المرأة الكردستانية ونموذج أيديولوجية تحرير المرأة
المرأة الكردستانية ونموذج أيديولوجية تحرير المرأة
“لا بد للمرأة التثقيف في أيديولوجيتها
وتطوير مساعيها في دمقرطة المجتمع وتوحيد الخارطة النسوية”
لنا حسين
ظهر النضال النسوي في كردستان على شكل هيكلية منظمة تستند على أيديولوجية تحرير المرأة, هذا الفكر الذي أطلقه القائد والفيلسوف الكردي عبد الله أوجلان, وأصبح ذو شعبية بين نساء العالم للالتفاف حول هذه الحركة الأيديولوجية المتكاملة الأسس والقويمة، وحملت كافة المقومات التي تجعلها بالفعل أيديولوجية لتحرير المرأة ونقلها من واقعها المرير نحو معرفة كيانها وجوهرها وتاريخها النضالي. جاء تشكيل وحدات حماية المرأة كتجربة مكملة لنضال المرأة لسنوات طويلة في كردستان وعلى أسس ومبادئ الأمة الديمقراطية, المشروع الذي أوجده القائد مفتاحٌ لحل مشاكل الشرق الأوسط بكافة تقاسيمها الجغرافية والسياسية، وأثبتت هذه التجربة على أن المرأة تستطيع حمل كافة مسؤوليات الحياة من حماية وإدارة للحياة السياسية والعسكرية والمدنية, وتبنت أسس المساواة بين الجنسين وعملت بكل جهد لإثبات نفسها وقد لاقت النجاح بشكل إيجابي، انعكس ذلك على المجتمع بسنوات قصيرة، حتى اصبحت المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل في كافة الميادين والأصعدة.
قضية المرأة الكردية والعالم
لم يكن هذا التطور الذي جلبته هذه الأيديولوجية سهلاً، فقد استشهدت آلاف النساء في كردستان والعالم، وجعلن من أنفسهن منارة تستهدي بها نساء العالم نحو المساواة والحرية في وطن حر، وارتقت المئات من النساء ضمن وحدات حماية المرأة والمنظمات النسوية في شمال وشرق سوريا إلى مرتبة الشهادة، للدفاع عن قضايا المرأة ومحاولة إزالة كافة العراقيل التي تعترض مسيرتها النسوية. وحدات حماية المرأة تجدد القسم لتصعيد النضال حتى نيل حرية كافة النساء وقلب المعادلات المزدوجة التي تحول دون توحيد صفوف النساء.
تنظم وحدات حماية المرأة ذاتها على شكل جيش نسائي شبه مستقل، وفق نظامها الداخلي الخاص بها, والمنسجم مع النظام الداخلي لقوات سوريا الديمقراطية، وذلك لضمان دورها الفعال والطليعي على كافة مستويات التراتبية العسكرية, ووفقاً لمبادئ الدفاع المشروع فهي تحارب الإرهاب وكل الاعتداءات التي تستهدف المرأة والمجتمع, كما تهدف لبناء سوريا اتحادية تعددية ديمقراطية مستندةً على ركائز المجتمع الديمقراطي والإيكولوجي والمتحرر جنسياً. أنها القوة الشرعية لحماية المرأة والمجتمع في روجآفا, وتلتزم بجميع القرارات التي تتخذها قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب لحماية الوطن والدفاع عنه وعن أمنه واستقراره ضد أي اعتداء, سواءً أكان داخلياً أو خارجياً, وتقوم بجميع المهام الموكلة إليها مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيتها ضمن منظومة روجآفا الدفاعية. فهي القوة الشرعية لحماية المرأة حسب القرار المنصوص عليه في دستور النظام اللامركزي التعددي السوري لحفظ أمنها وسلامتها وتأمين استقرارها الاجتماعي. والاستمرار في العمل على تحرير النساء الإيزيديات اللواتي مازلن سبايا لدى تنظيم داعش الإرهابي, وتبدي الاستعداد التام لتقديم الدعم والمساندة لجميع النساء من المكونات والأعراق الأخرى اللواتي يرغبن ببناء منظومتهن للحماية والدفاع تحت سقف المنظومة الدفاعية لوحدات حماية المرأة.
