مراحل تطور التعصب الجنسي .. الآثار والتداعيات

مراحل تطور التعصب الجنسي .. الآثار والتداعيات

“على المرأة مواجهة الأطروحات والمفاهيم والمصطلحات

التي تقول عنها أنّها ناقصة وأنها مريضة نفسياً،

وذلك ما فرضْته سلطة الرجل الحاكم عليها”

 

هيفيدار خالد

 

التعصُّب الجنسيّ اصطلاحاً يعني التحيُّز الجنسيّ أو التمييز على أساس جنس الشخص، وعلى الرغم من أن الكلمة قد تدلّ على التمييز ضدّ أيٍّ من الجنسين، ولكنّها في العادة تعبِّر عن التمييز ضد المرأة والفتيات. وفي اللغة العربية يطلق على التحيّز الجنسي الموجّه ضد المرأة تحديداً “الذكورية”.

يعود تاريخ تطوّر ظاهرة التعصُّب الجنسيّ في المجتمع الإنساني؛ إلى الحقبة التاريخية التي تُعرف بالحضارة السومرية، التي شهدتها منطقة وادي الرافدين بمنطقة الشرق الأوسط في بداية الألفية السادسة ق. م، إذ تعدّ هذه الحقبة من أهم الحقب التي مرَّت بها الإنسانية، لما شهدت من تطوّراتٍ كبيرة على العديد من الصُّعد. حيث تطوّرت الكتابة والفن والرياضات والعلوم، وأنشئِت المؤسّسات والمعابد والذقورات والمراكز، التي ساهمت فيما بعد في تمأسس نظام الدولة المتجذِّر بالذهنية الذكورية، التي تشكّلت بناءً على علاقات العبودية، وظهور التمييز الطبقي بين أفراد المجتمع الذي كان قائماً بالأساس على التعاون والتشاركية، وَفق حياةٍ تسودها الروح الجماعية وأواصر الألفة والمحبة والسلام، بعيدةً كلَّ البعد عن الاستغلال والتحكُّم والسيطرة.

الحقبة التاريخية

 في هذه الحقبة التاريخية المهمّة تغيّرت حياة المرأة مئةَ درجةٍ وبشكلٍ مفاجِئ، وانقلب كلُّ شيء رأساً على عقب. بعد أن كانت هي الطليعيّة والرياديّة في المجتمع، وخاصّةً من ناحية تطوير الإنتاج وهي من كانت تحقق المساواة الحقيقية بين الأفراد والجماعات الأهلية التي تشكّلت آنذاك. ولم تكن شروط الإنتاج ومستوى المساواة في المجتمع، تسمح بإمكانية التمييز بين الرجل والمرأة، المرأة التي كانت تقود المجتمع والأسرة وكان النسب يحدد بها، وذلك نتيجة المكانة الرفيعة والدور الفعّال الذي لعبته في البيئة المحاطة بها. وما زالت تلك الحقبة التاريخية التي قادتها المرأة؛ تغذّي كلَّ الإنجازات التي يتباهى بها النظام الرأسمالي الغربي في وقتنا الحالي.

المرأة أول من أجادت عملية قطف الثمار وجمعها ومن ثمّ توزيعها بشكلٍ عادل على الجميع، إذ ساهمت في تربية الحيوانات ورعاية الأطفال، ولعبت دوراً مهماً في تكوين الأسرة ومفهومها الصائب، والعمل على إدارتها وَفق قيم أصيلة تستند إلى الأخلاق والألفة والمحبة والتسامح والسلام.

هي أوّل من اكتشفت أدوات الإنتاج التي ساهمت في تطوير البنية الاجتماعية والروح الكومونالية في المجتمع، إلا أنه بعد سيطرة الرجل على وسائل الإنتاج التي كانت من اختراع المرأة والاكتشافات التي أوجدتها، وُجِّهَت لها ولجهودها التي بذلتها من أجل المجتمع ضربة قاضية، وأصبحت في وضعٍ لا حول ولا قوة لها فيه. إذ تمكن الرجل الماكر من خلال حَبْكِ المؤامرات والدسائس وابتكار الحيل والألاعيب القذرة، من القضاء على ميراثها وطمس الحياة، التي كانت تتقدم بهوية وروح المرأة وعطائها وكيانها وذهنها الحر. رغم أن الألوهية التي أنيطت بها أيضاً، قد جاءت من رغبة اجتماعية ومجتمعية طوعية، تقديساً لما ترمز إليه من مرتبة خاصة ومنزلة رفيعة آنذاك.

