سدُ تشرين.. رسائلُ حياةٍ إلى السماء وساعي البريد شهيد – الصحفية سيلفا الإبراهيمِ

سدُ تشرين.. رسائلُ حياةٍ إلى السماء وساعي البريد شهيد

“كلُّ أمنيةٍ بعدَ أن تخسر فيها روحاً تصبحُ هدفاً،

 وفقدانُ أصدقائي و زملائي في مقاومة السّد جعلَ من أمنيتي

 بزيارة السّد هدفاً،

كان لا بدّ لي أن أفعلها وأذهب كي أوثق مشاهداً كـتلك

التي وثّقها الشهداء عكيد و جيهان وناظم،

 وأؤكد أنني سأواصل السّير على دربهم ودرب كلّ شهيد

دفع دمهُ ثمناً لنشر الحقيقة،

 في وقتٍ سعى العالم لتزييفها”

 

الصحفية سيلفا الإبراهيمِ

أخيراً توجهنا إلى سد تشرين في اليوم الـ 36 من تناوب الأهالي على حمايته، كانت المنازل مدمرة على طول الطريق، والسيارات متفحمة ومتحولة إلى خردة، والطرق المعبدة باتت وعرة من الحفر التي سببها القصف التركي. كان الحذر من التقدم سيد الموقف، ونحن نقترب من سد تشرين كانت ضربات القلب تزداد، فكنا نقترب من مركز المقاومة الذي أصبح مقصداً لعدسات الصحافة الحرة وأعين العالم. لطالما كانت مشاركتنا في هذه المقاومة أمنيةً، وأن نكون جزءاً منها رغبةً عارمة.

السّد الذي يشكّل درعاً لحماية الشعوب التي أنهكتها الحروب في شرق الفرات، الشعوب التي رسمت حريتها بدمائها، واليوم تسكب المزيد من الدماء لحماية المكتسبات التي دفعت ثمنها فلذات أكبادها. إنّه لأمر عجيب أن ترى مجتمعاً يدفع ثمن الحصول على أبسط مقومات الحياة، والثمن ليس مالاً بل دماءٌ أو جزءٌ من الجسد.

إنّ القوافل التي تتوجه إلى سد تشرين تيمّناً بمقاومة كوباني تحارب أقران داعش في السد لوحدها. الكرد يدركون جيداً بأنّ الأمم المتحدة والمجتمع الدولي صمٌ بكمٌ عميٌ تجاه المشهد، ينتظرون الورقة التي تخدم مصالحهم لتتظاهر بأنها معنية بحقوق الإنسان، كذلك الأرمن أدركوا بأنّ الإبادة التي التهمت مليون ونصف المليون أرمني تلوح في الأفق إن تجاوز هذا الاحتلال سد تشرين، والعرب أيضاً لم ينسوا بعد رؤوس أبنائهم التي عُلّقت في الساحات وبات الخوف يسيطر على تفكيرهم فيما إذا تكرر المشهد مرة أخرى لكن هذه المرة بسيوف عثمانية، أما عن أهالي عفرين الذين عاشوا التغريبة والنزوح فقد علموا جيداً بأنّ تجاوز الاحتلال لهذا السد سيعيد التغريبة مرات ومرات.

لم تعد تلك المسنة التي تحمل دواءها في يدٍ وعكازتها في يدها الأخرى تنتظر أن يتحرك المجتمع الدولي لإيقاف آلة الحرب التركية، لأنّها فقدت ابنها الوحيد وهو يدافع عن هذه الأرض، فلم يعد هناك ما تلتفت إليه، كان فقدان ولدها الجرح الكبير الذي لن يندمل، كان حلم هذا الشاب أن يرى أرضه محررة، لم يعد يأمل ذلك الطفل الذي فقد والده في محاربة تنظيم داعش الإرهابي أن يردّ المجتمع الدولي الجميل لوالده لأنّه حارب نيابة عن الإنسانية جمعاء، ويوقف الاحتلال الذي حصد و يحصد أرواح الصغار قبل الكبار.

