أيهما يَحكُم بشكلٍ أفضل، الأخلاقُ أم القانون؟
أيهما يَحكُم بشكلٍ أفضل، الأخلاقُ أم القانون؟
“كَون القانونِ حُكماً بالإرغام يُوَضِّحُ الحقيقةَ إلى حدٍّ بعيد
فكما هو معلوم، يُصاغُ تعريفُ القانونِ بأنه “تنفيذُ القواعدِ بإرغامِ الدولة”
ولكن، لا تنفيذَ بالإرغامِ في الأخلاق
وبالأصل، أيةُ قاعدةٍ لا تُستَساغ لا يُمكِن تسميتَها بالقاعدةِ الأخلاقية
واضحٌ أنّ الكَفَّةَ التي سيَطغى عليها الفاضلُ سَتَكونُ كفَّةَ الأخلاقِ بكلِّ تأكيد
لدى المقارنةِ بين الحُكمِ القانونيِّ المرتكزِ إلى العنفِ والإرغام وبين إدارةِ الأخلاق”
المفكر عبد الله أوجلان
ينبغي أنْ تَكُونَ المسؤوليةَ الأساسيةَ على عاتِقِ المرأةِ فيما يتعلقُ بحلِّ قضيةِ المرأةِ المُكتَسِبَةِ أبعاداً عملاقةً منذ الآن، وبحلِّ القضيةِ الديموغرافيةِ التي تُعَدُّ السبيلَ الأوليَّ لِسَدِّ الطريقِ أمامَ الدمارِ الأيكولوجي. والشرطُ الأولُ في ذلك هو حريةُ ومساواةُ المرأةِ تماماً، وحقُّها في مُزاوَلَةِ السياسةِ الديمقراطيةِ كلياً، وحقِّها في أنْ تَكُونَ صاحبةَ الإرادةِ والكلمةِ الحاسمةِ في جميعِ العلاقاتِ المعنيةِ بالجنس. وفيما خلا هذه الحقائق، لا يمكن تحقيقَ خلاصِ وحريةِ ومساواةِ المرأةِ والمجتمعِ والبيئةِ بكلِّ معانيها، كما لا يَحتَمِلُ تشكيلَ السياسةِ الديمقراطيةِ والسياسةِ الكونفدراليةِ طبعاً.
كما تؤدي المرأةُ دوراً حياتياً ومصيرياً من حيث أخلاقياتِ وجمالياتِ الحياةِ على ضوءِ الحريةِ والمساواةِ والدمقرطة، كَونها العنصرَ الأصليَّ للمجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي. علمُ الأخلاقياتِ والجمالِ جزءٌ لا يتجزأ من علمِ المرأة. ولا جدال بشأن أن المرأة ستُحقِّقُ انفتاحاً وتطوراتٍ عظيمةً في جميعِ ميادينِ الأخلاقيات والجماليات كقوةٍ فكريةٍ وتطبيقيةٍ على السواء، بِحُكمِ مسؤوليتِها الثقيلةِ في الحياة. فأواصرُ المرأةِ مع الحياةِ شاملةٌ أكثر بكثير مقارنةً مع الرجل. ورُقِيُّ بُعدِ الذكاءِ العاطفيِّ متعلقٌ بذلك. بالتالي، فعلمُ الجمالِ موضوعٌ وجوديٌّ بالنسبةِ للمرأة، كَونَه يعني تجميلَ الحياة. ومسؤوليةُ المرأةِ أوسعُ نطاقاً على الصعيدِ الأخلاقيِّ أيضاً (نظرية الأخلاق وعلم الجمال = نظرية الجمال). إنّ تَصَرُّفَ المرأةِ بمزيدٍ من الواقعيةِ وروحِ المسؤوليةِ على صعيدِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ أمرٌ نابعٌ من طبيعتها، وذلك من حيث تقييم وتشخيص وإقرارِ الجوانب الحسنة والسيئة من تعليمِ الإنسان وتربيته، وأهميةِ الحياةِ والسلم، وسوء الحرب وهَولِها، ومعايير الأحَقِّيَّةِ والعدالة. وبطبيعةِ الحال، أنا لا أتحدثُ عن المرأةِ الدُّميَةِ بِيَدِ الرجل وظِلِّه. بل موضوعُ الحديثِ هنا هو المرأةُ الحرةُ المتبَنِّيةُ للمساواةِ والدمقرطة.
سيَكُونُ من الأصحِّ تطويرَ علمِ الاقتصادِ أيضاً كجزءٍ من علمِ المرأة. فالاقتصادُ شكلُ نشاطٍ اجتماعيِّ أدت فيه المرأةُ دوراً أصلياً منذ البداية. والاقتصادُ ذو معانيَ مصيريةٍ بالنسبةِ للمرأة، بِحُكمِ مسؤوليتِها في قضيةِ تنشئةِ الأطفال. علماً أنّ معنى لفظ الاقتصاد ECO-NOMY هو “قانون المنزل، قواعد ارتزاق وإعاشة المنزل”. واضحٌ أنّ هذا أيضاً من نشاطاتِ المرأةِ الأساسية. تَجَسَّدَت أكبرُ ضربةٍ لَحِقَت بالحياةِ الاقتصاديةِ في إخراجِ الاقتصادِ من يدِ المرأة، وتسليمه إلى يدِ المسؤولين الذين يتصرفون كالأغواتِ من قَبيلِ المُرابِين والتُّجَّارِ والمستَثمِرين وأصحاب المالِ والسلطةِ والدولة. الاقتصادُ الموضوعُ في يَدِ القوى المضادةِ للاقتصاد يتم تصييرُه هدفاً أولياً للسلطةِ والعسكرتاريةِ بسرعةِ البرق، متحَوِّلاً بذلك إلى عاملٍ رئيسيٍّ في نشوبِ الحروبِ والنزاعاتِ والصِّدَاماتِ والأزماتِ اللامحدودةِ على مرِّ تاريخِ المدنيةِ والحداثةِ برمته. الاقتصادُ في يومنا الراهن قد باتَ ساحةً لألاعيبِ مَن لا علاقةَ لهم بالاقتصاد، يَعُوثُون فيها ويَنهَبون ويَسلبون القيمةَ الاجتماعيةَ بِنَهمٍ لا يعرفُ حدوداً من خلالِ التلاعبِ بِقِطَعٍ وَرَقِيَّةٍ وبأساليبِ أنكى من القمار. أي أنّ المرأةَ طُرِدَت تماماً من مِهنَتِها المقدَّسةِ التي صُيِّرَت ساحةً للبورصاتِ وميادينِ الرِّبا والتلاعُبِ بالأسعار، ومعامِلَ لإنتاجِ آلاتِ الحروب ووسائلِ المواصَلاتِ التي تَجعَلُ البيئةَ لا تُطاقُ والمنتوجاتِ الكماليةِ التي لا علاقةَ لها بحاجاتِ الإنسانِ الأوليةِ ولا نفعَ منها سوى إدرار الربح.
