المرأةُ المتحررةُ تعني مجتمعاً متحرراً

المرأةُ المتحررةُ تعني مجتمعاً متحرراً

“علينا تجاوُزُ النظرةِ التي تنيطُ المرأةَ بأدوارٍ

من قبيلِ الزوجةِ أو الأمِّ أو الأختِ أو الحبيبة،

مثلما الحالُ دوماً في الحداثةِ وفي الحدودِ التقليديةِ المرسومة

وعلينا أولاً توطيدُ العلاقاتِ الإنسانيةِ المنيعةِ المستندةِ إلى وحدةِ المعنى وإنشاءِ المجتمع”

 

المفكر عبدالله أوجلان

لقد اعتَبَرتُ النساءَ بمثابةِ شعبٍ منفردٍ بذاتِه. ولَطالما كنتُ متيقظاً إلى تخصيصِ المجالِ لهنّ، بالرغمِ من عدمِ مواتاةِ الظروفِ كثيراً. ولَم أترددْ في تكليفِهنّ بمسؤوليةِ المنازلِ التي كُنّ يمكُثن فيها. لكنّ بعضَ السفلةِ كانوا يستثمرون هذه المقاربة وتلك الأنشطة بمنوالٍ خاطئ، لعجزِهم عن تحليلِ وحسمِ هويةِ المرأةِ بعينٍ سليمة. إذ كانت ممارسةُ الجنسِ المحضِ أو عقدُ العلاقاتِ الساذجةِ أولَ ما يخطرُ ببالِهم عندَ التحدثِ عن المرأةِ أو الفتاة. بَيْدَ أني كنتُ أزدادُ إدراكاً للواقعِ ولأهميةِ الحقيقةِ التاريخيةِ والاجتماعية فيما يتعلقُ بالنشاطاتِ المعنيةِ بالمرأة. لقد كُنَّ يُمَثِّلن صُلبَ الأنشطةِ السوسيولوجية بالنسبةِ لي. أما قيامي في ساحتي الذاتيةِ بتقويضِ النظامِ الهرميِّ المُسَلَّطِ عليهنّ، ولو بحدودٍ جدِّ محدودة؛ فكان يُزودهنّ بالمعرفةِ أكثر من مئاتِ الكُتُبِ بأضعافٍ مضاعفة. أما مِحافلُ الحوارِ والتواصلِ التي كنتُ أعقدُها معهنّ، فكانت تمزِّقُ وضعَ الأنثى الحُرمة–الذَّكَرِ الزوجِ السائد ضمن النظامِ الذكوريِّ الحاكمِ إرباً إرباً. في الحقيقة، غالباً ما كنتُ أشعرُ بالغبطةِ والسعادةِ لتَمَزُّقِ هذا الوضع. وكنا نفتخرُ أكثر كلما تَبَيَّنَ أنّ كلَّ واحدةٍ منهنّ هي إنسانٌ عزيز وليست مادةً جنسية. كانت هذه المقاربةُ تشقُّ الطريقَ إلى الحبِّ والودِّ الصميميّ. كان عالَمُ الحبِّ والاحترامِ المتبادَل، الذي أسَّسناه في ثنايا الحقيقةِ التاريخيةِ والاجتماعية بنحوٍ خالٍ بالتأكيد من أيِّ ضغطٍ أو إرغام، كان يتحلى بقوةٍ نفيسةٍ لا ندّ لها. فظَهرَت الكثير من النساءِ الغالياتِ جداً والنوعياتِ جداً (رغمَ ظهورِ البعضِ ممن لَم يستطعْن تخطي الأنوثةِ المنحطة أو عمِلن على تلطيخِ سمعتِهن بالفتنةِ والفساد). وقد استشهدت غالبيتُهن. لذا، لن أُسَمِّيَهنّ بالبطلاتِ المجهولات، بل سأنعتُهنّ بالباسلاتِ الحقيقيات. ولَئِنْ كان ثمة حياةٌ اجتماعيةٌ ستُعاش، فهي ممكنةٌ فقط بالالتزامِ بذكرياتِهنّ الخالدة وبالسيرِ على الدربِ التي يُنَوِّرنها كشعلةٍ لا تخمد. ذلك أنّ أسمى أشكالِ الحياةِ غير ممكنةٍ إلا بالعيشِ النبيل مع المرأة على هذا النحو. أما الحَيَواتُ الأخرى، فلا تختلفُ في ناظري عن التخبطِ ألَماً في الحضيض، حتى لو كانت على سرائر من ريشِ النعام. باختصار، فقد استخلصتُ النتيجةَ التالية: “أَمسِكْ بزمامِ الجمالِ والفضيلةِ والصوابِ الإلهيِّ الموجودِ لدى المرأة، وعِشْ معها”! وها نحن قد حظينا ولو بالنذرِ اليسيرِ من هذه الحياةِ بنحوٍ متبادل، وتشاطَرناها، وعِشناها. مرامي من كلمةِ “عشناها” هو أنّ فلسفةَ الحياةِ الحرةِ لن تجدَ معناها، ولا يمكنُ تعريفُها إلا بناءً على هذا التشاطر.

