أميرات ورائدات الفن والثقافة الكردية عبر التاريخ – هيفيدار خالد

 

أميرات ورائدات الفن والثقافة الكردية عبر التاريخ

“للمرأة الكردية دورٌ قيادي ورائد وفعَّال وبارز

في صون هويتها الثقافية والتعريف بالثقافة الكردية وتطويرها،

فالثقافة تُعتبَر كل شيء حي وجميل ومتألق،

لذا يجب إعطاء الأهمية لها،

لأنّ مَن لا ثقافة له ولا تاريخ، هو بلا حياة”

 

هيفيدار خالد

 

تعرَّضتِ الشعوبُ الأصيلة عبرَ التاريخ لأبشع أنواع الممارسات والانتهاكات المنافية لكافة المواثيق الدولية والأخلاقية والإنسانية، عبر سياسات الإبادة التي تعرضت لها بهدف القضاء على وجودها ومحوها من خريطة الوجود. كان للمرأةِ النصيبُ الأكبرُ من هذه الانتهاكات الممنهجة بكافة أشكالها؛ لأنّها العنصرُ الأساسي في بناء ذاكرة الشعوب وتاريخ المجتمع الإنساني.

للشعبِ الكردي تاريخٌ عريقٌ مع الثقافة والفن والأصالة والأدب والإبداع، ومسيرةٌ مُقاوِمة لا مثيلَ لها في تاريخ الإنسانية من أجل الحفاظ عليها من الاندثار والانقراض، ولذلك الشعب أعوامٌ مشرقة في النضال من أجل تطويرها واستمرارها والنهوض بها، ونقلها إلى الأجيال القادمة، رغمَ العديد من المجازر التي تعرض لها على يد أعدائه، بالإضافة إلى حملات القمع ومنع حريات التعبير المتزايدة ضده.

ودائماً كان للمرأة الكردية دورٌ قيادي ورائد وفعَّال وبارز في صون هويتها الثقافية، فالمرأة والثقافة ثنائيتان لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض. تربيتها لأطفالها ورعايتهم تعدُّ ثقافةً، بالإضافة إلى إعداد الطعام وترتيب أمور المنزل وتأمين متطلباته، فعندما كانت تغني لأبنائها وهم في المهد، كانت في الوقت ذاته تزرع فيهم ثقافةَ الأم الآلهة التي تستمد عظمتها من قِدَمِ تاريخها؛ لذا تمكَّنت من فرض ذاتها في جميع الساحات، ووضعتْ نفسَها دوماً في الصفوف الأمامية، ولعبتْ دورَها الهامَّ والواضح في التعريف بالثقافة الكردية وتطويرها، مُتخذةً منها مصدرَ إلهام في الحياة بكافة جوانبها المختلفة، بدءاً من اللغة والأدب والفن وصولاً إلى الدبكات الشعبية.

كانتِ المحاربةَ والمناضلةَ والمقاتلةَ والقياديةَ، وأيضاً الشاعرة والكاتبة التي اتَّحد قلمها مع نضالها الاجتماعي والثوري والفني، وتسلَّحت المرأة الكردية على مرّ تاريخها بسلاح المقاومة الفكرية وخاضت حرباً شعواءَ بكل إمكاناتها وطاقاتها ووظفتها في خدمة آلام ومعاناة شعبها وإيصال صوتهم وصرخاتهم وآهاتهم إلى العالم أجمع، وفضحت سياسات الإبادة الثقافية والسياسية التي مُورست بحقّ شعبها الذي يحاول العدو بشتى الطرق النيلَ منه وكسرَ إرادته، إلا أنّ المرأة الكردية دائماً كانت له بالمرصاد وترد على هجماته وتتصدى له.  العشرات منهن دخلنَ التاريخ من أوسع أبوابه، وتمكنت تلك المرأة المناضلة من تحقيق إنجازات ومكتسبات حقيقية على أرض الواقع، رغم الضغوطات والصعوبات والتحديات التي واجهتها في درب النضال ومسيرة الفن والثقافة والأدب الكردي، وحافظت على مكانتها دائماً، منهن بصوتها وأخرى بقلمها وثانية بحَنْجَرتها الأصيلة وثالثة بأفكارها النيرة؛ ليكتبنَ كلهُنَّ قصصَ المقاومة ونضال حرية المرأة في كردستان والمنطقة.