جليٌّ بسطوع أنّ حركةَ الحريةِ والمساواةِ والديمقراطيةِ النسائيةَ، التي تستندُ إلى علمِ المرأةِ المحتوي على الفامينيةِ أيضاً ضمن ثناياه؛ ستؤدي دوراً رئيسياً في حلِّ القضايا الاجتماعية. ينبغي عدم الاكتفاءِ بانتقادِ الحركاتِ النسائيةِ البارزةِ في الماضي القريب، بل وتوجيه الانتقاداتِ اللاذعةِ لتاريخِ المدنيةِ والحداثةِ اللتَين تسبَّبَتا في تهميشِ وخسارةِ المرأة أكثر. وإذ ما كانت مسألةُ وقضيةُ وحركةُ المرأة تكادُ تَكونُ معدومةً في العلوم الاجتماعية، فالمسؤوليةُ الأساسيّةُ في ذلك تُعزى إلى الذهنيةِ المهيمنةِ للمدنيةِ والحداثة وبُناها الثقافيةِ المادية. قد تُقَدَّمُ المساهماتُ إلى الليبراليةِ بالتناولِ القانونيِّ والسياسيِّ الضيقِ للمساواة. ولكن، من المستحيل آنئذٍ تأمينَ تحليلِ القضيةِ كظاهرة، فما بالكم بِحَلِّها عبر هكذا مواقف؟ إن الزعمَ بِكَونِ الحركاتِ الفامينيةِ الحاليةِ تَحَوَّلَت إلى قوى منقطعةٍ عن الليبراليةِ ومضادةٍ للنظام سيَكُون خداعاً للذاتِ، لا غير. إنْ كانت الراديكاليةُ إحدى قضايا الفامينيةِ الرئيسيةِ مثلما يُقال، فمن الضروريِّ حينذاك – وقبل أيِّ شيءٍ آخَر – أنْ تُديرَ ظهرَها وتَقطَعَ أواصرَها مع إدماناتِ وسلوكياتِ الليبراليةِ الجذريةِ وحياتِها وأنماطِها الفكريةِ والعاطفية؛ وأن تُحَلِّلَ عدوَّ المرأة المتمثلَ في المدنيةِ والحداثةِ اللتَين تَقِفان خَلفَها. هذا وينبغي عليها السير على سُبُلِ الحلِّ القَيِّمِ بالتأسيس على ذلك.
على العصرانيةِ الديمقراطيةِ الإدراكَ أنَّ طبيعةَ المرأةَ وحركتَها في سبيلِ الحريةِ من إحدى قواها الأساسية، وبالتالي اعتبارَ تطويرِها وعقدِ التحالفِ معها كإحدى مهامِّها الرئيسية، وتقييمَها بموجبِ ذلك ضمن نشاطاتِ إعادةِ الإنشاء.
تتصدرُ الأخلاقُ لائحةَ المؤسساتِ الاجتماعيةِ التي يَسودُ العجزُ عن تحليلها، بالرغمِ من الحديثِ عنها كثيراً. فالمستجداتُ المُنجَزَةُ عملياً، كثيراً ما تُصيبُ بخيبةِ الأمل، رغمَ كلِّ جهودِ التنظيرِ لها باسمِ علمِ الأخلاقيات. التشخيصُ المُلاحَظُ علمياً هو افتقارُ الكيانِ الاجتماعيِّ للأخلاقِ تدريجياً. ولكن، لَم تُوَضَّحْ دوافعُ ونتائجُ ذلك كفايةً. بل وتمَّ إقحامُها في ماهيةِ وضعٍ أو مؤسسةٍ يَخفُّ اعتبارُها طردياً. لكنّ الأخلاقَ عظيمةُ الأهميةِ على صعيدِ الموضوعِ والمؤسسةِ بما يَزيدُ عن الاعتقادِ والظن. بالإمكانِ التفكيرَ بأنّ الأزماتِ المُعاشةَ على مرِّ التاريخِ والأزمةَ العالميةَ الراهنةَ على السواء هي محصلةٌ للافتقارِ الأخلاقيّ. إنّ الضميرَ الاجتماعيَّ في التاريخ، وبِربطِه أسبابَ ما حصلَ في مدينةِ سودوم (مدينةٌ تَقَعُ بالقربِ من بُحَيرةِ لوط في العصرِ القديم) وكذلك في مدينةِ بومباي التي طَمَرَتها أَلسنةُ اللهيبِ المتناثرةُ من الجبلِ البُركانيّ، فكأنه يُريدُ إخبارَنا بحقيقةٍ ما! فالانحطاطُ الأخلاقيُّ يَهدِمُ المجتمعاتِ ويُقَوِّضُها. وما الشيءُ المسمى بِلَعنةِ الآلهة في مضمونه سوى ممارسةُ الضميرِ الاجتماعيِّ (الأخلاق) في مُجازاةِ ومعاقَبةِ اللاأخلاق، وشكلُ انعكاسِها على السموات. وإذ ما فَسَّرنا الإلهَ بالهويةِ الاجتماعيةِ الأسمى والأقدس على الإطلاق، فاللعنةُ أيضاً تصبحُ ممارسةَ العقابِ النموذجيِّ الخاصِّ بالمجتمع.
