القرن الحادي والعشرون قرن بناء مستقبل جديد للعالم تقوده المرأة – جورجيت برصوم
القرن الحادي والعشرون قرن بناء مستقبل جديد للعالم تقوده المرأة
“القرن الحادي والعشرون يُمثّل مرحلةً جديدةً من نضال المرأة العالمي،
حيثُ لم تعد الحركات النسويّة تقتصر على المطالبِ الإصلاحية،
بل تسعى إلى تغيير جذري في النّظام العالمي،
ويمكن للمرأة أن تخلق عالمًا جديدًا خاليًا من الاستغلال الذكوري والرأسمالي”
جورجيت برصوم
شهد القرن العشرون تحولات كبيرة في مسيرة المرأة حيث خاضت نضالاً كبيراً ضد الأنظمة الذكورية والرأسمالية. ومع نهاية القرن الماضي وصلت الحركة النسوية إلى نقطة مفصليّة جعلت من القرن الحادي والعشرين مرحلة جديدة من الثورة النسوية تتجاوز المطالب الحقوقية إلى التغيير الجذري في بنية المجتمع والنظام السياسي والاقتصادي، وليكون بذلك القرن الذي سيشهد على حرية المرأة لأنّ النضالات النسوية قد وصلت إلى مستوى يجعلها قادرة على خلق واقع جديد بعيدًا عن الهيمنة الذكوريّة والرأسماليّة.
نرى اليوم نساءً يَقُدن ثورات حقيقية في وجه الأنظمة الاستبدادية، وهو ما يجعل هذا القرن محوريًا في تحقيق الحرية الكاملة للمرأة. لكن في المقابل، تصاعدت الهجمات ضد ثورة المرأة، حيث تعمل الأنظمة المستبدة على محاصرة الحركة النسوية وقمعها عبر كل أشكال العنف الجسدي والمعنوي، إضافة إلى استخدام أدوات مثل التشويه الإعلامي والإقصاء السياسي. في مواجهة كل ذلك ولكي تحمي النساء مكتسبات ثورتهن خلقت النموذج الثوري الذي سيكون بديلًا للنظام الذكوري والرأسمالي.
دخلت المرأة في القرن الحادي والعشرين بوعي نضالي أكثر قوة مما كان عليه في القرن الماضي. لم يعد النضال النسوي مقتصرًا على المطالبة بالمساواة داخل الأنظمة القائمة بل أصبح يسعى إلى تغييرها بالكامل، حيث تتبنى النساء اليوم رؤية تحررية جذرية ترفض البنى الذكورية والرأسمالية بدلًا من محاولة التكيّف معها. من أبرز مظاهر هذا التحول هو تأسيس حركات نسوية مستقلة عن الأنظمة السياسية التقليدية ترفض الحلول الإصلاحية السطحية وتصاعد الحركات النسوية التي تدعو إلى هدم النظام الأبوي والرأسمالي بالكامل، بالإضافة إلى دخول المرأة في مجالات التنظيم السياسي والعسكري كما هو الحال في ثورة شمال وشرق سوريا.
ثمّة حقيقة ساطعة أوضَحَتها لنا جميعاً مرحلة الثورة المستمرة في روج آفا- شمال وشرق سوريا، ألا وهي أنّ الثورة الحقيقية لا بدّ أن تَكون ثورةً نسائية. فالانطلاقات الثوريّة التي لا تعتمد على حريّة المرأة لا يمكن لها أن تنجح، والسبب الرئيسي في عدم قطف الثمار المرجوّة من الحركات الثوريّة والاشتراكيّة التي شهدها القرن العشرون، رغم كل التضحيات النفيسة فيها، ورغم مناهجها وبرامجها القوية؛ إنّما يكمن في عدم وضع حرية المرأة في مركز اهتماماتها ورؤيتها.
لذلك فإنّ قضيّة المرأة ليست قضيّة جانبيّة، ولا تُعَدّ صراعاً ثانوياً، بل إنّها أُمُّ كل القضايا الأخرى. فالمرأة هي الطبقة الأولى التي تعرّضَت للاستغلال والاستعمار والتّحكم. من هنا؛ لا يمكن خوض نضالٍ مثمرٍ وموفق ضدّ الأنظمة المهيمنة، إلا إذا أدّت المرأة دورها كذاتٍ فاعلةٍ بعد تنظيمها لذاتها بصورة شبه مستقلّة تُراعي خصوصياتها وفق برنامج سديد وأيديولوجية تحررية منيعة.
