تحريرُ المرأة قضيةُ نهضةٍ لمجتمعٍ بأسره – جيان ديرك
تحريرُ المرأة قضيةُ نهضةٍ لمجتمعٍ بأسره
“لا بدّ لنا كنساء أن نضعَ يدنا على جرحنا الذي ينزفُ لقرون،
ونَعي أنّ المكان الذي تنزفُ منهُ دماؤنا تحت مسمّيات متفاوتة
بفعل الذهنيّة الأبويّة الذكوريّة
لا بدّ أن نُشخّصَ عواملَهُ ونصفَ دواءً له
كي نكونَ من روّادِ ثورةِ المرأةِ العالميّة المقبلة في هذا القرن”
جيان ديرك
في ظل التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم في هذا القرن ( القرن الواحد والعشرون)، تواكبُ المرأة العربية تحديات عديدة تعود جذورها إلى تراكمات تاريخية وثقافية في الشرق الأوسط. تتخذ هذه التحديات أشكالاً متنوعة من التمييز الجنسي، حيث تُفرَض قيود صارمة على حقوق المرأة وحرياتها، وتُبَرر هذه القيود في أغلب الأحيان تحت مظلّة الأعراف والتقاليد الاجتماعية، بالتالي تتراكم القضايا والأزمات الاجتماعية المتجذّرة من قضية الحرية والمساواة.
على الرغم من هذه العقبات، تشهد المرأة العربية موجة تصاعديّة من الوعي، حيث تسعى النساء العربيات إلى كسر حواجز النمطيّة والتهميش والانضمام إلى نضال المرأة العالمي، وهذا ما نجده غير كافياً لما للمرحلة من حاجات تستوجب نضالاً مكثفاُ وشاملاً. تزداد أهمية تسيير هذا النوع من النضال وربطه بثورة المرأة المنبثقة من فكر الفيلسوف عبد الله أوجلان والتي تسعى لتوحيد الجهود لتحرير المرأة من جميع أشكال الإقصاء والتهميش والعنف بكل أشكاله، مما يجعل السؤال الرئيسي هو كيف للمرأة العربية مواجهة هذه المعوقات وأيضاً المشاركة في ثورة المرأة الفكرية والاجتماعية العالمية ؟
إنّ هذا القرن يتطلّب استراتيجية عملية شاملة وقدرات فكرية للتصدّي لكل التحدّيات في الجانب العملي. يشمل ذلك فهم الجذور الحقيقية لقضيّة الحرية، والعمل على الحدّ من المعتقدات المجتمعية المتخلفة، وإيجاد نقاط التقاء مع ثورة المرأة العالمية التي ستفتح آفاقاً جديدة نحو التغيير، ووضع نظام بديل عن الأنظمة الرأسمالية والذكورية السلطوية.
في خضم هذه المرحلة التي تتسارع فيها التغييرات الاجتماعية، وتتصاعد فيها دعوات النساء لإيقاف السياسات المجحفة بحقهن حتى وإن كانت جهوداً غير منظمة، لا تزال المرأة الشرق أوسطية تواجه واحدة من أعمق مظاهر الظلم أي العنف ضدها. إنّ تعريف هذه الظاهرة على أنّها أخطر أشكال التمييز على مبدأ الجنس لم يعد كافياً، نظراً لما تضاف إلى هذه الظاهرة من أساليب بشعة ترتكب بحق الجنس النابض بالحياة. فلا يزال العنف ضدّ المرأة يهدد كيانها ويديم دائرة القمع المجتمعي. غالباً ما يتمّ تبرير هذه الانتهاكات تحت غطاء العادات والتقاليد، ما يجعل مناهضة العنف ضدها ليس فقط ضرورة إنسانية، بل أيضاً خطوة أساسية نحو تفكيك الأسس الاجتماعية التي تُكرّس الحياة للرجل وتضع المرأة بين فكي العبودية والتبعيّة له.
