التعصب الجنسوي وأيديولوجية النظام الرأسمالي
التعصب الجنسوي وأيديولوجية النظام الرأسمالي
“المرأة هي المعلمة الأولى التي تربي الأجيال،
وتعرّفه على الثقافة البعيدة عن مناهج التعصب الجنسي”
ديلبر يوسف
يُعتبَر مصطلح “الجنسية الاجتماعية”، الذي يقابله مصطلح “gender”، المستخدَم في الغرب، من المصطلحات التي باتت معتمَدة في علم الاجتماع منذ فترة. وعلى الرغم من استخدامه في الغرب منذ السبعينيات، إلا أن استخدامه في منطقتنا مازال نادرًا، غريبًا عن المجتمع الشرقي.
بالطبع، هناك فوارق كبيرة بين مصطلحَي “جنس، sex، جنسية اجتماعية”. فكلمة “جنس” تشير إلى الفارق البيولوجي بين الأنثى والذكر؛ أما “الجنسية الاجتماعية” أو “النوع الاجتماعي” فهو الفارق الذي يضعه المجتمع أو يكوِّنه، إذ يقوم بمنح أدوار اجتماعية مختلفة تعتمد على الثقافة المتخلفة التي تنصِّب الرجل جنساً مسيطراً وتجعل المرأة جنساً ناقصاً وتابعاً. الفوارق بين المصطلحين ملموسة للغاية في حين يعبّر (العائلة) بفعل وظيفتها الاقتصادية على سطوة قوية جداً على كل أعضائها ولا سيما النساء. وهذا التركيب يبين وضع اقتصادي بدائي وثقل العلاقات العائلية وضع النساء العاملات في المناطق الزراعية في وضع حرمان واحتقار عميقين. فبصفتهن أفراداً لا حق لهن عملياً على المستوى القانوني والاجتماعي، إنهن يعشن في الواقع تحت سيطرة ذكور عائلتهن وتحكمهم المطلق.
وغالباً يجري اقتسام موارد العائلة بين الذكور أولاً، ولا يندر أن تنال الفتيات من حقوقهن والعناية أقل مما ينال الصبيان، مما يؤدي إلى قوام هزيل وغير عادل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى مازال قتل الفتيات يمارس في مناطق عديدة سواء بطريقة مباشرة أو بإهمال مقصود. وهذا نتيجة افتقار الوعي المجتمعي والتخلف العلمي والمعرفي وذلك يعود إلى نسبة الأمية الموجودة في المجتمع، التي تتجاوز 60% بين النساء. وهذا يخلق عواقب حتمية على المناطق النامية والزراعية. أو البحث اليائس عن عمل إلى جر ملايين العوائل إلى مغادرة بلدانهم الأصلية للهجرة نحو البلدان الرأسمالية المتقدمة. وإن حالفهم حظ إيجاد عمل هناك، فسيكون في ظروف استغلال فاحش.
التقاليد المتخلّفة
ثمة ميل إلى انتهاء العزلة واختفاء التقاليد المتخلفة، لا بسبب الهجرة نحو المدن ومنها فقط، بل أيضا بسبب تغلغل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، كالراديو والتلفزيون والانترنيت. مع الهجرة إلى المدن، تبدأ ظروف الحياة والعمل الجديدة بمراجعة المعايير التقليدية المتعلقة بدور النساء …والخ وتختفي العائلة بسرعة في المدن بوصفها وحدة إنتاج، ويضطر كل فرد منها إلى بيع قوة عمله فردياً، وهنا تنقسم العائلة الى أقسام وتتولد الفردانية والأنانية في الوحدة العائلية، تستمر غالباً في ضم الخالات والأعمام وأبناء الأعمام والإخوان والأخوات ونسلهم، علاوة على الأب والأم والأطفال.
وهنا تنعكس هذه الذهنية على الروابط الأسرية وتتيح الطريق نحو العبودية الطوعية، ضمن النظام الرأسمالي، باستغلال الطاقة المجتمعية الغير المدركة لذاتها. والتفادي من هذه الظاهرة، هو الوعي التعليمي بشكل صحيح والحفاظ على علاقات اجتماعية أوسع، وكذا نوعاً من الاستقلال الاقتصادي، تُمكن من تحصيل تكوين يتيح دخول مهن كالتدريس في كافة المجالات، يظهرن كمثال يناقض المواقف التقليدية، وحتى في أعين النساء اللواتي لا يعملن، وتتزعزع أكثر فأكثر خرافة دونية المرأة، بفعل هذا الواقع الذي يعيد النظر في خضوعهن السيكولوجي.