تعد الحرب الشعبية الثورية من أحد الاستراتيجيات التي استطاعت الشعوب من خلالها نيل حريتها والحفاظ على قيمها. وكانت من أكثر الاستراتيجيات التي صانت معايير الدفاع والحماية الجوهرية ضمن هالة الحقوق الطبيعية تجاه الإبادات العرقية والثقافية للأنظمة المستبدة والمستعبدة, ومثال ذلك ما نشهده الآن في روجآفا وشمال وشرق سوريا، بريادة النساء اللواتي تحولن إلى طاقة ديناميكية لثورة الشعوب، ثورة المرأة، تجاه الأنظمة الفاشية والشوفينية والإسلاموية. لأن ما قامت به من إنجازات لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت نتيجة وعيها بمهامها التاريخية.
المرأة والثورة
انضمام المرأة لواجب الحماية، كانت قوة دفع نوعية في الاستجابة لكل طموحات النساء والانخراط في الدور التعليمي, الإداري والسياسي وبناء مؤسسات نسوية, وعدَ ذلك أمراً لم يعهدن عليه، وكمصدر للاعتبار والثقة التامة بقدراتهن في حماية المجتمع والقيم الوطنية, بعد أن كانت أسيرة للبيت وعبدةً لترسيم أطر وحدود حرياتها، وحرمانها من أبسط حقوقها كإنسانة بحكم تلك الذهنية المجتمعية السائدة, هذا كان المنحى والنقطة المحورية التي انعكست على الصعد المتعددة.
الرابط الوثيق بين الأرض، الوطنية وحرية المرأة تحول إلى الرابط الروحي والفكري لكافة النساء في روجآفا وشمال وشرق سوريا، حيث شكلت أرضية في اتحاد الشعوب، وهذه من أهم ركائز الحرب الشعبية الثورية وضمانة انتصارها.
إن الدفاع عن الذات ضرورة لا مهرب منها، ويتطلب التأكيد على تشكيل قوات الدفاع الذاتي كحق تقره كافة القوانين والتشريعات والأعراف الدولية والإنسانية. نتيجة نقاشات موضوعية, تم التأكيد على أنّ هذه القوات ستكون الضامنة لتلبية الحاجات الأمنية الأولية, وتكّرس مساعيها في صون حقوق المرأة ضمن دستور ديمقراطي, عوضاً عن النظر إليها كقوة مناهضة للدولة أو بديلة لها, على أسس ومبادئ فلسفة الحياة الندية والاحترام المتبادل البعيد عن الطراز التقليدي, والتي تتضمن الصداقة والرفاقية بمعايير ثورية ووطنية. ومن التحديات التي احتاجت لجرأة أكثر هو تغيير منظور المجتمع للمرأة والرجل في إطار ثقافة وأخلاق أكثر ارتقاءً, كضرورة ملحة في إطار استراتيجية مدروسة ومنهجية.
منجزات المرأة
اكتسبت الوحدات ثقة النساء من كافة المكونات وليس المكون الكردي فقط, فقد رسخت مبادئ وموازين جريئة بالنسبة للمرأة لتكسب بذلك شعبية, وكما استطاعت بوقت قصير تغيير نظرة المرأة لنفسها وبالإضافة لتغيير نظرة الرجل للمرأة وبشكل خاص في الوسط العسكري. لضمان دورها الفعال والطليعي على كافة مستويات التراتبية العسكرية, مستندةً على ركائز المجتمع الديمقراطي والإيكولوجي والمتحرر جنسياً, كما أصبحت القوة الشرعية لحماية المرأة والمجتمع في روجآفا وشمال وشرق سوريا, ولأجل تحقيق أهدافها تعمل على تكثيف التدريبات العسكرية والفكرية, بهدف رفع مستوى الجهوزية لكافة المهام، وتبنيها لكافة المسؤوليات والمهام الأمنية والإنمائية والإنسانية في مكافحة جرائم الإرهاب والتجسس, والتعامل الفوري في تفكيك الشبكات الإرهابية والتدخل السريع والحاسم للسيطرة على الأحداث الأمنية في مختلف المناطق بالتنسيق مع الأجهزة المختصة.