 

فائض الانتاج

الجهد الذي كان يبذله الأفراد في المجتمع، فتح الطريق أمام فائض الإنتاج الفاعل، الذي ساعد بدوره في تطوير الملكية الخاصة، بعد أن طوّر الرهبان السومريون مراكز بهدف إدارة المجتمع، وهذه المراكز أخذت شكلاً قدسياً كممثلة للنظام السماوي في الأرض، وهي النمط الأولي للمعابد ومراكز العمل والوحدات العسكرية والتعليمية والمراكز الثقافية، التي تطورت على طول الحضارة، وتعتبر الرحم المتأسس لنظام الدولة الحالي الذي بدأ باستغلال المرأة.

واستمرت مساعي الاستغلال هذه لتمتد حتى العصر الإقطاعي، الذي كان للدين الإسلامي دور بارز فيه، وخاصة على حياة النساء في المجتمع. حيث أخذ مبدأ السيادة الذكورية يوطد هيمنته في بنية المجتمع والدولة، وقد مهّد بذلك حصول التمايز بين الجنسين، وفتح الطريق أمام تعميق الاستعباد الاجتماعي وتطوّره وخاصّة استعباد المرأة باعتبارها جنساً ثانوياً بشكلٍ متداخل.

 ظهور الدين الإسلامي في القرن السابع وما جاء به النبي محمد (ص)، من تعاليم كانت بمثابة ثورةٍ أيديولوجية عظيمة ضد الجاهلية السائدة آنذاك، لعب دوراً تاريخياً مهماً في إطراء بعض التغيرات، ولو كانت جزئية في بنية المجتمع وتركيبته وحياة المرأة، على وجه الخصوص في مجتمع مكة ذي الهيمنة الذكورية والطابع الرجعي، الذي وصل الأمر فيه لدرجة دفن الأطفال البنات وهن على قيد الحياة، الظاهرة التي عرفت باسم “وأد البنات“.

عمًّ الدين الإسلامي، وأنقذت المرأة من الموت وهي حية، إلا أنه وبسبب التأويلات المتداخلة فُرِضَ على المرأة الموت مرة أخرى، بعد أن وضعت بين أربعة جدران وصيغ لها شروط وطقوس، من خلال تشريعات وتأويلات تدلي بأن المرأة يجب أن تبقى في المنزل، ومكانها بيت زوجها، وأنها يجب أن تهتم برعاية الأطفال وتربيتهم. لذا انزوت المرأة على نفسها وعقدت لسانها وأوصدت فمها، حتى أنه لم يبقَ أثر لها من ماضيها الحافل بالإنجازات والعطاء والسلام والعدالة والمساواة.

ولسد الطريق أمام تطورها في المجتمع زيد من عبودية المرأة أكثر فأكثر، إذ بقيت حبيسة البيت وأسيرة العادات والتقاليد البالية، راضخة للموصي على أمرها، لتتحول إلى خادمة مطيعة لدى زوجها وآلة لإنجاب الأطفال واستمرار الذرية وخاصة الأطفال الذكور. ومن ثم تابعةً للرجل في كل شيء، كما وجهت لها اتهامات من مثل: أنها ناقصة ولا تفهم بأمور الحياة كما الرجال، وخير مثال على تجذر التعصب الجنسي السائد في مجتمعنا الشرق أوسطي.

ليصبح بعد ذلك (المولود الذكر) موضع فخر واعتزاز وسعادة وقوة، بينما (المولودة الفتاة) محط تشاؤم وعار وسخط، حيث تمت إعادة تشكيل ملامح المرأة بموجب تقاليد وعادات بالية رجعية رافضة لمقاييس ومبادئ الحرية، وذلك بأنها زوجةُ فلان، وأم فلان.