وحتى النساء اللاتي لا يتمكّن من الدراسة أو العمل خارج البيت، تتيح لهن ظروف الحياة في المدينة الإفلات من السجن العقلي الذي تفرضه عزلة العائلة القروية. هذا سواء بفعل أثر وسائل الإعلام أو النضالات السياسية أو وجود أدوات منزلية حديثة …والخ.
فمثلاً: يعتبر ذلك الإعلان؛ أن إحدى الوسائل الرئيسية لدمج النساء في عملية التنمية متمثلة في تلك المراحل كان تحرر النساء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مفهوماً على نحو مندمج مع تحرر الشعوب ونضالات التحرر الوطني.
الجنسية الاجتماعية
إن المفهوم الأساسي الذي تعتمد عليه الجنسية الاجتماعية هو أن التقسيمات والطبقات الاجتماعية كلَّها تعود إلى ما تعرضت له المرأة من اضطهاد ولامساواة على مرِّ التاريخ، وبأن اللاعدالة القائمة هي من صنع البشر والمجتمع، وليست من خلق الطبيعة. لذلك فإن الوضع هو من اصطناع النظام الاستبدادي، وهو قابل للتغيير، بحيث يمكن للمرأة أن تأخذ أدواراً تجعلها تخرج من النطاق الذي رَسَمَه لها المجتمعُ التقليدي، وبحيث تستطيع أن تغيِّر فكرتها عن نفسها وعن الرجل وأن تغيِّير فكرة الرجل عن نفسه وعن المرأة، لأن فكرة النقص أو السيطرة والتحكم يكتسبها الطفلُ منذ الصغر، وإذا ما تمّ إيجاد ذهنية متحررة من آثار النظرة الدونية إلى المرأة، فيمكن أن يتم تأسيس مجتمع متحرر من ذهنية الجنسية الاجتماعية. وحتى في المجتمعات الشرق أوسطية أيضاً؛ سنكتشف، وبشكل واضح إلى الواقع الملموس، وكيفية نفوذ هذه الذهنية.
لم تحصل النساء بعد في بلدان عديدة على أبسط الحقوق الديمقراطية المشروعة، التي حازتها نساء البلدان الرأسمالية المتقدمة في القرنين التاسع عشر والعشرون. وفي بلدان عديدة ما زالت القوانين تُخضع النساء لحاكمية الرجال قانونياً. ويشمل هذا بالخصوص القوانين التي تشترط ترخيص الزوج لعمل المرأة، متيحاً للرجل التصرف في أجرة زوجته، أو القوانين التي تمنح أوتوماتيكياً للزوج حضانة الأطفال ومسكن زوجته. وما زال تزويج النساء في بعض البلدان تجارة، كما يمكن اغتيالهن دون معاقبة بسبب المس بـ “شرف” الزوج.
وإذا جرت إصلاحات قانونية تضمن للنساء مزيداً من الحقوق، فإن ذلك يبقى شكلياً في الغالب، وتعجز النساء في الواقع عن تفعيل حقوقهن بفعل الثقل الساحق للفقر، والأمية وسوء التغذية وتبعيتهن الاقتصادية والتقاليد المتخلفة التّي تشكل حدوداً لوجودهن. يشكل نظام الرأسمالية وذهنيتها الهرمية المحتضرة، عائقاً كبيراً بوجه نضالات كافة نساء العالم، ذاك النظام المستعمر، حتى على أبسط الحقوق الديمقراطية المشروعة لهن.
لا شك أن هذا الوضع ليس محدوداً في إطار البيت (الأسرة) فقط؛ بل إن ذهنية الجنسية الاجتماعية مسيطرة على جوانب الحياة كلِّها. هناك أماكن ممنوع على النساء دخولها، كالمقاهي وغيرها، كما أن هناك أشياء يراها الرجل وحده أحقاً بها، كاستخدامه في البيت، مثلاً: الكأس الكبيرة، الغرفة الكبيرة …إلخ. حتى الكلمات والألقاب تعكس فكرة الجنسية الاجتماعية.