يتميزُ تحررُ المرأةِ بعظيمِ الأهيمةِ خلال التحولِ إلى أمةٍ ديمقراطية. فالمرأةُ المتحررةُ تعني مجتمعاً متحرراً. والمجتمعُ المتحررُ هو أمةٌ ديمقراطية. كنا قد تحدثنا عن الأهميةِ الثوريةِ لقلبِ دورِ الرجل إلى نقيضِه. وهذا ما مفادُه: تأمينُ ديمومةِ التحولِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ بقوتِه الذاتية، تكوينُ القوةِ الأيديولوجيةِ والتنظيميةِ اللازمةِ لذلك، وبسطُ اقتدارِه السياسيِّ عوضاً عن الاستمرارِ بالنسلِ اعتماداً على المرأةِ أو التحكمِ بها. بمعنى آخر، فإنّ هذا يعني خلقَ الذاتِ أيديولوجياً وسياسياً، وتأمينَ المتانةِ الذهنيةِ والروحية بدلاً من التكاثرِ الفيزيائيّ. هذه الحقائقُ هي التي تُمَكِّنُ طبيعةَ العشقِ المجتمعيّ. أي، ينبغي –وبكلِّ تأكيد– عدم اختزالِ العشقِ إلى تبادلِ المشاعرِ والانجذابِ الجنسيِّ بين شخصَين. بل ويتعين عدم الاندفاعِ وراء الجمالياتِ الشكليةِ الخاليةِ من المعاني الثقافيّة. إنّ الحداثةَ الرأسماليةَ نظامٌ مبنيٌّ على إنكارِ العشق. وما إنكارُ المجتمع، استعارُ الفردية، إحاطةُ الجنسويةِ بكافةِ الميادين وتفشيها فيها، تأليهُ المال، إحلالُ الدولةِ القوميةِ محلَّ الرب، وتحويلُ المرأةِ إلى هويةٍ مجانيةٍ أو زهيدةِ الأجر؛ كلُّ ذلك ليس سوى دليل على إنكارِ الأرضيةِ الماديةِ للعشق.

يجبُ معرفةُ طبيعةِ المرأةِ جيداً. فاعتبارُ الغريزةِ الجنسيةِ لدى المرأةِ جذابةً بيولوجياً، والاقترابُ منها وعقدُ العلاقةِ معها بناءً على ذلك؛ يعني خُسرانَ العشقِ من البداية. فكيفما يستحيلُ علينا تسميةُ عملياتِ الاتحادِ البيولوجيِّ لدى الكائناتِ الحيةِ الأخرى بالعشق، فمحالٌ أيضاً إطلاقُ تسميةِ العشقِ على الاتحادِ الجنسيِّ القائمِ على خلفيةٍ بيولوجيةٍ لدى الإنسان. بل بمقدورِنا تسميتُه بنشاطِ التناسلِ الطبيعيِّ لدى الكائناتِ الحية. ولا داعي حتى لأنْ تَكُونَ إنساناً حتى تَقومَ بهذا النشاط. وبالأصل، فالإنسانُ الحيوانيُّ الشهوةِ يقومُ بهذا النشاطِ بأسهلِ الأشكال. وعليه، فمَن يطمحُ إلى العشقِ الحقيقيّ، يتعينُ عليه التخلي عن نمطِ التناسلِ الإنسانيِّ الحيوانيِّ ذاك. ولن نستطيعَ تصيير المرأةِ صديقةً عزيزةً ورفيقةَ دربٍ كريمة، إلا بمقدارِ تجاوُزِنا لمقاربتنا منها كموضوعِ جذبٍ جنسيّ. وأشدُّ العلاقاتِ مشقةً هي الصداقةُ والرفاقيةُ التي تتخطى الجنسويةَ مع المرأة.

هذا ويلزمُ بناءُ العلاقاتِ على خلفيةِ بناءِ المجتمعِ والأمةِ الديمقراطية، حتى لدى العيشِ مع المرأةِ في ظلِّ حياةِ الشراكةِ الندية. أي، علينا تجاوُزُ النظرةِ التي تنيطُ المرأةَ بأدوارٍ من قبيلِ الزوجةِ أو الأمِّ أو الأختِ أو الحبيبة، مثلما الحالُ دوماً في الحداثةِ وفي الحدودِ التقليديةِ المرسومة. وعلينا أولاً توطيدُ العلاقاتِ الإنسانيةِ المنيعةِ المستندةِ إلى وحدةِ المعنى وإنشاءِ المجتمع. بمعنى آخر، على أيِّ رجلٍ أو امرأةٍ التخلي عن الزوجِ والولدِ والأمِّ والأبِ والحبيبِ إنْ دعَت الحاجة، دون أنْ يتخلى بتاتاً عن دورِه في المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيّ. إنّ الرجلَ القويَّ لا يتوسلُ قطعياً إلى المرأة، ولا ينساقُ وراءَها، ولا يضربُها أو يشتمُها، ولا يحسدُها. وحتى لو كانت حبيبتَه أو زوجتَه، فعندما تطلبُ منه الفراقَ أو الطلاق، فلا يؤنّبُها حتى ولو برفعِ الإصبع. بل يساعدُها على العيشِ كما تشاء، بعدَ توجيهِ انتقاداتِه لها إنْ وُجِدَت. ولَئِنْ كان يتطلعُ إلى العيشِ مع المرأةِ بعلاقةٍ ذاتِ دعائم أيديولوجيةٍ واجتماعيةٍ وطيدة، فعليه تركُ موضوعِ الاختيارِ والبحثِ للمرأة. فبقدرِ ما ترتقي المرأةُ بمستوى حريتِها واختيارِها الحرِّ وبقابليةِ الحِراكِ اعتماداً على قوتِها الذاتية، فسيَكُونُ العيشُ معها أجمل وأثمن بالمِثل.