وكثيراً ما يتم في النقاشات والجلسات الاستشهاد بالآية الموجودة في صورة يوسف “إن كيدكن عظيم” بالإضافة إلى إطلاق الصفات المهينة لمقدرات النساء الذهنية والأخلاقية المبثوثة في المعتقدات والأمثال السائدة. وأيضاً شهادة امرأتين مقابل رجل في الشهادة حتى إذا نسيت إحداهن تذكر الأخرى، وطرح أطروحات بأن الرجال أقوياء بقصد أن الرجال أقوى من النساء وإلا فهم أقوى ممن؟ ودائماً ما يكون للرجل امتيازات خاصة في كل شيء في الأحاديث والنقاشات في الميراث والأملاك وفي السفر والعمل وحتى اللباس، فقد وضعت في العديد من الدول العربية قوانين وتشريعات على لباس المرأة مثل أنها لا تستطيع الخروج من المنزل من دون غطاء الرأس أو شرط ارتداء اللباس الشرعي. وكلام الرجل ربما يسمع أكثر من كلام المرأة في معظم الأوقات. كل هذه المعطيات تأتي في إطار ترسيخ مفهوم التعصب الجنسي في المجتمع وخاصة ضد المرأة.

وهناك العديد من الوظائف التي لا تستطيع المرأة الانخراط فيها، لأنها قطاعات خاصة أصبحت حكراً على فئة معينة من الرجال من ذوي النفوذ والمال، والقوة والعضلات، فلهم وحدهم الأحقية في الخوض فيها وممارستها، بالمقابل حُدِّدَت للمرأة أدوارٌ أنيطت بها، تبدأ من المطبخ إلى تربية الأطفال وبعض الوظائف الصغيرة المحدودة التي لا وزن لها أبداً، وذلك ضمن معايير وأطر معينة وضيقة عملت على الحد من دور المرأة وعدم تفعيل طاقتها أو استخدام إمكاناتها الذاتية أو حتى الإبداء عن رأيها.

 النظام الرأسمالي

أما في ظل النظام الرأسمالي الحالي؛ فيعتبر عصر ترسيخ العبودية ضد المرأة وتكريس التعصب الجنسي في المجتمع في أوج نفوذه، بعد أن تم استغلال جهود المرأة وطاقاتها وتعميم النظرة الدونية تجاه كيانها ونضالها وإمكاناتها الموجودة. إذ تعرضت المرأة التي تعد أقدم جنس بشري للسحق الأعمق بالتمايز الطبقي الحاصل في عصرنا، من قتلٍ وعنف ممنهج، بات السمة الملازمة لها أينما حلت وارتحلت.

ولضرب المنهج الأخلاقي القويم للمرأة والحط من شأنها، فُتحت المئات من بيوت الدعارة بمباركة السلطات الحاكمة والهيمنة الذكورية ذات التاريخ الحافل بهذا الخصوص، حيث إنه يتم استخدام النساء والفتيات القاصرات في هذه البيوت، كما أسلفت آنفاً، لتوجيه ضربة قاضية لروح وأخلاق المجتمع كون المرأة تشكل المجتمع بأكمله، وبالتالي النيل من حقيقتها وجوهرها التاريخي.

في ظل هذا النظام الرأسمالي، تحوّل جسد المرأة إلى ساحة للبازارات وسلعة رخيصة في يد السلطة، يتصرَّف فيها من يشاء وكما يشاء، فيه تم استغلالها في كل شيء فمن ساحة الإعلانات التي يحصل من خلالها على أرباح طائلة، تجنى من استعراض جسد المرأة بعد أن أصبحت أداة الدعاية المثيرة على الدوام. إلى غيرها من الأساليب الرخيصة التي حولتها إلى أداة جنسية وإباحية لا ند لها.

وما سجن المرأة من قبل البعض المتمثلين برؤوس السلطة والمال مروجي نظام الحداثة الرأسمالية الذي يكرّس أيديولوجيته العنصرية على روح المرأة في البيت، بشكل دائم وخاصة في بيوت الدعارة، إلا لفرض العبودية وشرعنة كل ما يرتكب ضدها، من قبل السلطة الذكورية؛ لتصبح المرأة ضعيفة لا حقوق لها في الحياة أبداً، مقابل إطلاق الحق للرجل في كل شيء، حتى في شؤونها الخاصة وأطفالها وغيرها الكثير من الأمور التي لا شأن له بها أبدا.

لأن الرجل يملك العقل التحليلي أكثر من الذكاء العاطفي الموجود لدى المرأة، فإن نظرته للحياة وتكوينها تكون مادية أكثر، مقارنةً مع جوهر المرأة وإحساسها تجاه الحياة. ولا يمتلك المشاعر ذاتها تجاه الطبيعة والكون عموما، لكنه نتيجة العادات والتقاليد ونتيجة المؤامرات التي حكيت ضد المرأة استطاع إعلان نفسه الآمر الناهي في كل شيء وفي معظم الأوقات، مع أن المرأة هي صاحبة المهارة والقدرة على رؤية جميع جوانب الحياة بحالتها الشفافة والنقية، بعيداً عن الرياء والنفاق، ومهارتها هذه راسخة وقوية بشكل كبير، ونحن ندرك ذلك جيداً في حياتنا الشخصية أيضاً.