تعريفُ الأخلاقِ اصطلاحاً أمرٌ بسيط. فمعرفةُ كيفيةِ العيش وفقَ الأعرافِ والعاداتِ والقواعدِ الاجتماعيةِ قد تَكُونُ تعريفاً للأخلاق. لكنّ هذا الإيضاحَ يبقى شكلياً للغاية. فالتحليلاتُ التي بادرَ إليها فلاسفةُ العصورِ القديمةِ والعصرِ الحديثِ (وفي مقدمتهم أفلاطون وأرسطو وكانط) تحت اسمِ علمِ الأخلاقيات، إنما تَبسطُ بالأغلب مساهمةً لا تَذهبُ أبعدَ من الشروعِ بصياغةِ نظريةِ الدولة. أو بالأحرى، هي بمثابةِ الاستعداداتِ التمهيديةِ لِبَترِ الفردِ من عضويته في المجتمع والعبورِ به نحو عضويةِ الدولة. ساطعٌ أنهم سلكوا موقفاً وكأنّ مَهَمَّةَ الأخلاقِ فيه هي كيفيةُ الوصولِ بالفردِ إلى الحالةِ التي يَكُونُ فيها أكثرَ نَفعاً للدولة. وباختصار، تفسيراتُهم الأخلاقيةُ مواليةٌ للمدنية.
سيَكُون اللجوءُ إلى التاريخِ مفيداً أكثر فيما يتعلقُ بالأخلاق، مثلما الحالُ في كلِّ المواضيعِ الاجتماعية. نحن نَعلَمُ أنّ حقبةً زمنيةً طويلةً تُقارِب 98%من سياقِ العصورِ الاجتماعيةِ قد سَرَت فيها القواعدُ الأخلاقيةُ، لا القانون. ولهذا السببِ بالذات نقولُ بالمجتمعِ الأخلاقي. بالتالي، فتفسيرُ الأخلاقِ سيَبقى ناقصاً، ما لَم يُدرَك جيداً ما الذي واجَهَته أخلاقُ تلك الحقبةِ الطويلةِ الأَمَد. تعريفُنا للطبيعةِ الاجتماعيةِ بالطبيعةِ المشحونةِ على الأغلب بالذكاءِ المرنِ قد يُسَلِّطُ الضوءَ على الموضوع. المَقصودُ بالذكاءِ المرنِ هو القيامُ بالعَمَلِ من خلالِ الفِكر. فالعلاقةُ بين التفكيرِ والعملِ ستتضمنُ قاعدةً ما بالضرورة. ذلك أنّ كيفيةِ وجوبِ إنجازِ العملِ بِحَدِّ ذاتِها تعني القاعدة. هذه الممارسةُ الأولى بشأنِ العملِ يُمكِننا تحديدَها كأولِ قاعدةٍ أخلاقية. أما مَرامُنا من العمل، فهو شتى أنواعِ النشاطاتِ الاجتماعية. فكلُّ ممارسةٍ عَمل، بدءاً من الأكلِ إلى النوم، ومن السير إلى الحصولِ على القوت، ومن مصادَقةِ الحيواناتِ أو مصارَعتها، ومن العنايةِ بالنباتِ إلى صيدِ السمك. أما هذا العمل، فلا يمكن إنجاحَه دون قاعدة. أما الفشل، فيعني موتَ المجتمع.
في هذه النقطةِ بالذات تصبحُ مصطلحاتُ تقسيمِ المجتمعِ إلى بنيةٍ تحتيةٍ اقتصاديةٍ وبنيةٍ فوقيةٍ أخلاقيةٍ هذياناً. بالمستطاعِ تعريفَ الأخلاقِ على أنها السبيلُ الأفضلُ للحظيِ بالاقتصاد، أو بالأحرى لِتَلبيةِ احتياجاتِ الحياةِ الأولية. أي أنّ الأخلاقَ بوصفِها عُرفاً وأُصُولاً هي نمطُ الحظيِ بالاقتصادِ أو الحاجاتِ الضرورية. بناءً عليه، فالتمييزُ بين البنيةِ الفوقيةِ – البنيةِ التحتية اصطلاحاتٌ بعيدةٌ عن الإيضاح. تُعَبِّرُ الأخلاقُ عن تحقيقِ جميعِ الممارساتِ الاجتماعيةِ بأفضلِ الأنماط، وعلى رأسها الجهودُ الاقتصادية. بالتالي، فكلُّ شيءٍ اجتماعيٍّ هو أخلاقيّ. كما أنّ كلَّ شيءٍ أخلاقيٍّ هو اجتماعيّ. مثلاً، وكيفما أنّ الاقتصادَ أخلاقيٌّ، فالدينُ أيضاً أخلاقيّ. والسياسةُ باعتبارِها الديمقراطيةَ المباشَرةَ هي الأخلاقُ بِذاتها.