لا يُمكنُ عيشُ الحياةِ النديةِ الحرةِ المثلى بين المرأةِ والرجلِ ضمن ظروفِنا الراهنةِ وفي واقعِنا الاجتماعيّ، إلا بعدَ إنجازِ النجاحاتِ العظمى في أنشطةِ بناءِ الأمةِ الديمقراطيةِ الشاقة. ولا مفرّ من أنْ يُعاشَ أو يَكُونَ دياليكتيكُ العشقِ القَيِّمِ أفلاطونياً بنسبةٍ عليا، في واقعِ المجتمعِ الكرديِّ السائدِ ضمن شروطِ كردستان الحالية. وعشقٌ كهذا هو عشقٌ ثمين. ذلك أنّ العشقَ الأفلاطونيَّ هو عشقُ الفكرِ والعمل. ومن هنا تأتي قيمتُه. في حين إنّ العيشَ كلَّ لحظةٍ مع أجملِ نساءِ العالَمِ ليس عشقاً. ولأنه ليس بعشقٍ أساساً، فسوف تُستَعرَضُ شتى أشكالِ الازدواجيةِ بعد فترةٍ وجيزةٍ من الاتحاد، نظراً لانطلاقِه من الحاجةِ إلى علاقةٍ لا معنى لها أو مبنيةٍ على أرضيةٍ بيولوجية. مقابل ذلك، فإنّ الكثيرَ من النساءِ والرجالِ اليافعين مِمّن كانوا عبيدَ الأمسِ ولَم يتواجدوا معاً أبداً، قد أثبَتوا مدى كونِهم شخصياتٍ مهيبةً ورصينةً ضمن الممارسةِ العمليةِ لكلٍّ من PKK وKCK؛ وذلك من خلالِ إنجاحِهم أعمالاً عظيمةً جنباً إلى جنبٍ وبعشقٍ أفلاطونيٍّ خلال بناءِ الأمةِ الديمقراطيةِ لشعبِهم. ولدينا المئاتُ من خيرةِ شهدائِنا الشجعان في هذا المضمار. إنهم أبطالٌ بواسل نجحوا في التحولِ إلى أمثالِ مم وزين. وبهذه المناسبة، فإني أَعتَبِرُ التطرقَ إلى تجاربي الشخصيةِ في هذا الصددِ دَيناً عليَّ الإيفاءُ به. وحسبما يخطرُ ببالي، فقد اعتَبَرتُ مصادقةَ الفتياتِ في أولى ألاعيبِ الطفولةِ ضرورةً من ضروراتِ الحرية. كنتُ شعرتُ وكأني أخسرُهنّ كلّهنّ بعد زواجِهنّ، بما في ذلك أخواتي الكُبرَيات. وبعدَما كبرتُ قليلاً وواجهتُ أخلاقَ الشرفِ الصارمةَ في المجتمع، انزويتُ على نفسي كلياً. لكنّ هذا الانزواءَ كان مشحوناً بالاغتياظِ والاستياء. إذ كنتُ أعي لتَوّي أننا خسرنا النساءَ منذ أمَدٍ سحيق. لَم أَرضَ قطعياً بالوضعِ القائمِ بين الجنسَين. ولَطالما كنتُ أعتقدُ أنّ هذا الوضعَ مبنيٌّ على الأخطاء. ولذلك لَم أَقبَلْ به أبداً. ولَم أَشعرْ بالرغبةِ في العيشِ مع المرأةِ اعتماداً على هذا الوضع. وعلى ما أعتَقد، فقد انتبهَت أمي لحالتي هذه باكراً عندما قالَت لي: “لن تَكُونَ مع المرأةِ بحالِكَ هذه”. وبالفعل، أنا أيضاً لَم أرغبْ بتاتاً بأنْ تَكُونَ لي امرأة. وحتى لو شئتُ فقد كنتُ لا أعرفُ كيف سأعيشُ معها. هكذا، فكلما كبرتُ كنتُ أتحولُ إلى طفلٍ ضخم. كان الرجالُ حولي قد أصبحوا ذئابَ النساء. أما أنا، فبقيتُ مسكيناً بائساً. وبالكادِ أتذكرُ اهتمامَ النساءِ بي. فعلى أغلبِ الظنِّ أنهنّ كُنّ ينظُرنَ لي وكأني “حدثٌ ميؤوسٌ منه”. أو بالأصح، كُنّ يُشعِرنني بأني مخلوقٌ محبوبٌ ولكني لا أُواكِبُ عصري. فبينما كان الجميعُ يَجِدُ لنفسِه قريناً وحبيباً، كنتُ عاجزاً حتى عن التقاطِ أنفاسي في هذا الشأن. كما لَم يَكُ لي عشقٌ أو هيامٌ بأمورٍ أخرى كعشقِ الربِّ أو ما شابه. الأمرُ الوحيدُ الذي كنتُ مهتماً به هو الحظيُ بصداقاتٍ حسنةٍ وفاضلة.

كنتُ أودُّ تحليلَ كلَّ ما هو معنيٌّ بالمرأةِ متجسداً في شخصيتِها. زِدْ على ذلك أني كنتُ أتطلعُ إلى صياغةِ ردودٍ جذريةٍ بشأنِ الحريةِ والمساواة فيما يتعلقُ بالعلاقاتِ بين الجنسَين، والتي كانت تفرضُ نفسَها طردياً.