الحرية مطلب وحق كوني – غريزي, فالإنسان يولد حراً لينضج في مجتمعات مثقلة بقوانين تجعله يتحول إلى عبد في عملية تحولية وكسلوك مكتسب, وبقدر انغماسه في مفهوم التحضر، بقدر ما يصبح أسير العبودية، ففي ظل الحداثة الرأسمالية أصبح ينكر ذاته ويعيش في حالة انعزال بائسة بقدر ابتعاده عن طبيعته البشرية وذاته الحرة, وكلما اقترب من الحرية الفكرية كلما حقق الحرية الفعلية في كافة ميادين الحياة الإنسانية, فهي مقياس لتطور المجتمعات الإنسانية بشكل عام, إذ لا نقصد بالحرية بمفهومها الضيق المرتكز على الفرد, إنما الحرية الكونية والتي تنعكس على حرية البشرية وتخلصها من الاستعباد والانحلال.
المرأة والحرية الكونية
قبل الغوص في تعريف مفهوم الحرية, تم التمعن فيه بكل أبعاده وما يكتنف بين جوانبه من حقائق أن الحريةَ هدفُ الكون, وأن الكونُ يسعى نحو الحرية, ووصف هذه الحقائق بأنها نزعة خاصة بالمجتمعِ البشريِّ فقط يعتبر مقولة ناقصة، ويوجد جانبٍ فيها معنيٍّ بالكونِ بكلِّ تأكيد، وإذا ما أمعنَّا في قرينةِ الجُسَيم – الطاقة، التي تُشَكِّل اللَّبَنَة الأساسيةَ للكون، ومثلما أشاد بها الباحث الكردي البارز عبد الله أوجلان: (أنّ الطاقةَ ليست سوى الحرية نفسها, لذا من المهمِّ عدمَ سلوكِ الأنانيةِ في موضوعِ الحرية، وعدمَ السقوطِ في اختزالها إلى الإنسانِ فقط، أَوَ يمكن إنكارَ كلِّ مساعي الحرية الكبرى للحيوانِ المحبوسِ في قفص؟ وبينما يُضارع تغريدُ البلبلِ أرقى السيمفونيات ويُخَلِّفُها وراءه، فَبِأيِّ مصطلحٍ عدا الحرية يمكننا إيضاح هذا الواقع؟ وإذا ما تَقَدَّمْنا أكثر؛ ألا تُذَكِّرنا كافةُ أصواتِ وألوانِ الكونِ بالحرية، والمرأة باعتبارها أولَ وآخرَ عبيدِ المجتمعِ البشري بأعمقِ الدرجات، بأيِّ مصطلحٍ عدا البحث عن الحرية يمكن إيضاح كلِّ مساعيها وتَخَبُّطاتها؟)
كما تركز فلسفة الوحدات على الحريةِ الاجتماعية وكيفية تغذيتها بالمعرفة, وعتقها من المعتقدات المزيفة، وهذا لعدم تحويلِها إلى إشكالية بحساسيةٌ مُرَكَّزةُ إزاءَ حرية المرأة والرجل ولصون التوازن الطبيعي بينهما, إيماناً وإدراكاً منهن أنه وبقدرِ ما ترَكِّزُ المرأة من قدراتها في الذكاءِ والثقافةِ والعقل الكوني، تكُون مَيَّالةً إلى الحريةِ بنفس القدر كما أنها وبقدرِ ما تفتَقِرُ لِقِيَمِها تلك في الذكاءِ والعقلِ والثقافةِ أو تحرَمُ منها، تكُون غارقةً في العبوديةِ بالمِثل ويتجلى هذا بكل ثقله بخلق علاقة مشحونٌة بعبوديةٍ متضاعفةٍ تدريجياً بين الجنسين.