إذن، والحالُ هذه، فالقاعدةُ الأولى للعمل – أي الأخلاق – موضوعٌ حياتيٌّ بالنسبةِ للمجتمعِ منذ بداياته. فكيفما يُنجَزُ العملُ على أكملِ وجه، تتعَشَّشُ تلك الكيفيةُ في الأذهانِ بوصفِها أفضلَ قاعدةٍ أخلاقية. ويتعزز هذا مع الوقتِ أكثرَ فأكثر، لِيُصبِحَ مُلكاً للذاكرةِ الاجتماعيةِ باعتبارِه تقاليدَ وعاداتٍ سليمة. وهذا ما معناه تَكَوُّن الأخلاق. هذا هو الحَدَثُ المسمى بالأعرافِ والتقاليد. الأمرُ الأهمُّ الذي ينبغي تحليلَه هنا هو اهتمامُ الأخلاقِ بالعملِ الاجتماعيّ، بقدرِ ما هي ممارسةٌ ذهنية. أي أنها تتطلبُ جهدَ الذهنِ وممارسةَ المجتمعِ على السواء. وأنا شخصياً أُفَضِّلُ تسميةَ هذا الوضعِ بالحالةِ الأولى الأصليةِ للديمقراطية. وفي هذه الحالةِ تتكافأُ الديمقراطيةُ الأصليةُ والأخلاقُ الأصليةُ معاً. وبما أنّ المجتمعَ انشغلَ بالأكثر بالأعمالِ المصيريةِ ورَكَّزَ عليها، فلا مناصّ من تفكيره وتداوُلِه بالأكثر بشأنِ العمل. بل وهو لا يكتفي بذلك، فتركيزُه الغالبُ على كيفيةِ النجاحِ في إنجازِ العملِ على أكملِ وجه، أي كيفيةِ إدارتِه، إنما هو ضرورةٌ لا استغناءَ عنها في الحياة. يَبدو بما لا غُبارَ عليه أنه يتواجدُ الشكلُ الأكثر مباشرةً للديمقراطية (المشاركة هي الشيء المسمى بالديمقراطيةِ المباشرة) في كِلتا الحالتَين، أي لدى التفكيرِ والمُداولةِ والإقرار، ولدى الإشرافِ على القرارِ وإدارتِه وتحويلِه إلى نجاحِ العمل. أما هذا، فيُفيدُ بدورِه بإدارةِ المجتمعِ أخلاقياً وبحياتِه الأخلاقية. وهذا ما مُؤَدّاهُ أنّ منبَعَ الأخلاقِ والديمقراطيةِ واحد، ألا وهو قُدُراتُ الممارسةِ أو العمليةِ الاجتماعيةِ في الذهنِ الجماعيِّ وقابليةِ القيامِ بالعمل. ليس 98% الذي يُشَكِّلُ القسمَ الأكبرَ من حياةِ المجتمع، هو فقط الذي شَهِدَ الأخلاقَ والديمقراطيةَ الأصلية. بل ما يُطَبَّقُ بنسبةٍ ساحقةٍ في مُكَوِّناتِ المجتمعِ المشَتَّتَةِ والمَتروكةِ لشأنِها إلى يومنا الراهن، هو الأخلاقُ، لا القانون. ينبغي الإدراكَ على أكملِ وجه أنه من المستحيلِ استمرارَ الحياةِ من دونِ الأخلاق، حتى ولو أنها مُنحَلَّةٌ ومُتَرَدِّية، بدءاً من العائلةِ إلى الأثنية، بل وصولاً إلى أدقِّ تفاصيلِ القانون، وإلى إنجازِ العملِ في العديد من الميادينِ المؤسساتيةِ المُنَظَّمة. فالقانونُ مجردُ كساء. أما القوةُ المُسَيِّرَةُ للعملِ أساساً، فأنا متأكدٌ أنها الأخلاقُ حتى الآن.
لدى تَمَعُّنِنا في سياقِ المدنية، فأولُ تشخيصٍ ينبغي القيامَ به من حيثُ هذا الموضوعِ هو المحاولاتُ الدائمةُ الهادفةُ إلى سريانِ معاييرِ الدولةِ على حسابِ الأخلاق. وأولُ ترتيبٍ للقواعدِ القانونيةِ في المجتمعِ السومريِّ على لوحِ حمورابي (الألواح الصخرية المكتوبة) يُوَضِّحُ هذا الوضعَ بأحسنِ الأحوال. قد يَجري الحديثُ عن ضرورةِ القانونِ بسببِ عدمِ كفايةِ الأخلاق، لكنّ اقتراباً كهذا خاطئ. فالقضيةُ ليست عدمَ كفايةِ الأخلاق، بل إفناءُ وتَعرِيَةُ المجتمعِ الأخلاقيّ. وقد تطرَّقنا بإسهابٍ إلى كيفيةِ تعريةِ الأخلاق وتهميشها. لقد بَدَأَت احتكاراتُ رأسِ المالِ والسلطةِ المُضاعَفةُ تتأسَّسُ على المجتمع. وباتت القِيَمُ الاجتماعيةُ المُنتَجَةُ تُنهَبُ وتُسلَب. وفي هذا الوضع، لا يمكننا الحديثَ عن نُقصانِ الأخلاق، بل عن إخضاعِ المجتمعِ للتحكمِ والسيطرة، وعن إتْباعِه للقمعِ والاستغلالِ في ظلِّ تطبيقِ الضوابطِ القانونيةِ المسماةِ بالقواعدِ الإداريةِ للدولة. بالتالي، فمساحةُ الأخلاق، وارتباطاً بذلك مساحةُ الديمقراطيةِ المباشرةِ تَضِيقُ تدريجياً. ومقابل ذلك تَتَّسِعُ مساحةُ حُكمِ وقانونِ الدولة. أي أنَّ ما يَخسَرُه طرفٌ يَكسَبُه الآخَر. أو بالأصح، يتمُّ فرضُ الخُسرانِ على الأخلاقِ بِإرغامِ الدولة. إذ يتحققُ هذا الوضعُ بتضييقِ مساحتِه وإعاقةِ تطبيقه. ويَستَمِرُّ التضييقُ على ميدانِ الأخلاقِ (والديمقراطيةِ المباشرةِ أيضاً) في جميعِ مجتمعاتِ المدنيةِ اللاحقة، لِتَزدادَ حِصَّةُ القانونِ باستمرار. وبطبيعةِ الحال، فَكَونُ المدنيةِ الرومانية، التي هي ضربٌ من آخِرِ مدنياتِ العصورِ الأولى واختصارٌ لها، تُمَثِّلُ حُكمَ الدولةِ المُطَبِّقَةِ للقانونِ أكثرَ من غيرها؛ إنما يؤيِّدُ صحةَ هذه الحقيقة. فقانونُ روما لا ينفَكُّ قائماً كإحدى لَبَناتِ القانونِ الأساسية. وسوف يتعرَّضُ المجتمعُ لِما هو أَشبَهُ باستيلاءِ القانونِ في ظلِّ المدنيةِ الأوروبية، أو بمعنى آخر في نزعةِ الحداثة. ما هو قائمٌ أَشبَهُ باستعمارِ القانون. فبَينما تُحاصَرُ مساحةُ الأخلاقِ في أقاصي الزوايا البعيدة، سوف يصبح القانونُ ضيفاً متربعاً في كلِّ الزوايا الأساسية.