أما إشراكُ النساءِ في حقلِ التنظيمِ العسكريّ، حيث تطغى عليه البصماتُ والأيديولوجيةُ الذكوريةُ الحاكمةُ مئةً بالمئة؛ فكان خطيراً للغاية. لقد كان ذلك أَشبَه بوضعِ الديناميتِ في صميمِ هذا الحقل. فمفاهيمُ الرجالِ والنساءِ السائدة لَم تَكُنْ تذهبُ أبعدَ من المفهومِ الجنسويِّ التقليديِّ الفظ. حيث لَم تتخطَّ مفاهيمُهم إطارَ استثارةِ بعضِهم بعضاً بإشارةٍ من العينِ والحاجب. لقد جلبتُ البلاءَ الأكبرَ لنفسي بنفسي. فحتى الزعيمُ الأنصاريُّ الشهيرُ تشي غيفارا لَم ينبذ الإشباعَ الجنسيّ. بل وقَبِلَ به كحاجةٍ ضروريةٍ عندما ضمَّ النساءَ إلى صفوفِ الأنصار. لكنّ تَقَبُّلي لهذا الأمر، وفرضَ قبولِه على نفسي وضمن النشاطاتِ التنظيمية، وخاصةً ضمن النشاطاتِ العسكرية؛ كان سيعني القضاءَ على أنفسِنا تلقائياً ومنذ البداية.

في حين كان تَركي المرأةَ وشأنَها يكفي بمفردِه لتصفيتِنا حسبَ وضعِنا القائم. إذ كنتُ أفتقرُ إلى الرفيقِ أو الفريقِ الذي يتحكمُ بالغرائزِ الجنسيةِ أو يُسَخِّرُها في خدمةِ المصالحِ التنظيميةِ وفقَ فنِّ السياسة الصحيح. كما كان إقصاءُ المرأةِ كلياً، وإنجازُ الثورةِ من دونِها أمراً غيرَ صائبٍ بتاتاً، سواء بالنسبةِ لي أم على صعيدِ التنظيم. وعليه؛ يبقى أمامنا خيارٌ آخر: فـ”التقييدُ بالزواج” على حدِّ التعبيرِ الشعبيّ، أي “الزواجُ الثوريُّ” الذي صَيَّرَته التنظيماتُ اليساريةُ الثوريةُ موضةً رائجة؛ قد يَكُونُ حلاً. لكنني لَم أَكُ أنظرُ بعينِ الصوابِ إلى هذه الأساليب. ذلك أنه، وبالإضافةِ إلى إفراغِها الطاقةَ الثورية من محتواها، فحتى الظروفُ الفيزيائيةُ كانت لا تسمحُ بهذا النوعِ من الزواج، والذي سيؤول إلى إرساءِ سُفُنِنا في موانئِ أوروبا كلاجئين، أو إلى الانخراطِ بين الشعب متطفلين عليه باسمِ التنظيم. وهذا ما كان يعني بدورِه شكلاً آخر من أشكالِ التصفوية.

لكنّ الطريقَ التي اختَبَرتُها تجسَّدَت في العزمِ على تكريسِ نمطٍ من العلاقةِ لَم يَجْرِ التفكيرُ به في ثقافةِ الشرقِ الأوسط، بل ولَم يخطرْ على البالِ بتاتاً. ألا وهي المجازفةُ والصراعُ حتى آخِرِ رمق، بسلوكِ طرازٍ من الحياةِ ضمن إطارٍ من العلاقاتِ والتناقضاتِ الدياليكتيكيةِ خارجَ نطاقِ الزواجِ الذي يُعَدُّ ضرورةً اضطرارية. كنتُ أرمي من ذلك إلى تعريفِ الجنسَين، وبالأخصِّ المرأةِ على وجودِها الإنسانيِّ الحقيقيّ، وعلى دربِ تحررِها. فكان هذا امتحاناً عظيماً للروحِ الثوريةِ الداخلية. فكثيراً ما استُثمِرَ في نوايا مُغرِضة فانخدعَ المئات. إلا إنّ هذه النشاطاتِ قد أَفرَزَت حقاً المرأةَ الشجاعةَ والحميمةَ والعاقلةَ والجميلةَ أيضاً. فقَدَّمنا عدداً جماً من خيرةَ فتياتِنا الذكياتِ والحسناواتِ على دربِ الشهادة. وأمسَيتُ وكأنني أخلقُ نفسي يومياً كي أكونَ جواباً لحسراتِهنّ وآمالِهن. لكنّ الألمَ ظلّ ينهشُ فيَّ لتقصيري في الإيفاءِ بذلك.

كنتُ قد أنجزتُ اللقاءَ التاريخيَّ الحرَّ مع المرأة. ولكن، لَم يُقَدَّر لي أبداً أن أنجحَ في الوصولِ إلى “شيرين” كـ”فرهاد” معاصر. إلا إنني بالمقابل لَم أُؤمِنْ كثيراً بجدوى تحقيقِ اللقاءِ وتجاوُزِ الوضعِ المنصوصِ عليه في هذه الحكايةِ العامرةِ بالشَّوقِ والحنين. إذ أدركتُ حينها أنّ اللقاءَ في ظلِّ الظروفِ السائدة (في أحضانِ النُّظُمِ المهيمنة) يعني موتَ العشق. وعليه، باتَ التمكنُ من العملِ بعشقٍ وهيامٍ لأجلِ حلِّ كافةِ القضايا الاجتماعية أمراً مهماً. أو بالأصح، كانت أخلاقُ العشقِ الحقيقيّ تعني القدرةَ على الكفاحِ تجاه القضايا الاجتماعيةِ والتمكنَ من حلِّها. فمَن لا يتحلى بتلك المقدرة أو هو عاجزٌ عن الاتسامِ بها، لا يُمكنُه أنْ يمتلكَ العشقَ أو يتصفَ بأخلاقِ العشق.