لمواجهة هذا الواقع الذي بات واقعاً لا يطاق، وفي مرحلة عصيبة مرّت بها سوريا، وتحديداً مدينة الرّقة التي عُرفت في فترة من الزمن بمعقل مرتزقة داعش، وتمّ تحريرها بأفواه بنادق بنات وأبناء سوريا الأحرار من الكرد والعرب، عملت النساء العربيات اللواتي عانين من الأمرّين على إعادة تعريف دورهن في المجتمع العربي تحت مظلة “تجمع نساء زنوبيا”، وسعوا إلى الانضمام إلى ثورة المرأة المنبثقة من شمال وشرق سوريا، والتي تجعل من قضية الحرية محوراً أساسيّاً نحو إجراء تغيير فكري واجتماعي واسترداد حقوق المرأة المسلوبة.
تجمع نساء زنوبيا مؤمن تماماً بحق المرأة في حياة كريمة تتمتع فيها بكامل حقوقها المشروعة في كل مجالات الحياة. ضمن هذا التجمع وقفت المرأة بشجاعة في وجه التحديات. وعملت على إطلاق العديد من المبادرات والحملات لمناهضة العنف، والتي كانت نواةً لنضالها في تحقيق التغيير الجذري في المفاهيم السائدة التي تُهمّش وتعرقل مسيرتها، متسلحةً بالوعي وتنظيمها الخاص المميز.
للوصول إلى مجتمع سليم يشمل كافة الحريات ما بين الجنسين، يجب أولاً كنساء أن نضع يدنا على جرحنا الذي ينزف لقرون، ونعي أنّ المكان الذي تنزف منه دماؤنا تحت مسميات متفاوتة بفعل الذهنية الأبوية الذكورية لا بدّ أن نشخص عوامله ونصف دواءً له، كي نكون من روّاد ثورة المرأة العالميّة المقبلة في هذا القرن.
العنف ضد المرأة ما بين الأسباب والآثار والحلول
من العوامل الرئيسية التي تغذي ظاهرة العنف هي الهيمنة الذكورية والجنسوية الغالبة على مجتمعاتنا الشرق أوسطية، بحيث يتمّ تقليص دور المرأة إلى كونها مجرد تابعة للرجل، مما يجعلها عرضة للعنف وسيطرة الجنس الآخر. يؤثر هذا المفهوم على سلوكيّات وحياة الرجل أيضاً، ويُساهم في الاعتقاد بأنّ الرجل له الحق في التحكم بحياة المرأة وحتى إنهائها في أغلب الحالات.
لا شك أنّ الأعراف والتقاليد البالية كانت السبب في تشريع قتل المرأة تحت مسمّى “الشّرف”، بل وتمّ استغلال التقاليد السائدة دون وعيٍ مجتمعي لتبرير قتل المرأة، وما يضاعف هذه الجرائم هو عدم وضع تشريعات وقوانين تحمي المرأة من العنف والقتل تحت أي مسميات كانت، وإن وجِدَتْ في دساتير بعضٍ من الدول، فإنّ التطبيق الفعلي لهذه القوانين يظل ضعيفاً، مما يُشجّع الرجل على ارتكاب جرائمه دون خوف من العقاب. بالعودة إلى واقع المجتمعات النامية نجد أنّ الظروف الاقتصادية الصعبة تؤدي إلى زيادة الضغوطات النفسية، وتحمل المرأة أعباءها وعلى العائلة التي تديرها المرأة بشكل طبيعي، مما يجعلها ضحية سهلة للعنف. كما أنّ البطالة والفقر يلعبان دورًا كبيراً في تفاقم هذه الظاهرة عالمياً.