لم تعد تلك النازحة من سري كانيه تقبل أن يتحكم الاحتلال بمياههم وكهربائهم بعد أن استخدم الاحتلال محطة علوك ورقة ضغط على أهالي الحسكة والنازحين القاطنين فيها، وقطعَ عنهم الماء ليضطر الأهالي لشراء الماء رغم الظروف الاقتصادية الصعبة. تلك الشابة العفرينية تقول بأنّ أغلب من استشهدوا على هذا السد لم تتجاوز أعمارهم الثلاثين، وتشير بكلماتها بأنّ ربيع أعمارهم صادف خريف أوطانهم، ولكنهم ورغم ذلك ظلوا على يقين بأنّ هذا الخريف لن يدوم طويلاً وسيعود الربيع حاملاً معه شعلة كاوا الحداد لإعلان النصر، وهذا النصر بحاجة لمقاومة وتضحية، وهي الأخرى كجميع بنات وأبناء جيلها في هذه المقاومة تلعب دوراً ريادياً.

لم يحمل الأهالي الأسلحة أثناء توجههم لسد تشرين، بل كانوا يحملون رسالة سلام لإيقاف هذه الحرب، فالبعض كان يحمل آلته الموسيقية والآخر يغني، بينما كان الصحفيون يحملون عدساتهم وأقلامهم لينقلوا هذه الصورة للعالم أجمع، ويدونوا هذه اللحظات التاريخية، ويكونوا شاهدين على مقاومة شعب رفض الاستسلام ورفع رأسه أمام الغزاة، ويخبروا العالم بأنّ هذه الشعوب تمت محاربتها بالطائرات والدبابات والأسلحة الكيماوية، وأنّهم استشهدوا دون أن ينحنوا لأحد.

اقتربنا من جسم السد وكانت هناك حشودٌ كبيرة في استقبال قافلتنا القادمة من مقاطعة الجزيرة بشمال وشرق سوريا. تم الاستقبال برفع أعلام قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية المرأة من قِبَل الأمهات الطاعنات في السن، وكذلك الشبان الذين يعتلون السيارات التي دمرتها الطائرات، ويرفعون إلى جانب الأعلام صور شهداء المقاومة الذين كانوا من ضمن المناوبين على جسم السد واستهدفتهم الطائرات المسيرة، أيضاً كانوا يحملون لوحات أخرى تجسد سد تشرين في مشهد دموي تتصاعد منه أعمدة الدخان إشارة إلى المجازر التي ارتكبها الاحتلال التركي فيه، كانت الشعارات المختلطة بصافرات السيارات وزغاريد النساء تتعالى أكثر فأكثر كلما اقتربنا من الحشود.

شعار “المقاومة حياة” كان سيد الشعارات التي يهتف بها المقاومون على جسم سد تشرين، هذا الشعار الذي أطلقه للمرة الأولى الثائر الكردي مظلوم دوغان في السجون التركية، والذي يعني في مضمونه أنّ الحياة بدون مقاومة هي استسلام وعبودية. على جسم هذا السد وبعد عقود من الزمن أحيت هذه الأمة هذا الشعار لتحتج بروح الشهيد مظلوم دوغان وتوجه رسالتها للاحتلال بأنّه شعب اختار الموت واقفاً على أن يحيا راكعاً. عندما وصلنا كان الناس هناك يرحبون بنا من كلا الجانبين بالهتافات ويهنئون انضمامنا للمقاومة الملحمية التي يسطرها سد تشرين، كان كرد مدينة كوباني وأريافها يواصلون مناوبتهم لليوم السادس قبل وصولنا، سارعتُ بالنزول من السيارة لالتقاط الصور وتسجيل بعض مقاطع الفيديو لذلك المشهد الذي تعجز الكتابة عن التعبير عنه. الطائرات كانت تحوم فوقنا في مشهد يتحدى فيه الشعب طائرات الاحتلال وهو لم يحمل سلاحاً أو رصاصة واحدة، ولكنه حمل إصراراً كبيراً لحماية السد من الغزاة بالزغاريد وترديد شعارات “المقاومة حياة” ،”لن نتخلى عن سد تشرين” ، “وعدنا لك يا شهيد أننا لن نتوانى عن مواصلة دربك” باللغة الكردية.