ويتم التأكيد على دور المرأة في تعزيز بنيان الحرية المجتمعية بمفهومها الصحيح على أساس الحياة الندية بين الرجل والمرأة، وإزالة التمييز الجنسي في عملية التغيير والتحول الذهني، وتحليل ظاهرة السلطة في تأبيد الحرية السلبية التي مجدها المنطق (البطريركي) بتفعيل دور الفردية في تدمير المجتمع, ومحاولة نسف الأخلاقِ والعدالة الاجتماعية من جذورها وجعلها ذراتٍ متناثرةً، بغية عدم إبقاء أية طاقةُ للمقاومةِ لأجل أي هدف. وهذه حقيقة تلامس واقعنا الراهن بتَسَرطُنِ المعضلةِ الاجتماعية تحت اسم الحرية الجماعية, فليس بمقدورنا الحديث عن نظامِ مجتمعٍ حرٍّ متوازنٍ وناجح وعن التحرر الجنسوي، إلا عند تحقيقِ التواؤمِ بين الحرياتِ الفردية والجماعية ولكن تحتاج إلى طليعة فاعلة وطاقة مكثفة ومسؤولية عميقة.
تبنت وحدات حماية المرأة مفهوم الحرية ارتكازاً على مبدأ أساسي وهو: الحرية الفكرية والروحية بمفهوم الحرية الكلية وعدم تجزئتها, وعدم التفريق بين الأخلاق ومفاهيم الحرية التي تهدف لبناء مجتمع حر؛ لأن المجتمع لا يمثل فرداً فحسب، بل يمثل الجميع وبألوانهم المختلفة, والحرية لا تتحقق إذا كانت المرأة حرة والمجتمع عبداً أو العكس, فالحرية كلية ومجتمعية, لذا تمثلت الخاصية الأساسية في كينونة المرأة وهي الروح الجماعية في تأدية العمل بشكل منظم ودقيق, والاستخدام الأمثل لهذه الطاقة لضمانة تأمين الإمكانيات الأفضل، لتحقيق النصر بعيداً عن العشوائية والمزاجية, والتحرك بشكل هادف ومنظم بأعلى المستويات ضمن مفهوم اخلاقي رصين.
تؤمن الوحدات بالرابط الوثيق ما بين الجمال, الأخلاق، والحرية، لأنها تؤمن بأنه أينما وجد الجمال وجدت الأخلاق، وكلا المفهومين يندرجان تحت مفهوم الحرية، فمفهوم (YPJ) للجمال يتجاوز كل التعاريف والصور المتداولة عن مقاييس الجمال التي فاقت حيل التزييف في عالم الحداثة الرأسمالية ومقاييس الجمال التقليدية، بل بمفهوم فلسفي يحتوي ثلاثية وحدة الروح والفكر والنفس, في إطار تناغم الشكل والجوهر, باتسامها بالقوة, الحذاقة, الذكاء, الجرأة, الثقة, العزم, الوعي, التضحية.
منذ بداية الخليقة لليوم الهم الأول والأخير هو الحفاظ على الوجود والاستقلالية، وهذا صراع أزلي أبدي وما جعل فارقا بين الإنسان والكائنات الأخرى هو هذا الفارق، وحتى الأديان أظهرت بأن الله خلق الإنسان ليعكس حقيقته عبر خلقه، وقد سمي الإنسان بمسميات عديدة توضح هذا ومنها: الكون الأكبر وهذه التسمية أطلقت على الإنسان كونه يحوي ضمنه كافة التغييرات والقدرة على التجدد والتجديد وينعكس هذا على الكون الأصغر وهو الكون المادي حولنا. انعكس ذلك في شخصية المرأة وحقيقة وجوديتها لتحمي استقلاليتها وأن تكوّن ذاتها، وآلاف النساء ضحين بوجودهن من أجل أن يكون ذاتهن كامرأة تمثل الكون الأكبر في جوهرها، والذي ينعكس بالتنوير على الكون الأصغر من حولها.