العنف ضد المرأة بمختلف أشكاله، يُعدّ من أبشع انتهاكات حقوق الإنسان التي نشهدها في القرن الحادي والعشرين، وما زالت تُمثّل أزمة عالمية. من المهم أن نشير إلى الإحصائيات التي قدّرت بأنّ امرأة تُقتل كل 11 دقيقة على يد شريكها أو أحد أفراد أسرتها، وأنّ امرأة من أصل ثلاثة تتعرض للعنف، هذا يعكس فشل الدول والمجتمعات في التصدي لهذا العنف الممنهج. بطبيعة الحال فإنّ جرائم قتل المرأة أو العنف ضدّها ليست قضية فردية فحسب، بل لها آثار عميقة تطال المجتمع بأسره. إنّ قتل المرأة يؤدي إلى تفكك النسيج الأسري، ويؤثّر بذلك على الأطفال الذين قد يعانون من صدمات نفسية طويلة الأمد، وبالتالي؛ فكل جريمة قتل تؤدي إلى ترسيخ ثقافة العنف وتزيد من إمكانية وقوع مثل هذه الجرائم. لذا لا بدّ من التأكيد على أنّ المرأة هي عمود أساسي في المجتمع، وأنّ تعنيفها أو قتلها يقضي على فرص التنمية والشّراكة الحقيقية في الحياة.
بالإمكان أن نبحث عن جذور قضيتنا في عمق الفلسفة الأوجلانية، فقد قدم الفيلسوف عبدالله أوجلان رؤية عميقة حول قضية المرأة، واعتبرها محوراً أساسياً في بناء مجتمع حر، وأنّ قضية تحرير المرأة ليست مجرد قضية اجتماعية، بل إنّها شرط أساسي لتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع. كما يؤكد المفكر عبدالله أوجلان على ضرورة إشراك المرأة في الثورة لضمان نجاحها، بالاستناد على مبدأ التوافق “لا يمكن لأيّ حركة ثوريّة أن تحقق أهدافها دون أن تحلّ قضية المرأة وتعمل على تحريرها”.
عند العودة إلى النظام البديل عن الأنظمة الرأسمالية والسّلطة الذكورية والذي يمثّل جوهر مطالب المرأة وثورتها في هذا القرن، نجد أنّ الفيلسوف عبد الله أوجلان قد وضع الأسس الصحيحة التي ستساهم في بناء المجتمع الديمقراطي السياسي الحر، حيث يضع الفيلسوف عبد الله أوجلان أطروحة الحياة النِديّة الحرّة كإحدى أهم الخطوات البعيدة عن الهيمنة والتبعيّة الشّائعة والمترسّخة بعمق في مجتمعنا العربي بالأخص والشرق أوسطي بالعموم.
من هذا المنطلق باستطاعة المرأة أن تستخلص قواعد نهضتها، ولا ريب أنّ التصدّي لهذه الظاهرة يتطلب نضالاً وتعاوناً شاملاً بين الجنسين، وكسر الحالة الاعتيادية لدى المجتمع والمنظمات التي لم تفلح في سد هذه الفجوة، ووضعهما أمام التغيير والتحرّك وفق استراتيجيات محددة، كإطلاق حملات شاملة لتنظيم طاقات المرأة في كافة المجلات وفق فلسفة المفكر عبد الله أوجلان واطروحته حول الحرية والحياة الندية، وتعزيز القوانين وتشديد العقوبات، ورفع الوعي المجتمعي عبر توسيع الحملات التوعوية التي تسلط الضوء على قضية الحرية والسلطة، وإنهاء حالة العنف والظواهر المترتبة عليها.
كما يستوجب تعزيز الخطط والاستراتيجيات التي تهدف إلى تمكين المرأة اقتصاديًا واجتماعيًا، ما يعزز استقلاليتها وقدرتها للدفاع عن نفسها. ففي البلدان العربية يتطلب من التنظيمات النسويّة أن تعمل على إنشاء مراكز دعم للنساء اللواتي تعرضن للعنف، وتقدّم لهنّ الدّعم النفسي والقانوني وتأهلهن مجدداً لتخطي صدمات العنف، وفي نفس الوقت أن تضع هذه الاستراتيجيات خطّةً تصل بها إلى مستوى الثورة المنشودة.