النظام الاجتماعي المتكامل
بالطبع؛ ما تم التوقف عنده أعلاه لا يتشكل تلقائيّاً، بل هو نتيجة تراكم نظام استبدادي وبشكل تدريجي، لأن الذهنية المتحكمة الفوقية تشتت التكامل الاجتماعي. لذلك طبيعة المجتمع تحتاج وبشكل ضروري إلى إعادة تحليل تكاملها الطبيعي والمعتمدة على الأساسيات التاريخية. من جهة أخرى؛ إذا ما بحثنا في التاريخ، سنرى أن جميع الأيديولوجيات عملت على ترسيخ مفهوم اللامساواة بين الجنسين، بدءاً من الميثولوجيات والأديان التوحيدية والفلاسفة حتى الأيديولوجيات القومية والاشتراكية المشيدة والرأسمالية والليبرالية الجديدة. فكلها تعمِّق النظرة الدونية إلى المرأة وتعمل على ترسيخ الذهنية الطبقية والعرقية بين البشر، وجميعها تعمل على منح الشرعية لأساليب السيطرة التي يفرضها الرجل على المرأة. من الممكن أن يكون هناك فارق من حيث الزمان والمكان الذي ظهرت فيه تلك الأفكار، ومن الممكن أن يكون هناك اختلاف في بعض الجوانب، ولكن النقطة المشتركة هي عدم الاقتراب استراتيجيّاً من قضية تحرير الجنسين وإبقاؤها في ظل القضايا الأخرى.
إن افتقار الأفكار إلى العدالة جعلت القوانين جائرة على مرِّ التاريخ، حيث نرى أنه بدءاً من قوانين الدولة السومرية حتى الوقت الراهن، مازالت المرأةُ محرومةً من حقوقها الكاملة كإنسان وكمواطنة. فنرى أن هناك دولاً في الشرق الأوسط ومازالت، تحرم نساءها من أبسط حقوقهن، كحقِّ الانتخاب والترشيح، أو المشاركة في جميع مجالات الحياة. كما أن الرجل يقوم باستخدام أفظع أنواع التعنيف ضدها، وذلك بالاستفادة من القوانين التي تمنحه حقَّ الولاية والقيامة عليها. و “جرائم الشرف” وحالات الانتحار التي تواجهها المرأة يوميّاً، نتيجة انعدام الحق والعدالة الاجتماعية في حق النساء.
الاقتصاد
ومن الناحية الاقتصادية أيضاً هناك تفاوت فظيع في المجتمع. فبحسب الإحصائيات يقال إن النساء يشكلن 70% من نسبة الفقراء في العالم؛ نتيجة الويلات، والحروب، والهجرة، والنزوح وهذا أمر صحيح، لأن النساء هن أكثر الفئات عرضة للاضطهاد من الناحية الاقتصادية، حيث تعملن ليلاً نهاراً في البيت دون أن تتلقين أي مقابل لما تبذلنه من جهد؛ وليس هذا فحسب، بل لا يتم منحها قيمة معنوية أيضاً، ويتم النظر إلى الأعمال التي تقوم بها المرأة على أنها أعمال تافهة بسيطة، لا يتم تقديرها مهما عانت فيها المرأة من صعوبات كأمٍّ، كزوجة، وكمواطنة. ولا تقتصر جهودها على صرف الطاقة المادية فقط، بل إنها مجْبرة على بذل طاقة معنوية أيضاً، وهو إبداء الحب والعطف والحنان نحو أولادها وزوجها. ولكن هناك عدداً كبيراً من النساء اللواتي يعملن في البيت وخارج البيت، مما يؤدي إلى إرهاق بدني ونفسي فظيع، وما يحصلن عليه من أتعاب، يقمْن بإعطائها لأزواجهن أو آبائهن، دون أن يملكن حرية التصرف فيه؛ هذا بالإضافة إلى أن حقَّ المرأة في الميراث، نتيجة أحكام الشريعة، مازال غير مساوٍ لحقِّ الرجل. ونتيجة هذه السياسة الاقتصادية غير العادلة، نرى أن نسبة سيدات الأعمال في العالم بالقياس مع عدد رجال الأعمال قليلة جدّاً، لأن مجال التجارة والمال يكاد أن يحتلها الرجل بالكامل.