ظهر هذا جلياً في المجتمع الطبيعي في كون المرأة صاحبة الإنجازات المجتمعية والاقتصادية والإنسانية، وأثبتت أنها بذاتيتها وكينونتها أصبحت الخالقة لحياة تكمن فيها كافة المقومات التي تتخذ الإنسانية بنيتها القويمة، وبقدر ما تصبح ذاتها بقدر ما تخلق الحرية والسلام والتجدد وتخلق حياة مليئة بالازدهار والإبداع.
المرأة وريادتها للتاريخ
في مسيرة النساء منذ بداية المجتمع الطبيعي لليوم بالرغم من خمسة آلاف سنة من القمع والسرقة لأمجادها وقتلها، وعلى الرغم من حرقها ووأدها، إلا أنها استطاعت أن تحمي سر كينونتها ووجودها وذاتيها، وتعيد أمجادها التي تم تجريدها منها بفعل الفكر السلطوي واحدة تلو الأخرى.
عندما نتصفح تاريخ المرأة المخفي هنا وهناك، والمنقطع السلاسل بفعل فاعل، وعندما نضعه في لوحة واحدة كما نركب اللوحات في لعبة ورقية معقدة الفتات، نجد وكأن سلاسل تاريخها قد اقتطعت وتمت محاولة إخفاء كل حلقة من هذه السلسلة في أرض مختلفة, وعلى الرغم من التخطيط المنمق والمخطط لإخفاء هذه الحقائق، ظهرت على الجانب الآخر الكثير من الأسرار والشيفرات التي تؤكد أن الكينونات النسوية عُبدت ما قبل الأديان السماوية مثل (عشتار- أفروديت – إينانا).
جاءت وحدات حماية المرأة كاستمرارية لتحقيق الكينونة والذاتية الصحيحة للمرأة، وإرساء شخصية متكاملة للمرأة، وخلق علاقة متوازية ومتوازنة مع جنسها وفي نظرتها للجنس الآخر, فهدف تحقيق كينونتها يتعدى استرجاع “ماءاتها” التي جردت منها، وكسب سمات جديدة تضاف لكينونة المرأة تتناسب مع مقتضيات العصر الحالي, ووحدات حماية المرأة على إدراك ووعي تام بأن المرأة التي عرفت كينونتها هي المرأة التي تمتلك الخاصيات الكبرى، والتي تستطيع خلق تغييرات جذرية، وهي نفسها المرأة التي تترك بصمة في كافة نواحي حياتها.
التجييش
يعد مفهوم “الجيش” من المفاهيم المتشعبة والتي تحتاج لتقييم جذري وموضوعي, فالجيوش المعروفة منذ نشأتها تعتمد على حماية النظم الدولتية، واضعاً الحالة المجتمعية وفئات المجتمع على الهامش, وهذا ما يخلق بشكل دائم فجوة بين الفكر المجتمعي وتطلعاته، وبين الجيوش التي تصنف نفسها كخط الدفاع عن الدولة حتى لو كان ضد المجتمع نفسه, لذا نجد حركات التمرد والعصيان والتحركات الشعبية لا تكف عن إعلاء صوتها في وجه فوهة بندقية الجيوش التي تحمي الدولة على حساب كيانهم المجتمعي والإنساني.
