المرأة ودورها الهام في بناء الثقافة الاجتماعية – مولودة إيبو
المرأة ودورها الهام في بناء الثقافة الاجتماعية
“الثقافةُ هي كالجّسد المتكامل إذا نقص منه عضوٌ
يبقى ناقصاً وعاجزاً، وهذا النقص سواء كان اجتماعياً أو جسدياً
فهو يُظهر نمط حياتنا ويوضّح مدى ثقافتنا
وسلوكنا الاجتماعي والأخلاقي”
مولودة إيبو
الثقافة هي من أهم الأسس التي تبني شخصية الفرد، وتُؤثر بشكلٍ كبير وأساسي على حياة الفرد والمجتمع، وبنفس الوقت تُثير الجدل والنقاش في المجتمع، فهي لا تقل أهميةً عن علم الذّرة والتكنولوجيا التي لها أهميتها أيضاً في وقتنا الراهن. تكمن أهمية الثقافة في توجيهها للحضارات والأمم، ولها تأثير على الأفكار والمشاعر واللغة والتعبير عن الهوية. بالمختصر الثقافة هي الأخلاق وروح المجتمعات.
هذه الثقافة التي أثرت على المجتمعات منذ آلاف السنين وأثرت على كينوناته تختلف عن الأساطير والقصص. فالثقافة تُبنى على الحقائق وعشق الحقيقة الذي عاشته الشعوب منذ فجر التاريخ، فالثقافة هي التي كتبت الحروف الأولى من تاريخ البشرية. لكل مجتمع من المجتمعات البشرية معاييرها الثقافية، حيث تختلف من مجتمع لآخر بحسب مفهومه الأيديولوجي والفكري سواء كانت معتقدات أو سلوكيات مختلفة بحسب البيئة التي يعيش فيها، وبلا شك هناك أدوات وعوامل عدة تؤثر على الثقافة.
من هذه الأدوات التي تؤثر على الثقافة في عصرنا هذا: العائلة، المدارس، الجامعات، الكنيسة، الجامع، وسائل الإعلام، السوق وغيرها من المؤسسات التي تتشكل من البنى الاجتماعية وتتوافق فيما بينها.
إذا تعمقنا في تاريخ البشرية من الناحية التاريخية نجد أنّ الأم (المرأة) كان لها دور عظيم في بناء المجتمع وترسيخ ثقافتها الخاصة، فـهي “الأم والأخت والزوجة” وذات تأثير هام في عملية البناء الاجتماعي، فقد حققت العدالة والمساواة العفوية التي كانت على شكل قوانين الحياة المكتسبة طبيعياً، ولم يتم كتابتها في التاريخ، بل كانت قوانين اجتماعية تُفرض على الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء ويتم احترامها.
لهذا فالفرد والمجتمع مرتبطان ببعضهما البعض، وهذا ما يعبّر عن القيم الاجتماعية والأخلاقية. هذه هي الثقافة التشاركية العفوية والديمقراطية الحقيقة التي يعتبرها البعض جهلاً وتخلفاً، ذلك لأنهم لا يُقَدِّرون الروح المعنوية لدى الإنسانية، وبعيدون عن حقيقتهم المجتمعية، ولا يدركون بأنّه لولا تلك المراحل لما كنا الآن، ولولا المعرفة الاجتماعية والثقافية لما كنا اليوم على ما نحن عليه، وبالتالي كان من الصعب الحديث عن العلوم والرّقي الذي وصلت إليه المجتمعات في بدايتها، وهناك أمثلة عديدة عن ذلك في الهندسة والطب والرياضيات والفلك والفلسفة.
الرأسمالية التي تدّعي اليوم أنّها هي صاحبة هذه العلوم، تنسى بأنّ العلوم هي نتاج لتاريخ الحضارات البشرية، التي أصبحت اليوم بنية أساسية تنهل منها الرأسمالية، والتي أصبحت فيما بعد أداةً بيد التجار والسماسرة يحققون من خلالها الربح على حساب المجتمعات التي جعلتها عاجزة عن لعب دورها الاجتماعي والثقافي، ودفعها بطرق شتى إلى الفقر ليكون همها الوحيد البحث عن لقمة العيش، وذلك عبر استخدام كل سبل الحياة ووضعها في خدمتها والتحكم بمصير المجتمعات واستغلالها عبر زرع سياسة “فرّق تَسُد”.
إنّ سياسة “فرّق تسد” أصبحت نموذجاً لكل الأنظمة السلطوية منذ ظهور البطريركية (الذهنية الذكورية) وذهنية السلطة والتحكم. عمدت الرأسمالية إلى وضع معايير غير أخلاقية ولا تتناسب مع ثقافة المجتمع، وذلك بهدف التحكم بها عبر وسائل عديدة من الاضطهاد والصّهر والتهجير، واستغلال الشعوب والمتاجرة بها وكأنّها دمى يتم تحريكها ويُخطط لها بما يتناسب مع المفهوم الرأسمالي والثقافة الرأسمالية.