التقيت خلال الاستقبال بزملائي وزميلاتي الإعلاميات والإعلاميين الذين كان ترحيبهم لا يقل عن الترحيب الذي أبدته الحشود في استقبالنا، كان الإعلام هنالك يعاني من مشكلة الإنترنت وعدم توفره وضعفه في حال الحصول عليه. ما أثار دهشتي أنّه كيف لهؤلاء الإعلامين في هذه الظروف الصعبة أن ينقلوا الصورة الكاملة عن المقاومة وأن يستطيعوا توثيقها بشكل مرئي، فالعالم في الخارج يتداول هذه الفيديوهات والصور ولا يعلم كيف تم التقاط هذه الصور وتسجيل هذه المقاطع وتحت أي ظرف تم ذلك ولا كيف تمّ إرسالها. لكن من يأتي إلى سد تشرين يكون شاهداً حيّاً على هذه التفاصيل التي يتمنى كل شخص أن يعيشها.

كان من بين المتواجدين هناك حين وصولنا الإعلامي المنحدر من مدينة عفرين عكيد روج، الذي لمع اسمه في مقاومة العصر عام 2018 عندما شن الاحتلال التركي ومرتزقته هجوماً على عفرين، وكان من أبرز الإعلاميين الذين وثقوا انتهاكات الاحتلال التركي بجانب المقاومة التي كان يبديها شعبنا في عفرين، وبعدها برز اسمه وكذلك عمله في الشهباء عندما كان يتنقل بين النازحين ويشاركهم معاناتهم بعدسته ليصبح المنبر الذي يوصل رسالتهم للعالم، وهو كصحفي لم يكن يصور المشهد ويعتبر نفسه خارجه، بل هو وعائلته أيضاً هُجروا من عفرين قسراً وعاشوا نفس المعاناة التي عاشها كل شخص في مخيمات الشهباء. كنتُ من المحظوظات بلقائي لهذه القامة الإعلامية في ثورة روج آفا. بعد أن توسع نفوذ الاحتلال في منطقة الشهباء وتل رفعت عاش مهجرو عفرين تغريبة ثانية واتجهوا نحو مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية في شرق الفرات، ورغم كل المعاناة التي عاشوها إلا أنّهم ظلوا يقاومون في أي مكان يتواجدون فيه، والابتسامة التي لم تغادر وجه عكيد كانت تجسد صمود عفرين في شخصيته.

شكّل المشاركون في سد تشرين بقصصهم وبمسيرتهم الأليمة في هذه الثورة حلقة المقاومة حول النار، تلك اللوحة التي لا يراها العالم إلا عندما يكون جزءاً من هذه المقاومة المختلطة بلون كوباني وعزيمة أمهاتها، الأهازيج الفراتية وتراثها ولحنً الجزيرة وناي عفرين وحتى روح شباب مخمور في روج آفا كانت حاضرة في هذه اللوحة.

قمت بفتح الكمبيوتر الخاص بي لأفرغ الفيديوهات والصور التي التقطتها، لكن فوجئت بأنّ هناك مشكلة في الصوت. بدا الأمر أنّ إعداد الصوت يسحب الصوت الخارجي أكثر من الصوت الداخلي الواصل على المايك، ولأنّ عكيد يملك من الخبرة في الإعلام والتكنيك بحراً استنجدت به ليحل لي تلك المشكلة، استجاب فوراً لطلبي، وأخذ يغيّر في إعدادات الصوت وبين كل تغيير يجريه كان يأخذ مشهداً لي أو آخذ مشهداً له لنتأكد من تحسن الصوت، كنت أقول في نفسي بينما هو يعمل هذه المشاهد أظنها ستبقى في ذاكرة المقاومة، لحظات تخللها الضحك والمزاح ونحن نسجل تلك المشاهد والطائرات الحربية تقصف محيط السد دون أن نبالي ذلك لأننا اعتدنا أن نستيقظ على أصوات القنابل بدلاً من زقزقة العصافير.