تأثيرات البطالة الاجتماعية

كما أن للقضية جانباً آخر؛ فالبطالة التي تعاني منها المرأة وخاصة في المجتمعات النائية التي يحاول النظام الرأسمالي جاهداً نهب وسلب خيراتها، والأزمة الاقتصادية التي تعيشها حتى في أرقى دول العالم، ما هي إلا استهداف لروح المرأة وكيانها وعطائها المنقطع النظير في المجتمع، رغم أنها لعبت دوراً تاريخياً في تطوير الاقتصاد المجتمعي. وخير مثال على ذلك السيدة خديجة بنت خويلد زوجة الرسول محمد (ص)، التي كان لها دور كبير في تطوير التجارة قبل نحو ألف وخمسمئة سنة من الآن.

كما أن سياسات الدولة القومية الحالية، والتي تمارسها ضمن الأسرة، أدت إلى حصول أزمات فكرية واجتماعية في المجتمع، بعد أن تحولت المرأة إلى سلعة جنسية، والرجل وسيلة في يد السلطة، ليتم بذلك ضرب المجتمع من خلال تفكيك الأسرة التي أصبحت الضحية لهذه الممارسات التعسفية. لذا؛ عندما قلنا إن المرأة خسرت نفسها وذاتها في ظل نظام الحداثة الرأسمالية لم نكن مخطئين. فالمرأة بنمط وجودها المؤلم والبائس والمقهور والمتردي والمهزوم، هي من تدفع الفاتورة دائماً وأبداً وتتعرض للاغتصاب والاستغلال الجنسي. وما استخدام المرأة في الوقت الراهن بأبشع الأشكال وأشنعها في مجال الثقافة والفن، إلا انتقام للنظام الذكوري من القيم الأخلاقية والجمالية التي كانت تمثلها المرأة.

المنظمات النسوية

لذا يتطلب من المرأة وخاصة المنظمات النسوية، التي نظمت صفوفها ووصلت إلى مرحلة ومستوى عالٍ من التنظيم والنضال الأيديولوجي، الوقوف ضد أيديولوجية النظام الرأسمالي وسياسته المستهدفة على الدوام نضال المرأة المنظمة والمناضلة، محاولاً إبعادها عن دورها الحقيقي في المجتمع، ورفض كل المفاهيم ووجهات النظر التي ترى في المرأة نقصاً وضعفاً، وخوض النضال السياسي والفكري، أكثر من أي وقت مضى، وذلك ما من شأنه بناء الثقة بنفسها في شتى مجالات الحياة؛ لتمكن ذاتها وتستطيع تغيير الصورة النمطية التي أخذت عنها ومن ثم إعادة كل شيء إلى مساره الحقيقي.

نعم على المرأة مواجهة الأطروحات والمفاهيم والمصطلحات التي تقول عنها، أنها ناقصة، وأنها مريضة نفسياً، وذلك ما فرضته سلطة الرجل الحاكم عليها. وضرورة بناء الثقة بنفسها وإرادتها، وخاصة ما يخص روحها وجسدها ودورها القيادي. والوقوف في وجه القيود والحواجز غير المرئية، التي تقف عائقاً أمام النساء في سبيل وصولهن إلى مواقع القرار في مؤسسات المجتمع؛ وذلك، ليس لأنهن لا يستطعن القيام بذلك، وأنهن غير مؤهلات لهذه الأدوار، أو إثبات وجودهن، بل فقط لأنهن نساء.

تنظيم المرأة القائم على مستوى العالم، يستطيع مواجهة كل هذه الممارسات، التي تطبق بحقها والقضاء على البنية الذهنية، التي تشكلت بهدف إقصائها ووضع قوالب قاسية ضدها. وذلك يكون بتكاتف النساء، وتنظيم ذواتهن وفق أيديولوجية، مناهضة لأيديولوجية السلطة القائمة على شعار (استهدفوا النساء أولاً)، والرد عليه بفلسفة:

 Jin, Jiyan,Azadî المرأة، الحياة، الحرية.