إنّ الشرطَ اللازمَ لتحَقُّقِ العشقِ حسبَ فلسفةِ هيغل، هو تَحَقُّقُ توازنِ القوى بين المرأةِ والرجل. هذا الشرطُ الضروريُّ، ولكنْ غيرَ الكافي، يعَبِّرُ عن المرأةِ القوية. نحن لا نتحدثُ هنا عن توازنِ القوى الفظةِ والمادية. بل عن توازنِ القوى الجسديةِ والنفسيةِ والاجتماعية. بمعنى آخر، لا عشق للمرأةِ القابعةِ تحت نيرِ أقدمِ وأعمقِ أشكالِ العبودية. ولكي أستطيعَ ملءَ مضمونِ هذا الرأي الفلسفيِّ الذي له نصيبُه من الصحة، ولأتمكنَ من تعزيزِه على أرضِ الواقع؛ فقد أَولَيتُ الأهميةَ الأولى لتقويةِ المرأةِ التي بين صفوفِنا وتعبئتِها من جهاتٍ عدة (أيديولوجياً، سياسياً، أخلاقياً، جمالياً، جسدياً، بل وحتى عسكرياً “لأجلِ الدفاعِ عن الذات”، واقتصادياً، ورياضياً، وهلمَّ جرة). لذا، كنتُ أهتمُّ بالمرأةِ وأَتعاملُ معها باحترامٍ وثَبات. كنتُ أعلَمُ يقيناً أنّ الطريقَ إلى احترامِ المرأة وتقديرِها والتعاملِ معها بثبات، وأنّ السبيلَ إلى نيلِ ودِّها وحبِّها والوصولِ إلى الصائبِ والحسَنِ والجميلِ حيالَها؛ إنما تمرُّ من مساندتِها وتعزيزِ شأنِها. وتأسيساً عليه، ما كان للعشقِ أنْ يتحققَ من دونِ تقويةِ المرأة. كنتُ مقتنعاً تماماً بصحةِ هذا التعريف، وواثقاً كلَّ الثقةِ أنه موضوعٌ لا يَحتَمِلُ أيَّ تَراخٍ أو تنازُل. ومع اكتسابِ هذه المهارةِ والقوةِ تدريجياً، كانت نشاطاتُ المرأةِ تغدو قَيِّمةً وثمينة. فكانت الفتياتُ يُحَدِّقن إليَّ ويَحضُنّني وكأنهن استيقظنَ للتوِّ من سُباتٍ بل من كابوسٍ مزعجٍ دامَ لآلافِ السنين. ورغمَ الحيطةِ الفائقةِ التي أتحلى بها أثناء تناولي لهذه المواضيع، فحتى أنا لَم أترددْ في احتضانهنّ بودٍّ وشوق، وفي جعلِهنّ تاجَ رأسي.

وقد فرضَ مفهومان خاطئان نفسَيهما دوماً في هذا المضمار: حيث أَنهَكَنا أولئك الذين سلكوا مواقفاً منحطةً كلما سنحَت لهم الفرصة، بهدفِ استملاكِ بعضِهم بعضاً بشكلٍ تقليديٍّ وبإشارةٍ من العينِ والحاجب انطلاقاً من جنسويةٍ فظةٍ تفتقرُ إلى أيةِ أرضيةٍ أيديولوجيةٍ أو سياسيةٍ أو عملية. ومقابل ذلك، فسلوكُ الزهدِ الفظّ، أي محاولةُ تجاوُزِ تأثيراتِ الجنسانيةِ بالكبت، لَم يَكُنْ يَنُمُّ عن نتيجةٍ أبعدَ من تعقيدِ المشكلةِ أكثر. من هنا، باتت النشاطاتُ المُسَيَّرةُ على ضوءِ الحريةِ والمساواةِ والديمقراطية معياراً قويماً للحريةِ المجتمعية. وقد أَثبَتَت التطوراتُ الميدانيةُ مدى صحةِ وحُسنِ وجمالِ المقاربةِ المبدئيّةِ الراسخة.