في اليوم الثاني قمنا بتحضير الفطور الذي لم يتوفر فيه لا خبز ولا كأس لشرب الشاي، هنا طبقنا مقولة “الحاجة أم الاختراع”، فالبعض منّا استعان بقناني الماء  لشرب الشاي حيث كان له مذاقٌ مختلف، لربما لو كنا في المنزل لتدللنا على أمهاتنا بهذا، ولكن عندما تكون في مركز المقاومة كل شيء يبدو مختلفاً وله نكهة فريدة. بينما كنا نتناول الفطور أخبرونا أنه خلال بضع دقائق سيبدأ الأهالي بفعاليات الاحتجاج، لم أكمل الإفطار وسارعت في تجهيز عدة التكنيك، أخبرني الرفيق عكيد بأنّ بضع دقائق غير كافية لبدء الفعالية هي فقط استعداد للاحتجاج. كان ذلك بناء على تجربته في تغطية فعاليات احتجاج الأهالي، واصلت في تحضير التكنيك وارتديت الدرع الواقعي والخوذة الخاصة بالصحفيين. علق عكيد روج على ذلك بالقول: “لم يلتزم أحد بارتداء هذه الدروع للحماية، أتظنون أنّها ستحميكم كان لدي خمسة منها ووزعتها على زملائي الصحفيين، واليوم أنا بدونها لأنّي لا أؤمن بأنّها ستحميني، لذلك لا أقوم بارتدائها …”

هنا تذكرت الصحفيين جيهان بلكين وناظم داشتان الذين استشهدا بقصف مسيرة للاحتلال التركي، وكان الاحتلال التركي يتباهى باستهدافهم بينما يهدد صحفيين آخرين، حينها وصلت إلى يقين بأنّ تلك الدروع هي أداة حماية أمّا الآن فيتم إخفاؤها لأنّها لا تجلب إلا التهديد والقتل، لأنك تنطق بالحقيقة في وقت يتم فيه تزييف كل شيء. عندما استهدفوا زملاءنا الصحفيين ادعوا بأنّ ما ينشرونه يهدد أمنهم القومي، ولكن كيف لعدسة صغيرة أن تهدد الأمن القومي لدولة ما، هم كانوا ينطقون بالحقيقة، والحقيقة تهدد أمن الإرهاب الذي يمولونه، وتهزّ عرش أردوغان المبني على جماجم الكرد والأرمن.

نظرت إليه وأنا مقتنعة برأيه، ولكن كانت التوجيهات تؤكد على ضرورة ارتدائها، توجهنا إلى مكان الاحتجاج ومرت عشر دقائق ولا يزال الأهالي يتوجهون، هنا تذكرت حديث عكيد وقلت في نفسي لو أصغيت إليه لأكملت فطوري. مرّت دقائق أخرى حتى بدأت فعاليات المقاومة وترديد الشعارات، أشعلوا النار وبدأوا يشكلون حلقات الدبكة حولها، وبينما الأهالي يواصلون فعالياتهم نفّذت طائرات الاحتلال التركي غارتين على محيط السد ما أثار رد فعل نسائي بزغاريد كأنّه تحدٍّ على إصرارهم في مواصلة مقاومتهم بالهتافات ضد الاحتلال التركي وأخرى داعمة لقوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية المرأة.

المقاومة على سد تشرين بذلك الشكل كانت بمثابة رسالة كبيرة ومباشرة، واستعراض لقوة شعوب إقليم شمال وشرق سوريا، تلك المقاومة أكّدت أنّه وعلى الرغم من كل الضربات التي وجهها الاحتلال التركي لهم، والدمار الذي تسبب به القصف التركي في سد تشرين ومحيطه، واستهدافهم المباشر للمناوبين لحماية السد والذي نتج عنه استشهاد 24 شخصاً وأكثر من 220 جريحاً من المدنيين، وصحفيين وفرق طبية، إلاّ أنّهم ما زالوا يجددون العهد بأنّهم لن يتخلوا عن السد الذي أطلقوا عليه اسم سد الشهداء. هذا المشهد هو تجسيد للشعار الذي رددته تلك الفتاة من كوباني “نحن أكبر من الموت”. فهم وعلى الرغم من الطائرات التي تطارد أرواحهم لم يتراجعوا عن قرار المقاومة لأنهم أدركوا بأنّ خسارة السد هي خسارة الحياة، فقرروا مواجهة الموت من أجل الحياة، وهنا نتذكر قول الشاعر محمود درويش “ونحن نحبّ الحياة ما استطعنا إليها سبيلا” وقول الثائر الكردي مظلوم دوغان “نحن نحب الحياة لدرجة الموت من أجلها”.