تُعتبر تجربة المرأة في شمال وشرق سوريا من أكثر التجارب الرائدة في العصر الحديث. حيث استطاعت النساء بناء نموذج اجتماعي وسياسي وإداري جديد يقوم على مبدأ الإدارة الذاتية والمشاركة الفعالة في جميع المجالات، ومن أهم إنجازات ثورة المرأة في هذه المنطقة تأسيس وحدات حماية المرأة التي تمثل قوة عسكرية نسائية منظمة ومستقلة تدافع عن المرأة والمجتمع ضد كل أشكال العنف والاستبداد، وبناء نظام سياسي تشاركي يعتمد على مشاركة المرأة بنسبة 50% في جميع المؤسسات. وإنشاء منظومات العدالة النسويّة والقوانين التي تحلّ قضايا المرأة بعيدًا عن القوانين الذكورية التقليدية، إضافة إلى تطوير الاقتصاد النسوي التعاوني لمواجهة استغلال الرأسمالية، ودعم النساء اقتصاديًا. هذا النموذج يثبت أنّ المرأة قادرة على بناء بديل حقيقي للنظام الذكوري والرأسمالي.
بينما ركّزت الحركات النسوية في القرن العشرين على مقاومة الظلم داخل الأنظمة القائمة، فإنّ نضال المرأة في القرن الحادي والعشرين تجاوز ذلك ليصل إلى مرحلة الثورة الشاملة. لم تعد النساء تكتفين بمطالبة الدول والأنظمة الذكورية بتحقيق حقوقهن، بل أصبحنَ يعملنَ على إسقاط هذه الأنظمة واستبدالها بمنظومات جديدة أكثر عدالة.
مع تصاعد نضال المرأة لم تقف الأنظمة الذكورية والرأسمالية مكتوفة الأيدي، بل لجأت إلى سياسات مضادة تهدف إلى قمع الثورة النسوية، منها العنف الجسدي والمعنوي ضد النساء وخاصة القياديات، حيث تشمل سياسات القمع التي تمارسها الأنظمة ضد النساء الاغتيالات الممنهجة، وفرض القوانين القمعية التي تُعيد المرأة إلى الأدوار التقليدية وتحرمها من التعليم والعمل، وحملات التشويه الإعلامي التي تصور الحركات النسويّة كتهديد للمجتمع والدين.
كما تحاول الأنظمة الرأسمالية استيعاب الحركة النسوية بطريقة تجعلها غير مؤثرة، ذلك من خلال الترويج للنسوية الليبرالية التي تركز على النجاح الفردي بدلًا من التغيير الجماعي، واستخدام المرأة كأداة دعائية داخل الشركات الرأسمالية دون منحها سلطة حقيقية، وخلق نسوية تابعة للنظام تعمل ضمن حدوده بدلًا من مواجهته. إضافة إلى ذلك تعتمد الأنظمة المستبدة على القمع السياسي والعسكري لمحاربة ثورة المرأة، ذلك عبر تفكيك التنظيمات النسوية من خلال الاعتقالات والقوانين القمعيّة واستهداف المقاتلات النسويات كما حدث في الهجمات التركية على وحدات حماية المرأة، ونشر الفكر الرجعي الذي يعيد المرأة إلى الأدوار التقليدية.
لكن في مواجهة كل هذه التحديات، تعمل النساء على بناء نظام دفاعي متكامل لحماية ثورتهن يشمل وحدات الحماية النسائية (YPJ وHSNB) التي تمثل قوة عسكرية مستقلة لحماية المرأة وتدريبها سياسياً وعسكرياً وذلك لضمان استمرارية المقاومة وإنشاء هياكل تنظيمية ذاتية تضمن استقلالية القرار النسوي. كما تسعى النساء إلى تعزيز الاقتصاد النسوي المستقل عبر بناء التعاونيات النسوية التي تعزز الاستقلال الاقتصادي، وخلق شبكات دعم نسوية تضمن استمرارية الثورة اقتصاديًا، ورفض نماذج الاستهلاك الرأسمالي التي تجعل المرأة أداة للاستغلال. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ توحيد الحركات النسوية عالميًا يعد عنصرًا أساسيًا في حماية مكتسبات الثورة من خلال بناء تحالفات نسوية ثورية بين مختلف الحركات في العالم، ودعم ومناصرة نضال النساء في مناطق الصراع عبر الإعلام والسياسة، وتطوير منابر نسوية دولية لنشر الوعي حول أهمية ثورة المرأة عالميًا.