لقد تحوَّلَت الحياةُ العصريةُ السائدةُ إلى فخٍّ يحيطُ كلياً بالمرأةِ التي هي أقدمُ عبد. حيث أُقحِمَت المرأةُ في عهدِ الرأسماليةِ في وضعٍ سيَكُونُ من الصائبِ وصفُها فيه بـ”مَلِكة السلع”. فهي ليست عاملةً مجانيةً يُبقى عليها كـ”ربةِ منزل” فحسب. بل وهي أرخصُ عاملةٍ وأداةٌ رئيسيةٌ لتخفيضِ الأجور خارجَ المنزلِ أيضاً. إنها العنصرُ الأولُ في لائحةِ التشغيلِ الناعم، وآلةٌ إنجابيةٌ صناعيةٌ تضخُّ الأجيالَ الجديدةَ للنظامِ القائم. وهي تاجُ رأسِ صناعةِ الدعاية، ووسيلةُ تطبيقِ السلطةِ الجنسوية. كما إنها أداةُ اللذةِ والسلطةِ اللامحدودتَين لجميعِ الرجالِ التسلطيين، بدءاً من الإمبراطورِ العالميِّ إلى الإمبراطورِ الصغيرِ داخل الأسرة. وهي المادةُ الشيءُ التي تَمنحُ السلطةَ لِمَن لا سلطةَ له. وهكذا، لَم تُستَثمَرْ أو تُستَغَلّ المرأةُ في أيِّ مرحلةٍ من التاريخِ بقدرِ ما هي عليه في عهدِ الحداثةِ الرأسمالية. ونظراً لكونِ العبودياتِ الأخرى (عبودية الطفل والرجل) قد تصاعدت باقتفاءِ أثرِ عبوديةِ المرأة، فإنّ ما فرضَته الرأسماليةُ على الحياةِ الاجتماعيةِ (فيما عدا طبقةِ الأسياد) هو استعبادُ الجميعِ وتصييرهم أطفالاً. بمعنى آخر، فقد حُوِّلَت الحياةُ الاجتماعيةُ في مجتمعِنا الحاليِّ إلى طفلٍ أَشبَهُ ما يكون بالعجوزِ الصائرِ طفلاً من جهة، وجرى تأنيثُها من الجهةِ الأخرى. وتتجلى هذه الحقيقةُ في عبارةِ هتلر التي قالَ فيها “الشعوبُ والمجتمعاتُ كالنساء، تحبُّ الطاعةَ وتَلَقّي الأوامر”. أما العائلةُ المتشكلةُ حول المرأة، والتي تُعَدُّ من أقدمِ مؤسساتِ المجتمع؛ فتعاني الانحلالَ بالتمحورِ حول المرأةِ أيضاً، ولكنْ بصورةٍ تامةٍ هذه المرة. فما يُشتِّتُ العائلةَ هو نمطُ التراكمِ في الرأسمالية. فكيفما أنّ هذا النمطَ يتحققُ تناسباً مع مدى استهلاكِه للمجتمع، فإنّ النتيجةَ المتوقَّعةَ بالمقابل هي أنه لن يستطيعَ استهلاكَ المجتمعِ وتذريرَه (تحويله إلى ذَرّات)، إلا تناسباً مع مدى تفكيكِه للأسرة، التي هي خليةٌ أوليةٌ في المجتمع.

مهما ارتقى مستوى التقدمِ الطبيّ، فسيظلُّ عاجزاً عن وقفِ تفاقمِ الأمراضِ المستشريةِ بين المجتمع كالتيهور. بل إنّ  التقدُّمَ الطبّيّ بالذات برهانٌ قاطعٌ جدلياً على مدى تطورِ الأمراض. ثاني نتيجةٍ مهمةٍ يُتَوَقَّعُ حدوثُها، هي تَسَبُّبُ النظامِ الرأسماليِّ بخنقِ أفرادِ المجتمعِ أيضاً بالأمراضِ العصبيةِ والسرطانية، نظراً لاتسامِ بنيتِه بمثلِ هذه الأمراض. فالقومويةُ والدينويةُ والسلطويةُ والجنسويةُ جِيناتٌ ذهنيةٌ وعاطفيةٌ في الرأسمالية، تُنتجُ الأمراضَ على الدوام، سواء مؤسساتياً أم فردياً. وما الأمراضُ البنيويةُ المتزايدةُ سوى مؤشرٌ على الأمراضِ الذهنيةِ والنفسية، وخلاصةٌ طبيعيةٌ يؤولُ إليها المجتمعُ الذي قامت الرأسماليةُ بتفكيكِه وبعثرتِه.

إنّ نظامَ التعليم في الحياةِ الاجتماعيةِ العصريةِ مُكَلَّفٌ بتنشئةِ نمطٍ فرديٍّ مضادٍّ للروحِ المجتمعية. حيث تُطَبَّقُ الحياةُ الليبراليةُ الفرديةُ وحياةُ مواطنِ الدولةِ القوميةِ بعدَ مَنهَجَتِهما وضبطِهما بموجبِ احتياجاتِ الرأسمالية. فشُكِّلَت بذلك صناعةٌ باهرةٌ لهذا الغرض، أُطلِقَ عليها اسمُ “قطاع التربية والتعليم”. إذ يتعرضُ الفردُ للقصفِ الذهنيِّ والروحيِّ وعلى مدارِ الساعةِ ضمن هذا القطاع، كي يتحولَ إلى كائنٍ مناهضٍ للمجتمعية، ومجُرَّدٍ من كينونتِه الأخلاقيةِ والسياسية. كما ويتمُّ إفسادُ طبيعةِ المجتمعِ جذرياً عبر الأفرادِ الصائرين منهمكين بالاستهلاك ومُولَعين بالمالِ والجنس وشوفينيين ومتملقين للسلطة. بمعنى آخر، يوَظَّفُ التعليمُ والتدريبُ لتدميرِ المجتمع، لا لتفعيلِه بشكلٍ سليم. من هنا، فالحقيقةُ التي أَثبَتَتها التحليلاتُ التي يمكننا الاستفاضةُ بها بشأنِ الحياةِ الاجتماعية، هي وصولُها منذ أمدٍ بعيدٍ حدَّ “المجتمع أو العدم”. ستَبقى طبيعةُ المجتمعِ برمتها غيرَ مُنيرة، ما دامت طبيعةُ المرأةِ تَعُومُ في الظلامِ الدامس. فالتنويرُ الحقيقيُّ والشاملُ للطبيعةِ الاجتماعيةِ غيرُ ممكنٍ إلا بالتنويرِ الحقيقيِّ والشاملِ لطبيعةِ المرأة. كما أنّ تسليطَ الضوءِ على وضعِ المرأةِ بدءاً من تاريخِ استعمارِها كأنثى إلى استعمارِها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وذهنياً؛ إنما سيُقَدِّمُ مساهماتٍ كبرى في تسليطِ الضوءِ على جميعِ مواضيعِ التاريخِ الأخرى، وعلى المجتمعِ الراهنِ بكافةِ جوانبه.