أخذنا ما يكفي من الصور والفيديوهات وحتى مشاهد القصف الممتزجة مع زغاريد الأمهات وشعارات المقاومة، قمت بإفراغ ما التقطته عدستي على جهاز الكمبيوتر، فتحت أحد الفيديوهات لأتأكد من أنّ صوت المايك جيد هذه المرة، تفقدت الصوت كان ممتازاً، سألني الرفيق عكيد روج عن الصوت فيما إذا كان جيداً فأجبته بنعم وشكرته على مساعدتي، ثم سألني:

  • هل رأيتِ الفيديو الذي أخذته للقصف مع أعمدة الدخان المتصاعدة بجانب إشارات النصر للمحتجين؟
  • لا لم أشاهده، أرني إياه.

كان مشهداً يتعالى فيه صوت المحتجين، بينما تقترب العدسة لتركّز على الدّخان المتصاعد، ويعود الفيديو لإطاره الواسع حيث الأهالي يحتجون ويتحدّون طائرات الاحتلال.

أبديت إعجابي بالفيديو وأخبرته بأنّ هذا المشهد يجسّد إصرار الشعب في بقائه على السد رغم الموت الذي يحيط به، أيّد ذلك وأضاف بأنّ هذا الفيديو تداولته جميع القنوات التلفزيونية والوكالات الإخبارية، وأكّد بأنّ جميع الفيديوهات التي يلتقطها يشاركها مع الجميع دون أن يضع لوغو خاص به.

لم يهتم عكيد بكشف نفسه أو وجهه الإعلامي حينما كان يوثق هجمات الاحتلال كغيره من الإعلاميين، كان همّه الوحيد توثيق ذلك حتى دون أن يشير إلى أنّه هو من التقط تلك الفيديوهات والصور، ذكّرني بالشهيدين ناظم وجيهان اللذين كانا يعملان دون كلل أو ملل وبصمت دون أن يقدموا أنفسهم على مواقع التواصل الاجتماعي أو غيره وهم على رأس عملهم، رغم أنّ ما كانا يوثقانه يتداوله الجميع على شاشة التلفزة، ولكن عندما استشهدا كان عملهم كفيلاً بأن ينطق بالجهود التي بذلاها في توثيق هجمات الاحتلال وخسارته وهم بجانب مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية يواجهون آلة الحرب التركية بعدساتهم.

وبينما كنا نتحدث عن تداول الفيديوهات وما إلى ذلك أخبرني أنّه صوّرَ احتجاجات الأهالي بطائرة الدرون أثناء الهجمات التي شنها الاحتلال التركي على مدينة عفرين، وأنّ ذلك الفيديو انتشر وأستخدم بشكل واسع، هنا أدركت أنّ لكل معركة ومقاومة أبطالها، ولكن يبقى الإعلامي ذلك الجندي المجهول الذي يعمل وراء الكواليس، فمن يعلم بأنّ من كان يوثق وحشية الاحتلال في عفرين يوثقها اليوم في سد تشرين، ومن يعلم بأنّ من كان يوثق معاناة النازحين يوثق اليوم وبنفس العدسة مقاومة المحتجين. رددت في نفسي عكيد بطلٌ في مهنته الإعلامية تشهد عليه جبال عفرين وشوارعها وأهلها، وتعرفه أزقة الشهباء والخيم المهترئة التي كان يوثقها بعدسته، يعرفه المناوبون على سد تشرين ويدرك ذلك أصدقاؤه الصحفيون ويعرفه الاحتلال التركي أيضاً.