الإعلام والنظام التعليمي
من أجل ترسيخ هذه العقلية، نرى بأن كلاًّ من الإعلام والنظام التعليمي يلعب دوراً رئيسيّاً، بدءاً من المدارس، وحتى الجامعات كلها تعمل وفق مناهج تدريسية معتمدة على ترسيخ الرؤية الدونية إلى المرأة، حيث يركزون على التلاميذ أو الطلاب ضمن الكتب المدرسية ومنذ المرحلة الابتدائية، على أن ينظر لمهنة الطب أنه فقط الرجال هم الاطباء، ورؤية مفهوم الزراعة، على أنه يعتمد على الرجل فقط، وفوق ذلك كله البطل أو البطولة أيضاً للرجال، والمهندس رجلاٌ يدير البلد بالكامل.. الخ. فتترسخ في أذهانهم هذه النظرة رغماً عنهم، حيث يتم تهميش دور المرأة في القطاع العام في المجتمع، ويتم حصرُ دورها في نطاق المنزل فقط، هذا ناهيكم عن التربية الدينية التي تؤكد أن شهادة امرأتين تقابل شهادة رجل واحد، وعن مسائل الضرب المبرح والحجاب …إلخ.
جميعها تعمل على أن تنظر الفتاة إلى ذاتها على أنها “ناقصة، ضعيفة، لا تملك الإرادة الحرة، ليست بتلك القدرة على اتخاذ القرارات المصيرية”، وأن ينظر الرجل إليها بهذا الشكل، فتنتقل الرؤية التقليدية من جيل إلى آخر. وبالرغم من التطورات التي وصل إليها العالم اليوم، أصبح العالم مثل قرية صغيرة بسبب التقدم التكنولوجي وثورة المعلومات والاتصالات. وأصبحت النظم البيئية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتكنولوجية في دول العالم المختلفة والمجتمعات ذات الثقافات والخصائص المختلفة، متصلة ببعضها البعض، ومعتمدة على بعضها البعض. ولم يعد الفرد مواطناً في مجتمعه المحلي فقط، بل أصبح مواطناً في مجتمع دولي، وأصبح يعيش في عصر سريع التغيير يتطلب مهارات ومعلومات تساعده على العيش في عصر المعلوماتية. من هنا؛ ازداد الاهتمام بطرح مفردات جديدة ضمن الدراسات الدولية، إضافة بُعد عالمي إلى المقررِات المختلفة؛ كاللغات والأبحاث الاجتماعية والأدب والتجارة وإدارة الأعمال والاقتصاد والزراعة والجغرافية والتاريخ في مختلف الأماكن، منها: بدءاً من الروضة حتى تصل الى مرحلة الدراسة الجامعية، خاصة في السنوات القليلة الماضية.
المناهج التربوي
للإعلام الدور الرئيسي في إتمام النظام التربوي هذا، لقد تحول استخدامُ المرأة في الأفلام والدعايات والمسلسلات والأغاني كسلعة تجارية، وعرض كلِّ جزءٍ من أجزاء جسمها في المجال التجاري أمراً عاديّاً حتى الابتذال. ولن يكون من المبالغة القول؛ إن الإعلام، ولأول مرة في التاريخ، يكرّس ذهنية انحطاط المجتمع إلى هذه الدرجة، ويتم استخدام المرأة كوسيلة لتحويل الإنسان إلى كائن يتصرف حسب غرائزه فقط (حتى الحيوانات لها قوانين طبيعية في ممارسة غرائزها). كما يتم تفريغ كلِّ شيء من جوهره، ليتحول الحب والعشق إلى غريزة بلا مقاييس، ويتجرد جسمُ الإنسان من قيمته المعنوية، فيتحول إلى مجرد متاع، حتى الكلمة – الكلام يتحول الى مصيدة تخنقه؛ ويحل التشاؤم محل التفاؤل، والعنف بدلاً من السلام، والانحراف الخلقي (تباهياً أخلاقياً)، والشتائم محل القصائد، والقبح بديل الجمال، والكذب مكان الصدق …إلخ
بالطبع فإن استخدام العلم والمعرفة مجردين من الأخلاق، يجعلهما أكثر الوحوش شراسة، وهذا ما تسوِّقه لنا أجهزةُ الإعلام المبتذلة. ولا ننسى في هذا العصر انتشار المبدأ القوموي أو الدولة القومية وبداية عزلة المجتمعات ودخولها في مستنقع الحداثة الرأسمالية، ووضع العلم في خدمة مصالحها الاحتكارية، فكان توجهها التدريسي هو تعزيز نظام الحداثة الرأسمالية.