ما الذي تَعكِسُه هذه الحقيقة؟ إنها تُشيرُ إلى تَضاعُفِ احتكارِ رأسِ المالِ وأجهزةِ السلطةِ على المجتمع. فإذ ما أَلقَينا نظرةً إلى حداثةِ القرونِ الأربعةِ الأخيرة، سنَجِدُ أنّ ما تَحَقَّقَ هو التراكُمُ الأعظميُّ لرأسِ المالِ والتكاثُرُ الأقصى للسلطة. أو بالأحرى، إنه التكديسُ التراكُمِيُّ المُتداخِلُ لِكِلَيهما. أما الأمرُ الذي سيُبَيَّنُ على صعيدِ الأخلاق، فليس شَلَلَ فاعليتِها، بل انتزاعُها من يَدِ المجتمع. أي أنّ الأخلاقَ انتُزِعَت من المجتمعِ الذي ستُطَبَّقُ في بُنيتِه. بالتالي، فما يُقالُ بكثرة من سَردٍ على شاكلةِ احتياجِ المجتمعِ الصائرِ معقداً إلى القانونِ بسبب استحالةِ إدارته بالأخلاق، إنما هو رياءٌ فظيعٌ بقدرِ ما هو حُكمٌ لاأخلاقيّ. أي، لا يمكن الحديثَ بتاتاً عن وضعِ عدمِ كفايةِ الأخلاق، أو عدم قدرتِها على الفاعليةِ بِحُكمِ تَعَقُّدِ المجتمع. هنا أيضاً يتمّ تَفعيلُ قاعدةٍ بسيطةٍ من الهيمنةِ الأيديولوجيةِ الليبرالية: قاعدةُ الإنهاكِ الأعلى عن طريقِ الدعايةِ بغرضِ شلِّ تأثيرِ المنافِسِ النِّدّ. دورُ هيمنةِ الليبراليةِ الأيديولوجيةِ جليٌّ بكلِّ سطوعٍ في تَشكيلِ الموقفِ المعاصِرِ بشأنِ الأخلاق. أما القانونُ الذي حَلَّ مَحَلَّه، فمَن الذي لا يَعلَم أنه عاجزٌ حقاً عن الإدارةِ والحُكم، وأنه مليءٌ بالقواعدِ التي لا يَسَعُها العقلُ ولا الضمير؟ لَم يَكُ عبثاً قولُ المَقولةِ الشعبية “ما يَحُلُّ بالذاهِبين إلى المحكمةِ للمرةِ الأولى لا يَحُلُّ بالدجاجةِ المَطهُوَّة”. بقدرِ ما تتواجدُ القواعدُ القانونيةُ بكثرةٍ في مكانٍ أو مؤسسةٍ ما، فإنه دليلٌ على وجودِ احتكارٍ قمعيٍّ واستغلاليٍّ مؤثِّرٍ بالمِثل. والحقائقُ العملية، وأَوَّلُ خطوةٍ مَخطُوَّةٍ في كلِّ مؤسسةٍ راهنة، تُؤَكِّدُ صحةَ هذا الأمر.
السؤالُ الهامُّ الذي ينبغي طرحَه فيما يتعلقُ بالموضوعِ هو: أيهما يَحكُم بشكلٍ أفضل، الأخلاقُ أم القانون؟ بالرغمِ من أنّ سردَنا بمضمونه يُعطي الجوابَ على هذا السؤال، إلا أنّ كَونَ القانونِ حُكماً بالإرغام يُوَضِّحُ الحقيقةَ إلى حدٍّ بعيد. فكما هو معلوم، يُصاغُ تعريفُ القانونِ بأنه “تنفيذُ القواعدِ بإرغامِ الدولة”. ولكن، لا تنفيذَ بالإرغامِ في الأخلاق. وبالأصل، أيةُ قاعدةٍ لا تُستَساغ لا يُمكِن تسميتَها بالقاعدةِ الأخلاقية. واضحٌ أنّ الكَفَّةَ التي سيَطغى عليها الفاضلُ سَتَكونُ كفَّةَ الأخلاقِ بكلِّ تأكيد لدى المقارنةِ بين الحُكمِ القانونيِّ المرتكزِ إلى العنفِ والإرغام وبين إدارةِ الأخلاق.