لو نتمعن اليوم في شبكة الإنترنت وما يرتبط بها من برامج ووسائل للتواصل الاجتماعي سنجد أنّها تتحكم في حياة المجتمعات بشكلٍ رهيب، وكأنّها ضرورة من ضروريات الحياة. فهي تعمل على تهديم الثقافة عبر استغلال العلم بهدف الربح والكسب المادي، بينما وظيفة العلم هي خدمة المجتمعات وهو من إنجازات الإنسان. قالها فيلسوف العصر عبد الله أوجلان “الإنسان هو أقوى تكنيك”، فلولا العقل البشري لما ظهرت الإنجازات العظيمة. بات العقل البشري والعلم مصدراً للربح وكسب القيمة الزائدة لرأس المال وتمّ استغلالهما من قبل السلطة، وهنا يجب إبراز مساوئها للمجتمع والحدّ من تأثيرها السلبي على الثقافة الاجتماعية وقيم المجتمعات.
تدهور القيم الثقافية
جلبت السلطة معها الحروب والويلات والدمار والاضطهاد، وزرعت بذور الفساد والفتنة، وأطلقت عليها مسميات وشعارات براقة لامعة لا يضاهيها أي شيء، ووضعت لها قوانين وأسماء مختلفة وأضفت عليها الشرعية لتكون سبيلاً للعبودية. عملت أولاً على استعباد المرأة وألبستها ثوباً مخملياً مزركشاً وأعطتها ألواناً وأسماءً مختلفة، حتى أنّها أضحت واقعاً مفروضاً على المرأة تقبّلته وكأنّه قدرٌ محتومٌ عليها.
هذه الحالة التي يعيشها المجتمع دون أن ينظر إلى حقيقتها ومبرراتها، وإن كان قدراً مكتوباً على الجبين كما يقال “المكتوب على الجبين لا بدّ أن تراه العين”، ولكن في الواقع يتم من خلال ذلك اكتساب الفرد وتعبئته ليعمل على تطبيق كل ذلك دون أن يفكر به مقنعاً نفسه بأنّه قدره، فالله خلق الإنسان كي يفكر، فأول آية أوحى بها الله هي حثُّ الإنسان على العلم والتعلم. لكن السلطوية تحكمت بالمجتمعات وثقافاتها ومعاييرها، ونظّمت لها الحياة بكل تفاصيلها واحتياجاتها من المأكل والمشرب والملبس، وخير مثال على ذلك؛ سياسة التهجير التي حصلت وتحصل الآن، وما تبعها من إنكار للثقافة واللغة والعادات والتقاليد.
يتعرّض المهاجرون لسياسات الصّهر الثقافي من كافة نواحي الحياة، ويطبقون الأيديولوجية التي تُفرض عليهم سواء بوعي أو دون وعي. بهذه الوسيلة تتم الإبادة الثقافية بحق الثقافة التي كانت روح معنوية وأخلاقية لمجتمعنا، وكانت بمثابة “غذاء الروح” ورفعت من مستوى الكفاءة الاجتماعية وطورتها وأضفت إليها ألوانها الزاهية.
لأجل تحقيق التوزان الذي تطمح إليه المجتمعات وتضحّي من أجله، علينا توعية المجتمع والابتعاد عن الروح العنصرية وتطبيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وذلك عبر نظام يجمع على أخوة الشعوب وفهم معنى سياسة “فرق تسد”. يكون ذلك عبر تحقيق حرية المرأة والمشاركة الفعالة في الحياة الاجتماعية لتكون صاحبة القرار، فبمشاركة المرأة يمكننا بناء مجتمع ديمقراطي تشاركي حيث تشارك المرأة في كافة المؤسسات الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية والتربوية، والعلمية والأخلاقية. بالمرأة تبنى الأوطان ويتحقق التوزان في المجتمع. يجب أن تشارك في جميع مجالات الحياة وأن تكون صاحبة القرار وتساهم في إدارة المجتمع وتوعيته. فهي التي تَغنّى بها الشعراء والكُتّاب، ووصفوها بأنّها “مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق “.
علينا ألا نقع في الأخطاء ولا نقتنع بالبرجوازية التي تَدّعي حرية المرأة بمقياس سلطوي وذكوري، المقياس الذي وضع المرأة في إطار ضيق، وحكم عليها بعدم القدرة على صنع القرار. كما أنّ الذهنية السلطوية منعت المرأة من ممارسة الكثير من الأعمال ووصفتها بناقصة العقل، وخصصت لها أعمالاً ثانوية همّشت دورها الريادي في بناء المجتمع عبر التاريخ. لهذا فمن الضروري إشراك المرأة في كافة مجالات الحياة، فلا يمكن الحفاظ على التوازن، وتخطي الاختلال في موازين الحياة والقرارات الفردية والعنصرية دون مشاركة فعّالة من المرأة وتحقيق المساواة بين الجنسين. حينها يمكننا القول؛ بأننا بلغنا الثقافة الاجتماعية الأخلاقية التي سماها وفسرها علماء الأنثروبولوجيا.