ومن تلك النساء المناضلات الباحثةُ الموسيقية الماهرة والمختصة في الموسيقا الكردية جميلة جليل (1940) بيريفان في أرمينا. الموسيقية جميلة التي واصلت العمل على الأغاني والكلمات والنوتات والألحان الكردية لمدة 35 عامًا دون انقطاع في إذاعة يريفان الكردية، وأيضاً الكردية البارزة في تاريخ الشعب الكردي روشن بدرخان (1909) أديبة ومدرّسة كانت تُجيد اللغات الكردية والعربية والتركية والفرنسية والإنكليزية. درست روشن بدرخان في مدارس دمشق حتى أكملت دراستها في دار المعلمات عام 1923، حيث كانت من أوائل المعلمات السوريات، وتعدُّ المرأة الوحيدة التي توجَّهت إلى اليونان لتمثِّل شعبها بمؤتمر مكافحة الاستعمار والعنصرية لحزب ايوكا اليوناني المناهض للعنصرية في عام 1957م، زيّنت نفسها بالزيّ الكردي وهي تحضر هذا الاجتماع لتبرز للعالم عراقة وجمال ثقافتها الكردية، وفي عام 1943م انتسبت إلى الاتحاد النّسائي، ومثّلت سوريا في مؤتمر القاهرة بعد عام من انتسابها.

وفي عام 1955 ساهمت مع مجموعة من المثقفين والنّشطاء الكرد بدمشق في تأسيس جمعية “إحياء الثقافة الكردية”، أنجومن، ومنهم أوصمان صبري. وفي عام 1956 شاركت بتأسيس جمعية “المعرفة والتعاون الكردي” إلى جانب حسن هشيار ونوري ديرسمي وآخرين. برزت تلك المناضلة في مجال التّرجمة من الكردية والتركية إلى العربية والتّأليف وخاصة كتابة الشّعر، ومن كتبها المؤلفة والمترجمة: مذكرات مُعلّمة، غرامي وآلامي، رسالة الشّعب الكردي، صفحات من الأدب الكردي، رسالة إلى مصطفى كمال باشا، مذكرات امرأة، الرّد على الكوسموبوليتية.

كما ظهرت في تاريخ الشعب الكردي نساءٌ شاعرات ومؤرخات، منهن الشاعرة والمؤرخة مستورة أردلاني أو كردستاني أو ماه شرف خانم (1804-1847)، التي تركت إرثاً غنيَّاً في القرن الثامن عشر. كانت صاحبة القلم الذي كسر قيودَ الذهنية الذكورية في مجتمع رجعي ذي طابع سلطوي يقصي دور المرأة بشكل كامل. إذ وثَّقت وطنها في كتابٍ أسمته ب (تاريخ أردلان).

كانت الشاعرة مستورة شخصيةً معروفةً ومرموقة وصاحبة دور كبير في عصرها من خلال الاستماع لأحاديث المواطنين ومعالجة مشاكلهم، وبالتالي استمدت موادها الكتابية الخامة من ثغورهم ودونتها في كتاباتها؛ لتصبح على المدى البعيد توثيقاً لتاريخِ شعبٍ عريق تمتد جذوره لآلاف السنين عمقاً في التاريخ، وأكدت فيه أن بلادها تعرضت لعشرات الغزوات والحروب، وتحولت إلى ساحة للمعارك بين المتحكمين في أرضها، وكان للعلماء والشعراء والتجار في بلادها كفلٌ منها بُغيةَ محو آثار حضارتها، إلا أن تلك الحضارة غُزلت في قصائد أشهر نسائها، وغدت مِشعلاً للأدب الكردي الثوري نسجتها أناملُ امرأة كردية صاحبةِ أدب ثوري موثَّق.

وهُنا يجب ألا ننسى المرأة الكردية التي أخذت مكانها في التعليم ولأول مرة في التاريخ الكردي وهي مسري خان خسروي، المعلمة الكردية للغة والأدب الكردي، والتي تم تعيينها في أول جمهورية كردية “جمهورية مهاباد” في إيران من قبل رئيسها قاضي محمد، ودرّست اللغة والأدب الكردي في مدرسة قلعة “سردار ” بمدينة بوكان القريبة من مهاباد بشرق كردستان، وتوفيت المعلمة مسري خان عن عمر ناهز ستةً وثمانين عاماً، وذلك بعد أن سطَّرت اسمها في تاريخ الأدب الكردي بتعليم المئات من الطلبة الكرد، لتتركَ ميراثاً كبيراً لمئات الأجيال القادمة من بعدها.

وهذه عيششان واحدةٌ من أكثرِ الفنانات الكرديات اللواتي لعبن دوراً هاماً في تطوير الثقافة والفن الكردي بطابعها الخاص؛ لتشكل أحد الأصوات النسائية البارزة ذات التأثير الكبير على الموسيقا الكردية المُعاصرة، رغم أنها برزت على الساحة الفنية في ظروفٍ صعبةٍ للغاية وواجهت العديد من الصعوبات التي اعترضت طريقها، حتى أثبتت وجودَها بقدراتِها الفنية وصوتِها الشجي، منتصرةً على كافّة المعتقدات والتقاليد البالية في المجتمع الذي كان يمنع النساء من الغناء في الأماكن العامة.