علاقةُ الأخلاقِ مع الدينِ قضيةٌ هامةٌ تستوجبُ التحليل. فكيفما أنه بالإمكانِ عقدَ تَعادُلٍ بين الأخلاقِ والديمقراطيةِ المباشرة (بالنسبةِ للمجتمعاتِ الخارجةِ عن المدنيةِ والمضادةِ لها)، فبالمقدورِ عقدَ تعادُلٍ شبيهٍ فيما بين الدينِ والأخلاقِ أيضاً. ففي الظروفِ التي لَم تَطبَعْ فيها المدنيةُ الدينَ بطابعِها، يُمكِنُ للأخلاقِ والدينِ والديمقراطيةِ المباشرةِ أنْ تَعيشَ بشكلٍ متداخل. الأخلاقُ مؤسسةٌ أَسبَق من الدين. بينما يَبدو أنّ الدينَ معنيٌّ بأبعادِ الأخلاقِ التي تتعلقُ على الأغلب بالمَحظورات، المُقَدَّسات، السحر، الصعوبة في الفهم، والتفكير والإحساس بعدمِ القدرةِ على التحكمِ بقوى الطبيعة. فمعرفةُ المجتمعِ وقَبولُه وإدراكُه للطبيعةِ الكامنةِ خارجَ نطاقِ طبيعته، إنما يُوقِظُ مشاعِرَ الخوفِ والرحمةِ في آنٍ معاً. كما يَلُوحُ أنّ فكرةَ تَجَنُّبِ سيئاتِ والاستفادةِ من مَحاسِنِ تلك الطبيعةِ وقواها التي يتم الإدراكُ أنّ حياةَ المجتمعِ تابعةٌ لها بوثوق، إنما تُشَكِّلُ مصدرَ التقاليدِ والمؤسسةِ الدينيةِ البدائيةِ الأصلية.
لا جدالَ في أنّ الدينَ مؤسسةٌ أَسبَقُ من المدنية. وهو يَحتَوي بين طواياه مَحظوراتِ الأخلاقِ والأمورَ التي يجب الامتناعَ عنها، وعناصرَها في الرحمةِ والغفران. لكنه يصبحُ شريعةً أكثرُ صرامةً مع مرورِ الوقت. بهذا المعنى، فترتيبُ الأخلاقِ ضمن القواعد الصارمةِ والأوامرِ المقدسةِ يُشَكِّلُ الدين. بالرغمِ من ولادتِه من أحشاءِ الأخلاق، وتَكوينِه كجزءٍ منها في البداية؛ إلا أنه يتوطَّدُ مع تَغَيُّرِ ظروفِ الزمانِ والمكان، ويُحَوّلُ مؤسساتِه وقواعدَه إلى قوانين حاسمةٍ يُشتَرَطُ الامتثالُ لها (نظامُ الوصايا العشرِ النموذجيةِ لدى موسى)، مُعلِناً بذلك استقلالَه وأَولَوِيَّتَه. هذا وبالإمكانِ مقارنةَ القانونِ أيضاً بكونه انطلاقةً مشابهة. فالقواعدُ القانونيةُ التي كانت بدايةً قسماً من القواعدِ الأخلاقية، تتحوَّلُ بالتَّزامُنِ مع التدوُّلِ إلى قوانين تُنَفَّذُ متطلباتُها عنوةً، مُشَكِّلَةً بذلك القانونَ الذي نَعرِفه. كما شَهِدَ الدينُ اختلافاً آخرَ تماشياً مع تَطَوُّرِ سياقِ المدنية، ألا وهو تصييرُه قوةً إلهيةً قادرةً على الحكمِ بالعقابِ بشكلٍ شديدٍ بحقِّ المجتمع، وذلك بأبعادِه المتحوِّلَةِ حسبَ مصالحِ قوى الاستغلالِ والسلطة. هكذا، فالمصالحُ الاحتكاريةُ التي سَيَّرَها القانونُ بِيَدِ الدولة، سعى الدينُ المَطبوعُ بطابعِ المدنيةِ الجديدةِ إلى تَسييرِها بِيَدِ الإله.
كِلا التحوُّلَين هامّان، حيث يُمَثِّلان لحظَتَي أهمِّ انكسارَين في التاريخ. فلجوءُ حاكميةُ السلطةِ والمَلَكِيَّةِ المتصاعدةِ إلى التَّوَطُّدِ بِنَعتِ نفسِها بالمصطلحاتِ الإلهية، إنما هو القاعدةُ الأساسيةُ للهيمنةِ الأيديولوجية. كُلَّما نُبِشَ مصطلحُ الإله، تَظهَرُ من تحته في كلِّ مرةٍ قوةُ احتكاراتِ القمعِ والاستغلالِ وأجهزةِ الدولةِ والسلطةِ في الطغيانِ والنهبِ والسلبِ والتشغيلِ العبودي. لكنّ تشخيصَ تَحَوُّلِ عناصرِ الدينِ المُكافِئَةِ للأخلاقِ بقسمِه الذي يتسمُ بالبعدِ الديمقراطيِّ والاجتماعيِّ إلى عناصرِ ومُكَوِّناتِ الطبيعةِ والمجتمع، إنما هو أمرٌ جدُّ هام. هكذا يصبح بالإمكانِ إيلاءَ المعنى على مسيرةِ الدينِ طيلةَ تاريخِ المدنيةِ بِتَطَوُّرِه بطابعٍ ثنائيِّ الهويةِ والتقاليدِ والثقافة. فبقدرِ ما يَكونُ الدينُ والإلهُ من حيث هما هويةُ قوى المدنيةِ مشحونَين بمصطلحاتِ الخوف، الرمي في جهنم، التجويع، الإفناء، عدم الرحمة، الحرب، التحكم، السيطرة، الاستملاك، والعبادة (ينبغي عدم النسيان أنّ هذه المصطلحات تَصِفُ قوى وشخصياتِ المدنيةِ بالأكثر)؛ فإنّ هويةَ دين وإلهِ قوى المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ مشحونةٌ بمصطلحاتِ الجرأة، الغفران، السماح، الأمل، عدم قطع الرزق، الإيجاد، الرحمة، الود، السلم، والانصهار في الجوهر وبلوغه.