ذكرتُ آنفاً أنّ ظاهرة العنف تمثل أزمة عالمية، وتستوجب كفاحاً عالميّاً لإبراز حقيقة هذه الظاهرة كقضية إنسانيّة عالميّة. لا شك في أنّ تشجيع الإعلام في إنتاج محتويات تدعم حقوق المرأة وتنبذ العنف أمر بالغ الأهمية، لما له من دورٍ في التأثير على المجتمعات، وفي نفس الوقت لا بدّ من الإلحاح على ضرورة فرض رقابة على المحتويات التي تروج للعنف أو تقلل من شأن المرأة وكينونتها أو تشجع على النيل من حياتها. كي نخطو خطوات للأمام نحتاج لجهود مضاعفة من الجنسين، لذا علينا كنساء أن ندعم الرجل لتخطّي الذهنية الذكورية ومفهوم السلطة والتملّك، وإشراكه في الحملات التوعوية التي تسلّط الضوء على أهمية المساواة ونبذ المفهوم الجنسوي.
إنّ تحرير المرأة ليس قضية تخصّ المرأة فقط، بل هي قضية نهضة لمجتمع بأسره. فالمرأة الحرّة تبني عائلة متماسكة وتصون حقّ أفرادها في كل ما يخص حياتهم التشاركية، والمجتمع الذي يضمن حقوق جميع أفراده هو المجتمع القادر على المضي بخطوات قوية ثابتة نحو مستقبل مشرق وأكثر عدالةً. فالمرأة في شمال وشرق سوريا وعبر حركتها التحررية سواءً تحت مظلّة تجمع نساء زنوبيا أو الوحدات العسكريّة الخاصة بالمرأة والحركات والمجالس النسويّة وأحزابها السياسية تُثبِت أنّ الإرادة يمكنها تغيير الواقع، وأنّ المرأة العربية إلى جانب المرأة الكردية والآشورية والسريانية والتركمانية والشركسية، قادرة على قيادة هذه التغييرات بخطوات ناجحة تحمل في طياتها الأمل لبناء مجتمع ديمقراطي حر، ومستقبل صاعد لكل أفراده.
ختاماً؛ إنّ ثورة المرأة العالمية لاقت صدى عالمي واسع، وبإمكان المرأة العربية أن تصبح جزءاً محورياً من هذه الثورة من خلال توحيد جهودها وتحديد خطوات عملية ترتكز إلى واقعها الخاص. كما أنّه من المهم التأكيد على أنّ تجمع نساء زنوبيا لا يطمح إلى تعزيز تنظيم المرأة العربية في منطقة ضيّقة ومحصورة، أو أنّه مجرد هدف محلي يسعى لتغيير واقع المرأة السورية فحسب، بل هو جزء من حركة تحررية عالمية أوسع تسعى لتحقيق حرية المرأة والعدالة المجتمعية، وبإمكانه أخذ أدوار فعّالة في المراحل المقبلة.
أؤكد على أنّ إشراك المرأة العربية في ثورة المرأة العالمية ليس رفاهية أو خيار، بل ضرورة تعكس حقيقة أنّ قضية المرأة لا تعرف حدود أو اختلافات ثقافية. فالمرأة في الشرق الأوسط، والتي عانت لقرون من التهميش وسلب الحقوق، تقف اليوم أمام فرصة تاريخية لاسترجاع مكانتها التي تستحقها. من خلال توحيد الطاقات النسويّة وتسيير نضال شامل وبناء كونفدرالية نسوية عالمية، يمكن مواجهة الأنظمة الذكورية والرأسمالية والمفاهيم الرجعية التي تحدّ من حرية المرأة وتنهك جسدها وروحها.