا لا يسعني إلا أن أقول؛ بأنّ المرأة هي روح الفن هذا, فالإلهام الفني خُلقَ على صورة امرأة، فهي تنثر ألوان الفن على البشرية، خاصةً وأنّها توحي للجمال والرقة، والمرأة إذا حطّمت شيئاً من جهة، فهي تبنيه من جهة أخرى، كونها تملك عبقرية الفناء وعبقرية البناء كالطبيعة تماماً، ومن المستحيل أن نرى على مرّ العصور حضارة قامت بدونها، ولا ثورة انتصرت بدونها، ولا أجيالاً ترعرعت وغدت تصارع الحياة بدون تربيتها ومشاركتها ومناصرتها.
أخذت المرأة ضمن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا دورها في جميع المجالات؛ سواء كان في المجال السياسي أو الاقتصادي أو العسكري، وأخذت دورها الريادي في المجال الإداري، ونظّمت المرأة نفسها ضمن الإدارة الذاتية منذُ تأسيسها ، بدءاً من إقليم الجزيرة وعفرين والفرات، ثم في الإدارات المدنية في الطبقة، والرقة، ومنبج ودير الزور، كل منطقة حسب تحريرها من رجس داعش الإرهابي.
للمرأة بصمة واضحة في الإدارة بشكل عام، ولها حضور إيجابيّ وفعّال في كافة النواحي، إن كان إدارياً أو تنظيمياً، على الرّغم من المعوقات والصعوبات التي واجهتها المرأة منذ البداية ولاسيّما من ناحية الذهنية الذكورية التسلطية والمفاهيم الرجعية التي كانت تحصر دور المرأة في المنزل وأعمال بسيطة، كما لم يتم تقبل دورها آنذاك في مراكز صنع القرار بسهولة.
بالطبع؛ المرأة جزء أساسي من المجتمع وتمثل الشريحة الكبرى فيه، وقد واجهت الصعوبات والتحديات وعانت كثيرًا، ورغم الصعوبات والعراقيل والانتقادات فقد كان لها دور بارز وبصمة واضحة في جميع المجالات، وبفضل التوجيهات وتمسّك المرأة بجوهرها وبروح المسؤولية أمام حماية مكتسباتها وحماية هذا المشروع، أخذت المرأة دورًا إيجابيًّا في جميع الإدارات، إن كان عسكريًّا أو إداريّاً أو سياسيّاً أو اجتماعيّاً، واستطاعت نوعاً ما تجاوز هذه الصعوبات بروح المرأة الحرّة.
على الصعيد العسكري خاضت المرأة الكردية في ثورة روج آفا وشمال وشرق سوريا بطليعة وحدات حماية المرأة YPJ مقاومة أسطورية وملاحم خالدة، وذلك ما فتح الطريق لانضمام النساء من جميع الشعوب السورية الى مقاومتها العظيمة, وبذلك مثّلت جوهر وحدة الشعوب بعزيمة وقوة؛ لتحرير النساء وباقي الشعوب من ظلم وإرهاب مرتزقة داعش, حيث قدّمت تضحيات جمّة وسطّرت ملاحم بطولية لتحطّم الذهنية الظلامية، إذ باتت المرأة المقاتِلة ضمن وحدات حماية المرأة تتصدّر المشهد العسكري، وبات العالم يركز على انتصارات هذه الوحدات التي تتكون فقط من النساء اللاتي قاتلن بقوة وإيمان، واستشهدن في جبهات المقاومة, وخلّفن بصمة عظيمة في تعزيز ثقافة المقاومة.
منذ انطلاق معركة دحر الإرهاب التي تُعتبر آخر معركة أطلقتها قوات سوريا الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، شاركت وحدات حماية المرأة فيها واستلمت قيادة الجبهات الأمامية, ولعبت دوراً ريادياً في تحرير آلاف المدنيين من براثن متطرفي داعش الإرهابيين، ناهيك عن تحرير المئات من النساء ومن بينهن الأيزيديات اللواتي اختطفهن مرتزقة داعش خلال المجزرة التي ارتكبوها في شنكال عام 2014.