إذن، والحالُ هذه، فتعريفُ الدينِ ضمن كِلتا الهويتَين طيلةَ تاريخِ المدنيةِ أمرٌ مفيدٌ لآخرِ درجة. والأديانُ الإبراهيميةُ تتميزُ باحتوائها كِلا التيارَين معاً بشكلٍ نموذجي. فبقدرِ ما يَعكِسُ ممثلو المستوى الدينيِّ الأعلى (الراهب، الحاخام، شيخ الإسلام، وآية الله وما شابه) ميولَ المدنية، فأهلُ الأمةِ في المستوى الأسفل يَعكِسون ميولَ الحضارةِ الديمقراطية. قد يَحتَلُّ أحدُ التيارَين الصدارةَ أو يتعادلان حسب زمانهما ومكانهما. والأديانُ الإبراهيميةُ بوضعها هذا تُذَكِّرُ بديمقراطيي الحداثةِ الاجتماعيين. فمثلما أنّ الديمقراطيين الاجتماعيين يُمَثِّلون الوفاقَ فيما بين البورجوازيةِ وطبقةِ العمال في عهدِ الحداثة (تحت ظلِّ هيمنةِ احتكاراتِ رأسِ المالِ والسلطةِ بالطبع)، فإنّ الأديانَ الإبراهيميةَ تُمَثِّلُ الوفاقَ بين قوى رأسِ المالِ والسلطةِ وقوى الحضارةِ الديمقراطيةِ طيلةَ تاريخِ المدنية (مرةً أخرى تطغى هيمنةُ قوى السلطة).
نجِدُ في التاريخِ أنّ الزرادشتيةَ كتعاليم وزرادشت كشخصيةٍ أمرٌ مستثنى في علاقةِ الدينِ والأخلاقِ تاريخياً. فالبحوثُ تُعَرِّفُ زرادشت والتعاليمَ المرتبطةَ به بالثورةِ الأخلاقيةِ الكبرى. هذه الثورةُ الأخلاقيةُ المتناميةُ كتيارٍ يدافعُ عن الأخلاقِ الدُّنيَوِيَّةِ أكثر من القدسية تجاه هيمنةِ المدنيةِ السومريةِ الميثولوجيةِ والدينية (3000 ق.م وما بعد)، والبارزةُ في أجواءٍِ ثقافيةٍ اجتماعيةٍ تقتاتُ على الزراعةِ وتربيةِ الحيوان (الثقافةُ المتشكلةُ منذ الثورةِ النيوليتيةِ في أعوام 12000 ق.م، بل وحتى منذ أعوام 000.20 ق.م الذي يُعَدُّ تاريخَ انحسارِ العصرِ الجليديِّ الرابع) على حوافِّ جبالِ زاغروس؛ وبالرغمِ من تسميتها بالزرادشتيةِ نسبةً إلى مؤسِّسها زرادشت، إلا أنه معلومٌ انحدارَ جذورِها إلى الماضي السحيقِ الأقدم. جليٌّ أنّ زرادشت حاكَمَ وساءَلَ إلهيةَ المدنيةِ السومريةِ الميثولوجيةَ والدينيةَ بقوله عبارَتَه الشهيرةِ “قل، مَن أنت؟”. بالتالي، فالانتقادُ الأخلاقيُّ الأولُ ذاك لدينِ المدنيةِ وآلهتِها يتحلى بأهميةٍ قصوى للغاية. ولَم يَكُ عبثاً أنْ يُطلِقَ الفيلسوفُ فريدريك نيتشه اسمَ “هكذا تكَلَّمَ زرادشت” على إنجازِه الشهير، وأنْ يَملأَ مضمونَه بالأحكامِ الأخلاقيةِ الزرادشتية. وهو معروفٌ بأعتى مُفَسِّري المدنيةِ في هذا المنحى. بل وحتى أنّ إطلاقَ لقبِ الغُلام الغِرّ لزرادشت، والغُلام الغِرّ لديونيسوس على ذاته أمرٌ يَدعو للتفكيرِ والتمعُّن.
تطغى عناصرُ الحضارةِ الديمقراطيةِ على الزرادشتية. فهي قريبةٌ من المساواةِ بين المرأةِ والرجلِ داخلَ الأسرة. ولا يتمُّ إيلام الحيوانات، ولا تُؤكَلُ لحومُها على الأغلب، بل يُعمَلُ أساساً بالاستفادةِ من منتوجاتها. والزراعةُ تتميزُ بأهميةٍ كبرى، ويَبرزُ مصطلحا الفاضل – السيئ المُنَقَّيان من القدسية. كما ونمطُ التفكيرُ الثنائيُّ (قوى النورِ والظلام) الذي يُذَكِّرُ بأُولى بذورِ الدياليكتيكِ بارزٌ للغاية. ثمةَ مساعٍ لفهمِ الكونِ بنحوٍ جَدَليّ. وتُتَّخَذُ إدارةُ المجتمعِ بالمبادئِ الأخلاقيةِ الوطيدةِ أساساً. جليٌّ بسطوعٍ أنها بكلِّ جوانبِها هذه تَعكِسُ ثورةً أخلاقيةً قويةً تجاه السومريين والمدنياتِ التي تنحدرُ منها. وحسبَما هو معلوم، فأعظمُ ثمرةٍ لهذه الثورةِ – ولو بشكلٍ مُحَرَّف – هي الكونفدراليةُ الميديةُ والإمبراطوريةُ البرسيةُ التي استَلَمَت إرثَها (والتي سوف تُحَرَّفُ كثيراً مع كلِّ أسف). أي، وبالرغمِ من جهودِه في إنجازِ ثورةٍ ثانيةٍ وفق هذه التعاليمِ الأخلاقيةِ (خلالَ أعوامِ 250 م.)، إلا أنّ الأباطرةَ الساسانيين المُنحَلِّين إلى حدٍّ كبيرٍ سوف يُعِيقون ذلك. وسوف يُحكَم على ماني بالعقابِ الشديد. ما يَقُومُ هنا هو صراعُ ونزاعُ الهويتَين الدينيةِ والأخلاقية.