عندما تنظِّم هذه العقليةُ نفسها إلى هذه الدرجة في المجتمع، لا يمكن بالطبع الحديث عن المجتمع الأخلاقي والسياسي؛ لأن الدولة تؤسس نفسها وفق هذه الجدلية؛ جدلية الضعيف – القوي، الفقير – الغني، ولكن كل هذه المؤسسات التعليمية كانت مبطَّنة لأنَّها تحولت الى أن تخدم مصالح الطبقية حيثُ قامت كل مدرسة أو مؤسسة تدريبية بحقن الأجيال بالمعرفة والعلوم التي تريدها، وبذلك تنشأ الأجيال اللاحقة بالتدريب حسب مصالحها الطبقية والسياسية. ولكن وما يزال التدريب في حجرة ضيقة بعيدة كل البعد عن المجتمع بشكل مباشر، ويعود السبب إلى حيلولة السلطة والدولة بينه وبين المجتمع.
قضية المجتمع التعليمية
بالإمكان تعريف التدريب والتعليم على أنَّهما: جهود مجتمعية ومدهّما بخبراتها وقيمها الأخلاقية، وجعلهما يمثلونها على شكل معارف نظرية وعملية تخدم الحياة الاجتماعية الكومينالية. فمجتمعية الأطفال تؤَّمن بحسب كفاءة المجتمع في المستوى التعليمي، أي أنَّ تربية الأطفال من أهم وظائف المجتمعات، وليس من وظائف السلطة والنظام الدولتي.
لن يكون من الصحة القول: أن نتائج هذا النظام الجنسوي يكون مؤثراً على المرأة فقط. فهو يؤثر على النظام المجتمعي أيضاً. فما تعانيه المرأة، في الحقيقة، من انعدام الحق والعدالة يبعثر العلاقات الاجتماعية والسياسية المتماسكة. إن الرجل الذي يرى نفسه قوياً، ينظر نظرةً فوقيةً إلى الرجل الذي يكون ضعيفاً. حتى أن المجتمعات الغربية والأوربية تنظر إلى شعوب الشرق، بالإضافة إلى القوميات الحاكمة التي تنظر إلى الشعوب الواقعة تحت سيطرتها، على أنها شعوب جاهلة وناقصة وضعيفة الإرادة. من هنا؛ نرى أن نظام التدريب الصحيح ضروري للخلاص من المفاهيم السلبية، لأن تلك السلبيات تكون محور تأصيل التدريب الخاطئ. فما يعيشه المجتمع من قضايا وويلات وحروب وكوارث هي نتاج ذاك التدريب الخاطئ المستند على الذهنية الفوقية.
إذاً؛ كيف يمكن التخلص من ذهنية التعصب الجنسي، والقيام بتحرير الجنسي الاجتماعي؟ وكيف يمكن لنا أن نعرف الفوارق الموجودة بين المرأة والرجل وثقافات المجتمعات؛ في الحقيقة هناك حاجة قبل كل شيء إلى وجهة نظر فلسفية تعليمية جديدة، وجهة نظر متحررة من آثار النظرة الدونية إلى المرأة. ولن يكون من المبالغة القول وجوب إعادة البحث في نشوء الحضارة الانسانية كلها منذ بدايتها وإلى الآن. النشاط البشري بدء بإدراك الإنسان لذاته وطور من نفسه ونقل الخبرات من جيل إلى جيل، وتنقل الخبرات والمعارف لا يأتي محض الصدفة أو مشيئة إلهية أو بشرية فقط، بل يحتاج ذلك الى تحويل المناهج المبنية على الذهنية المتسلطة ضمن جميع مجالات التدريس في المجتمع، إلى نسق منهاج تدريبي وتربوي ذو جودة عالية ومفعمة بالذهنية التحررية الجنسية. يقول المفكر عبد الله أوجلان: “إنَّ التدريب بالنسبة للإنسان بمثابة الماء والغذاء والأوكسجين حيث لا يستطيع العيش بدونه والاستغناء عنه”.