لم يقتصر دور المرأة الكردية في شمال وشرق سوريا على الدور العسكري فحسب، بل حاولت التواجد بقوة في كافة المجالات، ففي النظام الإداري للمنطقة توجد هيئات ومؤسسات قوامها المرأة، وكذلك برزت منظمات فاعلة خاصة بها تعمل في شتى مجالات الحياة سواءً في القطاع التربوي، أو في القطاع الاقتصادي أو الاجتماعي والبيئي وحتى الدبلوماسي والسياسي والفني والإعلامي. حيث أنّ المرأة في شمال وشرق سوريا أصبحت قادرة أكثر على تنظيم عملها من خلال التنظيمات المدنية، وخاصةً تلك المعنيّة بشؤون المرأة والتي تناهض أولاً العنف ضد المرأة.
وفي الختام يمكننا القول؛ إنّنا مع ثورة روج آفا- شمال وشرق سوريا بدأنا بالعديد من الخطوات التاريخية، وأنّ النساء حملن على عاتقهن مسؤولية فتح المجال أمام المرأة ليكون لها دور في تقرير مصيرها ومصير المجتمع في المحافل السياسية، والعمل على خلق مشاريع وبرامج سياسية مناهضة لمفهوم الدولة والسلطة الفردية عبر مشروع الأمة الديمقراطية، كما أنهن يكافحن حتى الآن ليصلن إلى المستوى المطلوب من أجل الحرية وتحرير المجتمع من كافة المفاهيم السلطوية. ما زلنا مثابرات في المسيرة لأنّنا نحتاج للوقت والكثير من الحوارات التي ستكون بمثابة الرجوع لحقيقة التاريخ الإنساني المبني على كينونة المرأة.
المرأة تقود كافة المؤسسات والهيئات والمراكز الأساسية، فهي صاحبة القرارات المصيرية لكافة القضايا. بالنسبة لنا فهو محطّ فخرو اعتزاز بأن يكون العقد الاجتماعي قد اتخذ القرار التاريخي الذي لم تتخذه أيّة دولة أو حكومة أو حركة أو بلد يدّعي الديمقراطية والمساواة والحرية، بالتوقيع على المادة /25/ التي تنص على ضمان حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، والتساوي الكامل في كافة الأمور بين المرأة والرجل، ويُعتبر العقد الاجتماعي ضماناً للحقوق والحريات، وتطبيقاً للديمقراطية لكافة الشّعوب المتعايشة في مناطق شمال وشرق سوريا، وسيدفع المنطقة نحو تحوّلٍ مهمٍ وتاريخي لحلّ الأزمة السوريّة كونه سيصبح نموذجاً متطوراً للشّعوب السوريّة التي عاشت لسنوات وعقود عدّة تُعاني التهميش عبر دساتير وضعيّة تخدم السّلطة والأنظمة المتعاقبة.
كما أنّ العقد الاجتماعي في شكله ومضمونه الديمقراطي سيكون قادراً على الوقوف في وجه كل الهجمات والمخططات التي تُحاك ضدّ منطقة شمال وشرق سوريا، كما سيساهم في تقديم الحلول للقضايا الشائكة في الشرق الأوسط.
بهذا الإصرار وهذه العزيمة ستكون المرأة في روج آفا قدوةً للنساء في كلّ أنحاء العالم، ونموذجاً للتحول الاجتماعي الإيجابي، ومنصةً لدعم القضايا النسائية وحقوق المرأة، ويجب علينا جميعاً أن نعمل معاً ونرفع من وتيرة نضالنا لتحقيق هذا الهدف، والوصول إلى مستوى الشعوب والمجتمعات الديمقراطية، وبناء عالمٍ يسوده السّلام والعدالة والمساواة بقيادة المرأة الحرّة .