لا شك أنّ كشفَ النقابِ عن وضعِ المرأةِ هو أحدُ أبعادِ المسألة. والبُعدُ الأهمُّ معنيٌّ بقضيةِ التحررِ والخلاص. بمعنى آخر، فحَلُّ القضيةِ يتميزُ بأهميةٍ أكبر. لَطالما يُقالُ أن مستوى حريةِ المجتمعِ العامةِ متناسِبٌ طرداً مع مستوى حريةِ المرأة. المهمُّ هو كيفيةُ ملءِ جوفِ هذه العبارةِ الصحيحة. ذلك أن حريةَ المرأة ومساواتَها لا تُحَدِّدُ حريةَ المجتمعِ ومساواتَه فحسب. بل إنها تقتضي ترتيباتِ النظريةِ والمنهاجِ والتنظيمِ والممارسةِ اللازمة. والأهم من ذلك يَدُلُّ على استحالةِ وجودِ السياسةِ الديمقراطيةِ بلا المرأة، بل وستبقى السياسةُ الطبقيةُ ناقصةً، وسيستحيل استتباب السلمِ وحماية البيئة حينذاك.

تؤدي المرأة دوراً استراتيجياً بالنسبة للنظامِ القائمِ في الإكثارِ من الاستغلالِ والسلطة. فالرجلُ كممثلِ الدولةِ ضمن الأسرة، يَعتَبِرُ نفسَه صاحبَ الصلاحياتِ والمسؤولَ عن ممارسةِ الاستغلال والسلطةِ معاً على المرأة. حيث تُحَوِّلُ كلَّ رجلٍ إلى جزءٍ من السلطةِ من خلالِ تعميمِ القمعِ التقليديِّ على المرأة، فتَظهَرُ على المجتمعِ بهذه الطريقةِ أعراضُ مَرَضِ التحوُّلِ إلى سلطةٍ قصوى. فوضعُ المرأةِ يَمُدُّ مجتمعَ الهيمنةِ الرجوليّةِ بمشاعرِ وأفكارِ السلطةِ اللامحدودة. من جانبٍ آخر، فثَمَنُ جميعِ السلبياتِ تَدفَعُه المرأةُ الكادحة، بل المرأةُ نفسُها؛ بدءاً من تَكَوُّنِ العامِل المتنازِل إلى البطالة، ومن ظاهرةِ العُمّاليةِ المجانية إلى العملِ بأبخسِ أَجر. أيديولوجيةُ الليبراليةِ الجنسويةُ التوفيقيةُ لا تَكتفي بتحريفِ هذا الوضعِ وإظهارِه مُغايِراً عما هو عليه، بل وتُحَوِّلُه إلى بدائل أيديولوجيةٍ مُصاغةٍ للنساءِ بِحرص. إنه أَشبَهُ بِفَرضِ تَقَبُّلِ عبوديتِها بِيَدِها. بالإمكان القول أنه باستغلالِ النظامِ للمرأةِ أيديولوجياً ومادياً لا يتغلبُ فقط على أَشَدِّ أزماتِه وطأة، بل ويُرَسِّخُ وجودَه ويَضمَنُه أيضاً. المرأةُ بمثابةِ أقدمِ وأحدثِ أمةٍ مستعمَرةٍ في تاريخِ المدنيةِ عموماً، وفي ظلِّ الحداثةِ الرأسماليةِ على وجهِ الخصوص. وإنْ كان هناك وضعٌ متأزِّمٌ من كلِّ النواحي، ويستحيلُ الاستمرارُ به، فإنّ حِصّةَ استعمارِ المرأةِ تتصدرُ أسبابَ ذلك.

تُسَلِّطُ البحوثُ البيولوجيةُ الضوءَ على الدورِ الجذريِّ للمرأةِ ضمن النوعِ البشريّ. فالمنقطعُ عن الجذعِ الأصليِّ هو الرجل، لا المرأة. فعاطفيةُ المرأةِ تتأتى من عدمِ انحرافها المفرطِ عن جدليةِ التكوينِ الكونيّ. ونخصُّ بالذِّكرِ الإبقاءَ عليها في المنزلةِ السفلى ضمن سياقِ المدنية، والذي أثَّرَ في تَحَلِّيها بِبُنيَتِها هذه، وصَونِها إياها إلى يومنا الراهن. أما عقلُ المرأةِ المفعمُ بالعواطفِ والمشاعر، فيُرادُ عَكسُه دائماً على أنه “ناقص”، وأنه بالذات طابعُ المرأة. لقد سَيَّرَ العقلُ الرجوليُّ عِدَّةَ حملاتٍ تمشيطيةٍ كبرى على المرأة، ولا يزال.

أولها؛ تصييرُها أولَ عبدٍ منزليٍّ له. وهذا السياقُ مشحونٌ بالسحقِ والمجازرِ والإهانةِ والقمعِ والاعتداءِ والاغتصابِ الرهيب. ودورُها المعتَرَفُ به مجردُ إنتاجِ “النسل والذُّرِّية” لنظامِ المُلكِيةِ قدرَ الحاجة. فأيديولوجيةُ السلالةِ مرتبطةٌ بوثوقٍ بليغٍ بهذه الذُّرِّية. والمرأةُ ضمن هذا الوضعِ مُلكٌ مطلق. إنها مُلكُ وشرفُ صاحبِها، لدرجةِ استحالةِ الكشفِ عن وجهها لغيره.