استذكر عكيد مع الإعلامية سوزدا أورمار بعضاً من اللحظات وذكريات مقاومة عفرين وكيفية توثيقهم لذلك،  كانت رفيقته في تغطية مقاومة العصر في عفرين واليوم يجتمعون في مقاومة أخرى هذه المرة على نهر الفرات في سد تشرين. عكيد أخبرني بأنّ جميع الفيديوهات التي يوثقها على صفحته تتعرض لهجمات إلكترونية من قبل الاحتلال التركي ومرتزقته، حتى الفيديوهات التي تكون مرفقة باسمه على صفحات أحد زملائه تتعرض للبلاغات، أدرك عكيد حينها بأنّ اسمه بات محظوراً لأنّه الاسم الذي كان شاهداً على حقيقة العدو. سألته ذات مرة فيما إذا كان يفكر في تغيير اسمه لكي لا يتم حظر ما يقوم بنشره ؟ ردّ بثقة طبعاً لا! لن أغيّر اسمي من أجل محتل يودّ النيل من عزيمتنا في كشف الحقائق.

كان يوم الخامس عشر من شهر شباط اليوم الأسود الذي اعتقل فيه المفكر الأممي عبد الله أوجلان والذي تعتبره شعوب المنطقة الفلسفة التي تبزغ منها شمس الحرية، لكن هذه المرة اليوم الأسود كان يحمل معه بذرة الأمل، كان من المقرر أن يظهر بشكل مرئي وهو يلقي دعوة السلام والديمقراطية، كان الجميع ينتظر بشغف ظهور الفيلسوف عبد الله أوجلان لإنهاء السواد من هذا اليوم، ولكن السلطات التركية أجلت الخطاب خمسة عشر يوماً، مع ذلك فالأمل لدى الأهالي لم ينقطع بتاتاً، بل توجهوا وألقوا بياناً استنكروا فيه المؤامرة الدولية والتماطل في قضية السلام التي دعا لها المفكر عبد الله أوجلان لأنّ أول خطوة نحو السلام ستكون عبر خطابه.

هذا اليوم كان اليوم الأخير لنا، بعد قدوم وفد من أهالي مدن ديرك، جل أغا، وكركي لكي، ورميلان من مقاطعة الجزيرة يوم الرابع عشر من شباط ليواصلوا فعالية المناوبة ويستلموا راية الحماية من أهالي الحسكة وتل تمر، بعد اجتماع الوفدين وتسليم دور الحماية لأهالي مدن مقاطعة الجزيرة، اجتمعنا مع رفاقنا الصحفيين لنلتقط صور تذكارية مع بعضنا، وبينما كنا نستعد لأخذ صورة جماعية، جاءت رفيقتنا سوزدا معاتبة لأننا لم نقم بدعوتها لالتقاط الصورة معنا، اعتذرنا منها ودعوناها بكل حب لتكون جزءاً من الصورة والذكرى التي ستبقى خالدة في أرواحنا، جمعت الصورة بيننا حيث كان عكيد واقفاً إلى جانبي وقبل أن أودعه وأذهب طلبت أن يلتقط لي صورة بجانب السد لأنّه كان محترفاً بالتقاط الصور من الزوايا المناسبة والجميلة، صافحته للمرة الأخيرة مودعة وطلبت منه أن يأتي معنا إلى الحسكة، ردّ عليّ قائلاً: لا يمكنني ذلك مهمتي لم تنتهِ في سد تشرين. ودعته وأنا أردد في نفسي كم أنت محظوظ يا عكيد لأنك تعيش هذه اللحظات التاريخية، ومن ثم أكملت مصافحة وتوديع جميع زملائي. هكذا توجهنا إلى سيارتنا التي ستنطلق مع القافلة المؤلفة من عشرات السيارات، وبينما نستعد للركوب بدأت الطائرات تحلّق بشكل مكثف وتقصف يمين السد وشماله والدخان يتصاعد وأصوات القصف لم تهدأ، لا نعلم أي ضربة ستنال منا وتحصد أرواحنا لأنّ طائرات الاحتلال تستهدف الجميع دون استثناء، استطعت أن أصور بهاتفي صور الدخان وهو يتصاعد، وكانت القافلة كبيرة شكّل ذلك زحمة وصعوبة في الانطلاق والابتعاد عن جسم السد بسرعة.