التدريب، التربية، الأخلاق
إذا حللّنا البدايات الأولى للبشرية أي المجتمع الطبيعي، سنلاحظ بأن المرأة هي المعلمة الأولى التي تقوم بتدريب الطفل منذ قدومه للحياة، ورعايته وتعليمه اللغة الأم، والعادات والتقاليد، وتعرفه على ثقافة المجتمع الذي تريد ترسيخه في ذهنه. فالمرأة هي الموجهة الأولى والمدربة، وهي التي تقوي وتُنمِّي أفكار الطفل وأحاسيسه ومشاعره وأخلاقه وسلوكه وقدراته نحو المسار الصحيح والنور، والطاقة الإيجابية. المرأة المعلمة هي صانعة الأجيال وسبب تقدُّمهم وارتقائهم، ومن مهامها تنشئة أجيالٍ واعية مثقفة متمسكة بالقيم والمبادئ والأخلاق الحميدة، وهي المضحية التي تسهر ليلاً نهاراً في سبيل أولادها وتلاميذها، ليصلوا إلى قمة التفوق والنجاح وتنير الدرب أمامهم، وتساعدهم في تحقيق أحلامهم وأهدافهم للوصول إلى جيل واعٍ مؤمن بأهداف وطنه وأمنه واستقراره، ويعمل ويدافع عنه بكل وسيلة سواءً بالقلم والفكر أو بحمل السلاح.
ولن يكون من الخطأ أن يتم تدوين كتابةُ تاريخ جديد وصحيح للبشرية، لأن التاريخ المعاصر يتم تهميش الأم – المرأة فيه. وإذا ما تمَّ أخذ هذا المفهوم أساساً في تحليل كلِّ ما هو محيط بنا، سيتم الوصولُ إلى مفتاح الحل لكلِّ ما تعانيه الإنسانية من قضايا. وهذا يعني؛ أن هناك حاجةً إلى عملية تغيير جذريٍّ للأسس الفكرية التي تعتمد عليها مؤسسات المجتمع، بدءاً من العائلة حتى الدولة.
ومن أجل الوصول إلى مجتمع تسوده القيم الأخلاقية من (الحرية والمساواة والعدالة)، يجب تحقيق ذلك عبر تدوين مناهج مفعمة بأساليب تربوية متقدمة وتعليمية متطورة ذات وعي تحرري وثقافي. وفي يقيننا؛ أن فلسفة التربية هي الخريطة الفكرية التي تحدد لنا خصائص ونوع ووجهة ومسار المجتمعية الكومينالية والأخلاقية لأجل بناء الإنسان الواعي.
لذا؛ أحث على المزيد من الاهتمام بفلسفة التربية؛ فمع إقرارنا باهتزاز منظومة القيم وإصابتها بصورة خلل واضحة فإننا لا نستطيع أن نطمئن إلى تقدم اجتماعي دون الاستناد إلى بنية مجتمعية متماسكة قوية. حيث أساس ذاك التماسك هي الجذور المبنية على فكر ثقافة الأم المتحررة من كافة مخلّفات 5000 سنة، والتي ستكون لها الدور الريادي في قيادة وتربية وتكوين مجتمع حر. ونحن لا نحصر القول إن فلسفة التربية هي التي ستقوي الأخلاق وحدها؛ وأنها هي التي ستعيد القيم إلى عرشها، ولكننا نؤكد أن ذلك هدف رئيسي لها، وتحتاج إلى الجهود الكبيرة والمستمرة في تقوية المفاهيم الأساسية للوصول الى منهاج تعليمي يَبني ويُطوّر ويكون منتظماً وبشكل سوي ومتناسق.