فقط بروح المرأة الواعية بمفهوم الأمة الديمقراطية التي تحتضن كافة المعتقدات واللغات والأديان وفق مبادئ اجتماعية ديمقراطية أيكولوجية حرة، يمكن أن نصل الى الجوهر والمعنى اللغوي والمعنى الإصلاحي للمجتمعات بثقافتها الأخلاقية. هكذا يمكننا إيجاد الترابط والتماسك في أبسط صورة بين أفراد المجتمع وبمختلف أطيافه، وذلك بفهم الفرد للواقع والقدرة على تطبيقه بوعي كضرورة لابدّ منها بالأسلوب الذي يليق به وهويته وأمته ودينه ووجدانه.
الثقافة التي أدت المرأة فيها دوراً عظيماً لا يمكن أن يستهان بها تاريخياً، فمن خلال هذه الثقافة بالتحديد يستطيع الفرد التعبير عن إرادته الحرة، فهي أقوى من أي ثقافة أخرى وهي التي ستساعد الفرد والمرأة على كسب المعرفة والتطور وتحقيق الحرية بشكل أسرع.
المجتمع الواعي من الناحية الثقافية هو مجتمع قادر على تحقيق الديمقراطية المباشرة، وذلك عبر توجيه كل مناهج الحياة وإداراتها بشكل صحيح لبناء مجتمع سليم وصحي، أي ترجمة مشروع الأمة الديمقراطية التي تتبنى ثقافة المرأة كأساس لها للوصول إلى حياة حرة كريمة تتخطى كل المعوقات التي تسبب شللاً في الحياة الاجتماعية. لذلك يعتبر الوعي الاجتماعي من أهم عناصر تقدم وتطور المجتمع، كونه يلعب دور عظيما في استقرار المجتمع ونهوضه، وهذا الوعي هو الذي يشعر الفرد بأنه مرتبط مع باقي الأفراد، ما يجعله يقوم بأداء واجباته الوطنية بأفضل صورة لأن شعوره بالمسؤولية هو الذي يضبط سلوكه وتصرفاته.
بمشاركة المرأة فقط يمكننا التخلص من كل السلبيات التي سببت تشتتاً عميقاً في واقعنا اليوم، فالمرأة هي الأكثر ارتباطاً بالأرض والوطن، ومنها تعلمنا ثقافة حب الإنسان للإنسان، فهي من علمتنا الجمال والأخلاق وبناء شخصية قادرة على التعبير بالفكر والإرادة الحرة. ولا يمكن أن يحدث استقرار اجتماعي ودفء أسري في نسيج الأسرة إلا من خلال الآمن النفسي للمرأة وتلاحمها واستثمار الأوقات التي تُحدث نوعاً من الألفة معها وذلك عبر تجديد وتوطيد العلاقة بين جميع الأطراف.
كما أنه في مسارها نحو تحقيق التقدم الاجتماعي، تقف المرأة المثقفة كقوة ديناميكية ورائدة تلهم التغيير وتتميز بقدرتها على تحمل المسؤوليات الأسرية والمشاركة الفعّالة في الحياة الثقافية، مما يجعلها لا غنى عنها في مساعي بناء المجتمع، كونها حاضنة المجتمع وقوة التغيير، وبناء العقل المدبر والخلية الفاعلة في تهيئة المجتمع قديماً وحديثاًَ، وبذلك نتفق على أن البناء الاجتماعي يتطلب جهودا استثنائية كي يرتكز على أسس سليمة في تطوره ونموّه.
بالنتيجة؛ الثقافة هي كجسد متكامل إذا نقص منه عضو يبقى ناقصاً وعاجزاً، وهذا النقص سواء كان اجتماعياً أو جسدياً فهو يُظهر نمط حياتنا ويوضح مدى ثقافتنا وسلوكنا الاجتماعي والأخلاقي. فمستوى ثقافة الإنسان يبرز مدى فهمه وإدراكه لحقيقته، وإلى أي مستوى يميز الحياة الصحيحة من الخاطئة. يقول أحد الفلاسفة «أيها الإنسان اعرف نفسك! «. إن استطعنا معرفة حقيقتنا الاجتماعية والثقافية، بإمكاننا القول بأننا استرجعنا قيمنا الأخلاقية الشرقية العفوية «الاشتراكية الحقيقية «. يجب أن نبتعد عن كل أنواع التشتت والانقسام والعنصرية التي تخدم أعداء الإنسانية والديمقراطية والأيكولوجيا، وليكن شعارنا «المرأة، الحياة، الحرية» التي كانت ثقافة أمهاتنا قديماً. علينا اليوم أن نعود إلى ثقافتهنّ بالوعي والعلم والمعرفة، فمقولة «اعرف نفسك» تعني أعرف ثقافتك ومجتمعك وشخصيتك وهذا هو أساس الحرية.