لا تزالُ آثارُ تقاليدِ زرادشت – ماني الأخلاقيةِ موجودةً ومنتشرةً من الشرقِ الأوسط إلى الهندِ وأوروبا (المجوسية، الإيزيدية). وكلمةُ “زنديق” ذاتُ أصولٍ زرادشتية، كما أنها أصلُ كلمةِ “سكاينس Science” المُستَخدَمةِ راهناً بمعنى العلم. من الضروريِّ التبيانَ أنّ الأنبياءَ اليهودَ في عهدِ السبيِ البابلي (600 – 5456 ق.م) والفلاسفةَ الإغريقَ – الإيونيين في عهدِ الإمبراطوريةِ الميديةِ – البرسية، انتَهَلوا بشكلٍ ملحوظٍ من التعاليمِ الزرادشتية. وبالإضافةِ إلى هذَين التيارَين، انتهَلَ منها المُستَشرِقون الأوروبيون أيضاً بشكلٍ مباشر. كما ومن الضروريِّ التبيانَ وبالأهميةِ نفسِها أنّ تعاليمَ كلٍّ من كونفوشيوس وسقراط وبوذا المُعاصِرين لزرادشت (ما بين القرنَين السادسِ والخامسِ قبل الميلاد) أيضاً ترتَكِزُ في أساسِها إلى المجتمعِ الأخلاقيِّ، وتُمَثِّلُ دفاعاً أخلاقياً وطيداً للغايةِ تجاه خطرِ المدنيةِ المُحيقِ بالأخلاق. هذا ويَحتَلُّ العنصرُ الأخلاقيُّ مكانةً هامةً جداً في تعاليمِ الإسلامِ والمسيحيةِ في العصور الوسطى.
أما في عهدِ المدنيةِ الأوربية، أي حداثتِها، فتَشهَدُ الأخلاقُ تآكُلاً ونَخراً جدياً. وكنا قد تطرَّقنا باستفاضةٍ إلى أسبابِ ذلك.
حتى هذه الاستذكاراتُ التاريخيةُ الموجَزَةُ تشيرُ إلى أنّ المجتمعَ الأخلاقيَّ أَبدى مقاومةً عظمى. حيث لَم تَستَسلمْ الأخلاقُ لقوى المدنيةِ طالما بَقِيَت صامدةً كأخلاق. أي أنّ الإصرارَ الأخلاقيَّ لديموس Demos لَم يَغِبْ أو يَنقُص في أيِّ وقتٍ من الأوقاتِ تجاهَ دينِ وقانونِ المدنيةِ المفروضَين. من هنا، فالقضيةُ والمهامُّ الأوليةُ الراهنةُ المعنيةُ بالأخلاق تتعلقُ بكيفيةِ مَوضَعَتِها. لا ريب أنّ علمَ الأخلاقياتِ (نظرية الأخلاق Etic) الذي يُعَدُّ حقلاً من حقولِ علمِ الاجتماع، يُشَكِّلُ مَهَمَّةً معنيةً بالميدانِ الفكريِّ الذي يجب تطويرَه بعنايةٍ وأهمية. المهمُّ هو كيفيةُ تكامُلِ الأخلاقياتِ مع المجتمع، وكيفيةُ إعادةِ تعبئةِ المجتمع بالأخلاقِ على أسسٍ أوطد وأمنع، بعدَما كان تَعَرَّضَ إلى التعرية. وظيفةُ إعادةِ إنشاءِ الأخلاقِ ليست قضيةَ العصرِ والحداثةِ فحسب، بل هي أيضاً قضيةُ سيرورةِ أو عدمِ سيرورةِ المجتمع. لقد تَبَدّت للعيان استحالةُ التغلبِ على الأزمةِ العالميةِ عنوةً وبقوةِ القانونِ الإرغامية. كما أنّ العودةَ مجدداً إلى النزعةِ الدينية حَدَثٌ يائس. ينبغي الإدراك بشكلٍ حسنٍ استحالةَ نفاذِ الحداثةِ من الأزمةِ العالمية بأيِّ سبيلٍ كان، ما لَم يُفَعَّلْ النسيجُ الأخلاقيُّ القويُّ للطبيعةِ الاجتماعيةِ مجدَّداً. فالأزمةُ المُعاشةُ أزمةٌ خَلَقَتها قوى نظامِ المدنيةِ المناهِضةُ للمجتمعِ برمته والمعمرةِ خمسةَ آلافِ سنة على حسابِ المجتمعِ الأخلاقيّ. بالتالي، فالبحثُ عن المَخرَجِ في المجتمعِ الأخلاقيِّ (والمجتمعِ السياسيِّ أيضاً بِحُكمِ تَرادُفِ الأخلاقِ مع الديمقراطيةِ المباشرة) من ضروراتِ الدياليكتيك. ومن المستحيلِ تحديدَ أيةِ مَهَمَّةٍ أخلاقيةٍ بشكلٍ سليم، ما لَم يتمّ الإجماعُ على هذا التشخيص كمبدأ.