إنّ القرن الحادي والعشرين يُمثل مرحلة جديدة من نضال المرأة العالمي، حيث لم تعد الحركات النسوية تقتصر على المطالب الإصلاحية بل تسعى إلى تغيير جذري في النظام العالمي. من خلال التنظيم السياسي والعسكري والاقتصادي، يمكن للمرأة أن تخلق عالمًا جديدًا خاليًا من الاستغلال الذكوري والرأسمالي، لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب مقاومة مستمرة وتحالفات قوية ونظامًا دفاعيًا يحمي مكتسبات ثورة المرأة.
القرن الحادي والعشرون لن يكون قرن حرية المرأة فحسب، بل قرن بناء مستقبل جديد للعالم تقوده المرأة. ففي ظل التحديات المستمرة التي تواجهها ثورة المرأة، أصبح من الضروري تطوير استراتيجيات نضالية جديدة تضمن حماية المكتسبات وتعزيز قدرة النساء على إحداث التغيير الجذري في المجتمعات. لقد أدركت الحركات النسوية أنّ التنظيم المستقل هو مفتاح النجاح، حيث لم يعد بالإمكان الاعتماد على الأنظمة السياسية القائمة التي غالبًا ما تستوعب الحركة النسوية ضمن إطار محدود يحافظ على البنية الذكورية والرأسمالية. لذلك، بدأت النساء في بناء شبكات تضامن نسوية عالمية تتيح تبادل الخبرات وتعزز التعاون العابر للحدود، مما يجعل الثورة النسوية أكثر شمولا وتأثيرًا.
أحد أهم العوامل التي ساهمت في صمود ثورة المرأة في شمال وشرق سوريا هو التكامل بين النضال العسكري والسياسي والاقتصادي. فعلى المستوى العسكري، لا تقتصر على الدفاع عن المرأة فقط، بل تلعب دورًا استراتيجيًا في حماية القيم التحررية التي تسعى الثورة إلى ترسيخها، أمّا على المستوى السياسي، فإنّ مشاركة المرأة في صنع القرار بنسبة متساوية يعكس نموذجًا ثوريًا يعيد هيكلة السلطة بعيدًا عن الهيمنة الذكورية، وعلى المستوى الاقتصادي، فإنّ انتشار التعاونيات النسوية يعزز الاستقلال المالي للمرأة ويضعف سطوة النظام الرأسمالي الذي يعتمد على استغلالها.
إضافة إلى ذلك، أصبح الإعلام النسوي المستقل أداة رئيسية في مواجهة التشويه الإعلامي الذي تمارسه الأنظمة القمعية، حيث تسعى المنصات النسويّة إلى الوعي حول قضايا المرأة وتعزيز الخطاب التحرري الذي يرفض اختزال النضال النسوي في مطالب إصلاحية سطحية. كما أنّ العمل على بناء تحالفات بين الحركات النسوية والثورات الاجتماعية الأخرى يساهم في خلق جبهة مقاومة موحّدة ضدّ الاستبداد السياسي والاقتصادي.
عاماً بعد عام والمرأة تخطو خطوات عظيمة وتصعّد من مستوى نضالها خاصة في شمال وشرق سوريا، فقد قامت بثورة داخل ثورة وانتشر صداها في كردستان والشرق الأوسط والعالم. بالتالي؛ استطاعت المرأة أن تكسر الحواجز الضيّقة التي كانت تعيشها، وتصعّد وتيرة نضالها بصوتٍ وموقفٍ واحد من أجل نيل الحرية والمساهمة في بناء مجتمع ديمقراطي متكامل.
مع استمرار تصاعد نضال المرأة عالميًا، فإنّ القرن الحادي والعشرين لا يمثل فقط حقبة تحرر النساء، بل فرصة لإعادة تشكيل النظام العالمي على أسس أكثر عدالة، حيث تقود النساء عملية التغيير نحو مستقبل خالٍ من الظلم والاستغلال، وخلق عالم جديد أكثر سلامًا وأمنًا وعدالة.