شقَّت طريقها بثبات وإصرار منذ بداياتها الفنية، وتميَّزت بقدرتها الفائقة على تجسيد الواقع الفني الكردي وإيصال المشاعر الراقية بحِرَفِيَّة عالية، ما جعلها محبوبةً عند الجماهير وأحد الأسماء التي تركت أثرها في كلِّ حفل تشارك فيه، ومع مرور السنين أصبحَ اسمُ عيششان مرادفاً للاحترافية والتألق دائماً.

واجهت عيششان ظروفاً صعبة في مسيرتها الفينة، حيث نظراتُ ومقارباتُ المجتمع الخاطئة وأحاديثُ الناس السلبية عنها بعض الأحيان، إلا أنّ ذلك لم ينلْ من عزيمتها الصلبة، حيث تعرَّفت في ذلك الحين على فنانين كبار في مدينة عنتاب بشمال كردستان، وبدأت بالغناء بشكل أكثر احترافية بوجود آلات موسيقيَّة. غنّت عيششان باللغتين الكردية والتركية، واشتهرت كثيراً عندما كانت تغني في الإذاعات المحلية؛ إلا أنّها تعرضت أيضاً لملاحقاتٍ كثيرة لغنائها بلغةٍ (كردية) ممنوعةٍ آنذاك في تركيا، الأمر الذي أثّر كثيراً على مسيرتها الفنية.

تألقت عيششان في مجال الفن الكردي من خلال نقل معاناة شعبها والمرأة على حد سواء؛ لتصبحَ من الشخصيات المنحوتة في ذاكرة المستمع الكردي، من أبرز أغانيها: “لي بيمال، غريبم داي، قدره” إذ قدمت برصانة صوتِها إبداعاً في غاية الروعة والجمال، مُحقّقةً تفاعلاً قوياً مع الجمهور، ودائماً ما كانت أغانيها تتناول مواضيعَ وقضايا اجتماعية حسَّاسة وقصصاً إنسانية مليئةً بالتحديات، ونجحت في رسم ملامح شخصية المرأة المكافحة التي تواجه مصاعبَ الحياة بشجاعة وحنكة.

بذلك كلِّه أصبحتْ أسطورةَ الغناء الكردي، ورمزاً للمرأة التي لا توقفها صعاب، كانت إحدى الفتيات الكرديات اللواتي لم يستسلمنَ أبداً في معركة الحفاظ على فنِّها الأصيل، وتحقيق حلمها بأن تُغنِّيَ وهي حرة من الأغلال والقيود التي تُفرَض على الفتيات في مجتمعاتنا. عيششان لم تخف من القواعد والقوانين التي أقصت حقوقها وحاولت قمع إرادتها وحريتها ونفي كيانها طوال حياتها، حتى عندما رحلت لم يرحل ذلك الصوت الشجي، بل بقي في ذهن وكيان كلِّ كردي بقاءَ قضية شعبٍ لن يزول.

ومع بزوغ فجر ثورة حرية كردستان التحقت العديد من النساء اللواتي كن يهتمن بالفن الكردي ويعملن من أجل تطويره، ومن بين هؤلاء الرائدات تبرز الفنانة الكردية الشابة مزكين “غربت أيدن” كأحد الأسماء التي ارتبطت بالمسار الحافل في الفن الكردي الأصيل. حيث أثرت الساحة الفنية بمشاركاتها المتميزة في الفرق الكردية، وهي من شمال كردستان وتعد إحدى المناضلات اللواتي صنعن بنضالهن وفنهن الثوري ميراثاً مهماً من الفن الثوري الكردستاني. عملت على إحياء التراث الكردي بصوتها الشجي واستطاعت خلال فترة قصيرة جداً أن تجذب الكثير للنضال الثوري بصوتها وعمق كلمات أغانيها.

لمع اسم مزكين في مجال الفن الكردي، حيث تركت بصمتها عبر العديد من الأغاني التي تناولت قضايا اجتماعية وثقافية وثورية مختلفة، مثل أغنية ” لو هفالنو، بنكول شوتي، كونديون هاوار” فقد نقلت من خلال أغانيها هذه مأساة إنسانية مفهومة، لتثبت مرة أخرى قدرتها على نقل آلام ومعاناة شعبها، وأصبحت واحدة من أبرز الفنانات الكرديات اللواتي تركن بصمةً واضحةً في عالم الفن في كردستان منذ بداية مسيرتها الفنية، إذ نجحت في فرض حضورها بقوة، لتصبح وجهاً مألوفاً لدى عُشَّاق الفن والغناء الكردي وخاصة الثوري منه. بتفردها الفني وأدائها المميز والرائع استطاعت أن تجمع بين قوة الأداء وعمق الكلمات التي تقدمها، ما جعلها تنال إعجاب جميع من يستمع إليها.