ثانيها؛ كونها أداةً جنسية. الجنس ُمعنيٌّ بالتناسلِ في الطبيعةِ بأكملها، حيث يَهدِفُ إلى استمرارِ الحياة. في حين أنه لدى الإنسانِ الرجلِ أُنِيطَ الجنسُ والشهواتُ الجنسيةُ الشَّبَقِيَّةُ وتَطَوُّرُها المنحرفُ بدورٍ أصليّ؛ وخاصةً بالتزامنِ مع أَسْرِ المرأة، وبشكلٍ أخص ّوأثقل وطأةً مع مرحلةِ المدنية. ففتراتُ التزاوُجِ المحدودةُ جداً لدى الحيوانات (غالباً ما تَكُونُ سَنَوِيّة)، يُرادُ تصعيدُها لدى الإنسانِ الرجلِ لدرجةِ ممارستِها طيلةَ أربعٍ وعشرين ساعة في اليومِ تقريباً. المرأةُ في راهننا هي الأداةُ التي يُجَرَّبُ عليها الجنسُ والشهوةُ الجنسيةُ والسلطةُ الجنسيةُ بشكلٍ دائم، بحيث غدا الفصلُ بين البيوتِ العامةِ (الماخور) والخاصةِ فاقداً معناه. فكلُّ مكانٍ بات بيتاً عاماً وخاصاً، وكلُّ امرأةٍ باتت امرأةً عامةً وخاصة.

ثالثها؛ كونها كادحاً بلا أُجرة أو مَقابِل. ويُفرَضُ عليها تنفيذُ أصعبِ الأعمال. أما ثمنُ ذلك، فهو الإرغامُ على أنْ تَكُونَ “ناقصةً” أكثر قليلاً. لقد حُطَّ من شأنِها لدرجةٍ باتت هي نفسُها تَقبَلُ فعلاً أنها “ناقصةٌ” جداً نِسبةً للرجل، فشَرَعَت بالتشبثِ بِيَدِ الرجلِ وسيادته، وتَعضُّ عليها بالنواجذ.

رابعها؛ جعلُها أدقَّ أنواعِ السلع. يقولُ ماركس في المال “إنه مَلِكُ السلع”. في الحقيقة، إنّ هذا الدورَ مُناطٌ بالمرأةِ أكثر. أي أنّ المَلِكَةَ الحقيقيةَ للسلع هي المرأة. إذ، ما مِن علاقةٍ لا تُعرَضُ فيها المرأة. وما مِن ميدانٍ لا تُستَخدَمُ أو تُستَثمَرُ فيه المرأة. اللهمَّ إلا بشرطٍ وحيد، ألا وهو أنه، ورغمَ وجودِ ثمنٍ مُصادَقٍ عليه مقابلَ كلِّ سلعة، فهو لدى المرأةِ عبارة عن قلةِ احترامٍ مُهَوِّلة، بدءاً من وقاحةِ “عشقٍ” فظيع، وصولاً إلى كذبةِ “كدح الأمهات لا يُعَوَّض”.

وعقلُ الرجل (عقلُ ألفِ حيلةٍ وحيلة، عقل الكذبِ ووحشيةِ الحربِ والانحرافِ الأيديولوجي، وباختصار، العقلُ المدمِّرُ للمجتمعِ وبيئته، والعقلُ التحليليُّ الذي لا يُصدِر صوتاً عدا صوتَ الصفيحةِ التَّنَكِيّة)، ما الذي لا يستطيع فِعلَه حيالَ المجتمعِ البشريِّ وبيئته، بعدما صَيَّرَته المدنيةُ وحشاً شرساً، وارتأى هذه المعاملةَ مناسِبةً للمرأةِ التي باتت لا تَقدِرُ العيشَ بدونه! إنّ إيقافَ هذا العقلِ غيرُ ممكن، إلا بِوَضعِ الأخلاقِ الاجتماعيةِ والسياسةِ اللتَين دمَّرَهما في مكانهما المناسبِ أولاً. أو بالأحرى، لا يُمكِنُ أنْ تَكُونَ البداية، إلا بالتأسيسِ على ذلك. وبسببِ الدورِ الذي تَكَفَّلَ به العقلُ التحليليُّ في جميع السلبيات بأبعادِه التي بلغها فحسب، تَنتَصِبُ أمامنا أهميةُ تطويرِ نظامِ الحضارةِ الديمقراطيةِ تجاه نُظُمِ المدنيةِ كَمَهَمَّةٍ تتسمُ بكلِّ حِدَّتِها. إنّ الأصلَ هو إيلاءُ القيمةِ الكبرى للعقل. العقلُ الاجتماعيُّ حقيقةٌ واقعة. والمجتمعُ ذاته هو الميدانُ الذي يتكاثفُ فيه العقل. لذا، لا معنى لليأسِ بتاتاً. ثمة صوتٌ آخر منبثقٌ من كافةِ المقدسات، ويقولُ “لقد منحناكم العقل، وما عليكم سوى استخدامَه في سبيلِ الخير، لا الشر. حينها، ستَحظَون بكلِّ ما أنتم بحاجةٍ إليه!”. علينا العملَ بهذا الصوت، واستيعابَه حقاً. هذا ما يقولُه صوتُ الضميرِ المسمى بِفِطرةِ المجتمعِ السليمة، وصوتُ الأخلاقِ التي لا غنى عنها. وهذا ما يقولُه الصوتُ الساعي لتلبيةِ متطلباتِ نشرِ صدى فنِّ الحريةِ المسماةِ بالسياسةِ الاجتماعية. ونشاطاتُ المجتمعِ الديمقراطيِّ هي الممارسةُ العمليةُ لهذا الصوت. بينما نظامُ الحضارةِ الديمقراطيةِ هو نظريةُ هذا الصوت.