بعد دقائق معدودة سمعنا صوتاً قوياً، لم نعلم أين تم القصف نتيجة ازدحام السيارات، بدأت السيارات تمشي وتبتعد عن جسم السد، كانت المغادرة صعبة لأنّ الأيام التي قضيناها في السد لا تنسى، كانت أياماً مليئة بالمصاعب والإصرار على إنجاز أفضل عمل، وكأنّه مشهد مكرر فقبل أيام كنا نقترب من السد واليوم نبتعد وقلوبنا تبقى معلقة هناك، لم تقف الطائرات عن التحويم فوق القافلة، وصلني إشعار رسالة من الرفيق يزن (مصور في قناة روناهي) وهو يسأل والخوف يخيّم على كلماته هل أنتم بخير؟ أجبته نعم بخير ماذا حدث؟ أخبرني بأن الغارة الأخيرة التي نفذتها الطائرة استهدفت المحتجين على جسم السد، هنا أصابتني الصدمة وأنا أتخيل الحشد الكبير من المحتجين على جسم السد، راسلت عكيد لأنّه كان مع المناوبين لأطمئن عليه وعلى رفاقنا وعلى الأهالي، وصلت رسالتي ولكن كان هاتفه خارج شبكة الإنترنت، أرسلت لجوانا أيضاً كانت خارج شبكة الإنترنت، عدت وتواصلت مع رفيقي في قناة روناهي هل أصيب أحد بالقصف؟ أخبرني بأنّ عكيد جريح وإصابته بليغة في الرأس، هنا كانت الصدمة أكبر.

كانت القافلة تسير بينما قلوبنا معلقة في السد، والقلق يخيم على جميع من في السيارة لأنّ الطائرة لا تزال تحوم فوق القافلة وتقصف جميع الجهات، توقفت إحدى السيارات وسببت أزمة مرورية، رأيت سوزدا تصرخ وتطلب من السيارات التحرك بسرعة لتسهيل مرور سيارة الإسعاف فهناك جرحى في حالة حرجة ويجب أن يصلوا إلى المشفى بأسرع وقت، هروَلتُ نحو السيارة وسألتُ سوزدا من المصاب هل عكيد بخير؟ نظرتْ إلي وعيناها مغرورقتان بالدموع والتزمت الصمت هنا أدركتُ أن هناك شيء ليس على ما يرام، تفرقت السيارات وذهبت سيارة الإسعاف وأكملت القافلة طريقها، فوجئنا بدخان يتصاعد من بعيد علمنا أنّه تم استهداف إحدى السيارات التي كانت تسير أمامنا، قلت في نفسي أيعقل أن تكون سيارة الإسعاف هي المستهدفة، وعندما اقتربنا رأينا سيارة من نوع كيا قد أزيحت عن الطريق وانقلبت وبدأت تحترق. قلبي كان يحترق في اللحظة ذاتها كنت أتخيل أنّ هناك من يقود هذه السيارة وهذه إشارة إلى أنّ هناك إصابات جديدة، استطعت أن ألتقط صوراً وفيديوهاتٍ لذلك المشهد، والخوف والقلق والحزن ووداع السد مشاعر كانت تغزو روحي، فضلاً عن رسائل الاطمئنان التي تصلني من عائلتي وأصدقائي والتي لم أستطع الإجابة عليها سوى بالقول: إنني بخير. قلبي لم يكن بخير فالألم يعتصره والدموع تتغرغر في عيني وأنا أدعوا أن يبقى عكيد بخير، في هذه الأثناء وصلتني رسالة من يزن يقول فيها أنّ عكيد استشهد.

لم تختلف تلك الصدمة عن صدمتي باستشهاد رفيقي ناظم وجيهان أثناء تغطيتهم المعارك في الخطوط الأمامية من جبهات سد تشرين، حين أرسلت رسالة لجيهان بلكين لأطمئن عليها وعلى الرفيق ناظم داشتان و لم تصلها رسالتي لأنّ هاتفها كان خارجاً عن شبكة الإنترنت، ظننتها مشغولة في إعداد تقاريرها الإخبارية من خطوط التماس، لتخبرني رفيقتي شيلان كوباني بعد ساعة بأنّ ناظم وجيهان قد استشهدا، كذلك كانت صدمتي باستشهاد عكيد الذي لم يمض زمن على وداعي له.