مزكين التي رسَّخت حياتها للنضال من أجل الفن الثوري الكردي، وبطولات أبطال وطن الشمس والنار، كانت فنانةً ومقاتلة ومناضلة وقيادية في آن معاً، فبعد انضمامها إلى النشاطِ الفنّيّ في أوروبا لفترةٍ طويلة وتأسيسها للفرقِ الفنيّة وتطوير النشاط الثقافي هناك. تركت قاعات الأغاني وانخرطت في أسخن ساحة من ساحات النضال في جبال كردستان الحرة لتصبح الكريلا والمقاتلة والفنانة والثورية معاً، ومن ثم القيادية لقيادة الحرب والمقاتلين الأبطال، فحملت السلاح وارتدت الزيّ العسكري وخاضت المعارك في وجه العدو في جميع ساحات النضال والحرب وتميَّزت بأسلوبها القيادي ونضالها البطولي الذي امتزج مع جمال صوتها لترسم بكل ذلك لوحة جميلة تجسد حقيقة الحياة والنضال الذي تقوده المرأة الكردية بإرادتها الحرة في كردستان.

ويجب ألا ننسى الشهيدة شيلان كوباني التي بدأت مسيرتها في فرقة آكري الفنية بمدينة حلب السورية، وكانت من بين المؤسسات للفرقة، وتابعت مسيرتها في روج آفا، وشاركت في مختلف النشاطات والفعاليات التنظيمية، تميزت شيلان الكردية، المناضلة، القيادية، الأديبة، الواعية، الإعلامية، الثورية، المثقفة، المتألقة بزيها العسكري وهيئتها البهية ووجهها الباسم الملائكي الجميل بخصالٍ وصفاتٍ ملفتة تفردت بعمق وصدق علاقاتها الرفاقية، تاركة أثراً بليغاً في نفس كل من عرفها.

طوال مسيرة شيلان النضالية كانت في بحث دؤوب عن الحقيقية وتعمقت في كافة مجالات الحياة والاختصاصات من الناحية الفكرية والثقافية؛ لتخوض معركة حقيقية في مواجهة الصفات والخصائص الرجعية، محدثة بذلك ثورة على كافة المجالات والأصعدة. إلى جانب عملها العسكري شاركت في المجال الفني في بداية مسيرتها الثورية، وحققت إنجازات كبيرة بعد أن بذلت جهوداً خارقة عمقت تراكمها الثقافي، وواظبت على تثقيف ذاتها والانخراط في مشاريع أدبية بالمجال التنظيمي والإنتاجي حيث تمكنت من إدارة المؤسسة الإعلامية والثقافية لحركة حرية كردستان، ولعبت دوراً محورياً في هذه المؤسسات عبر المساهمة بكتابة مقالات سياسية وثقافية وإصدارها لديوان شعري باسم ” عيد الزهور” تعبر فيه عن مشاعرها وأفكارها بكل صدق وجرأة.

ولم تكتفِ بما حققته من نجاحات، بل واصلت مسيرتها الثقافية والأدبية بمزيد من العطاء والإبداع، وأظهرت نضجاً فنياً واضحاً وقدرتها الكبيرة من خلال مشوارها الطويل. أثبتت شيلان أنّها أديبة ثورية حقيقية تحمل في جعبتها موهبة استثنائية ووعياً فنياً عميقاً، خاصة وأنّ رحلتها مع الفن الثوري التي امتدت لسنوات كانت مليئة بالنجاحات والتحديات، وتجسد التزامها الكامل بدورها وهذا ما يجعلها أحد أبرز الأسماء في الساحة الثورية والأدب الثوري.

واستمراراً لذلك الدرب الطويل يتطلب منا جميعاً وكل من يقوم بتطوير الفن الثوري والثقافة الكردية الثورية وخاصة النساء، ضرورةَ الحافظ على الإرث الفني والثقافي الذي ساهم في بناء هويةٍ ثقافيةٍ كرديةٍ غنيَّةٍ بالتنوع والإبداع، بفضل خيرة نساء الوطن الأم كردستان، مع إلهام العشرات من الشخصيات النسائية اللواتي ضحين بحياتهن من أجل أن تبقى الثقافة الكردية باقية وتتمدد وتزدهر وتترك أثراً في كل من يتابعها ويعيش معها، الثقافة تعتبر كل شيء حي وجميل ومتألق بالنسبة للشعوب؛ لذا يجب إعطاء الأهمية لها، لأنّ مَن لا ثقافة له ولا تاريخ، هو بلا حياة.