تدعو هذه المعادلات المعقدة للحاجة لنسف هذه المعطيات والظروف المفروضة على أنفاس المجتمعات، والتي يضعها في موضع المخنوق، والتواق للتنفس والتعبير عن نفسه بشكل حر وديمقراطي, إذا ما راجعنا تاريخ الجيوش بشكل سريع نستنتج؛ أن الشعوب قد ضاقت ذرعاً بممارساته وولائه للدولة في كافة الحالات التي تستهدف المجتمع والمرأة. كما أننا وعبر إجراء لمحة عن تاريخ الجيوش نجد هناك الفئة المسحوقة بآلياته ألا وهي الكيان المجتمعي, إذ نجد هذه المجتمعات تتخبط في مستنقعات العبودية، أو إذا ما قررت النهوض في وجه هذه الجيوش تغرق بدمائها.
جاء مفهوم التجييش والذي لا يعد تجييشاً بالعتاد من أجل إنشاء الدول أو حمايتها منحصراً في مفهوم الدفاع المشروع والجبهة الشعبية التي أعمدتها المنظومة الدفاعية في روجآفا، والتي تعتمد كبند أساسي على حماية النسيج المجتمعي للمنطقة، والمعروف بتنوعه وتلون أطيافه. وبمفاهيم غيّرت نظرة المجتمعات للمرأة في مجال الحماية والدفاع باعتمادها على قوتها الذاتية. فظهرت المرأة الكردية بكامل قوتها وجسارتها متحدية الواقع المأساوي الذي عاشته, واستناداً على خلفية تاريخية من النضال والمقاومة والعصيانات, وبالإضافة إلى حركات التمرد التي قام بها الشعب الكردي عبر تاريخ مقاومته العريق, ربما لم تصل تلك الحركات لمبتغاها المطلوب، لكن جميعها صبت في مجال الخبرة والاستفادة من التجارب الماضية. هرعت المرأة الكردية لتطوير نفسها تنظيمياً وبشكل خاص على الصعيد الشخصي, فشخصيتها اليوم تتجلى قوتها في انضمامها الفعلي لحروب الدفاع وتسطير التاريخ بأحرف من ذهب لتكمل مسيرة رندى خان, بسى, زريفة, ليلى قاسم, ساكينة, بيريتان، والكثيرات اللواتي نلن أعلى درجات الشهادة بشجاعة نادرة تكاد تختص بها المرأة الكردية، وأصبحت اسطورة العصر وقدوة لنساء العالم.
تاريخ الحرية
يقول القائد الكردي عبد الله أوجلان: “إنّ تاريخ عبودية الأنوثة لم يدون بعد، لكن تاريخ الحرية لا يزال ينتظر التدوين”. ما يحصل الآن من خلال كفاح المرأة الكردية في وحدات حماية المرأة, ومن خلال تجربتها في روجآفا وشمال وشرق سوريا، وعبر سعيها لتحرير المرأة بغض النظر عن انتماءاتها الدينية, المذهبية, الطائفية, القومية والثقافية، يدل على أنها ثورة تاريخية وعظيمة، فهي بكينونتها الحرة تكتب تاريخها من جديد.
إذا ما بحثنا في أفكار وشرائع الدول سواء التي تفضل الدين عن الدولة أو التي تدعي ذلك، نجد أن الدول التي تدعي منحها الحرية لا تتجاوز الفردانية والمعايير المزدوجة لشرائعها. المنظمات العالمية التي تعتبر نفسها الحامي لحقوق الإنسان والمرأة تكتفي فقط بالنظر والمشاهدة من خلف الشاشات والمكاتب. النساء يقتلن بشكل يومي في دول كالهند وأفغانستان والعراق وتركيا ومصر وسوريا وكافة الدول الأوروبية التي تتواجد فيها المراكز الأساسية لهذه المنظمات, فقد تم قتل وسبي الآلاف من النساء كما حصل في شنگال، وتم فرض إبادة جنسية وقومية على أهالي شنگال واكتفى العالم بالمشاهدة ولم تتدخل ما تسمى بحماية حقوق النساء.
من هنا؛ تم ظهور الحقيقة الواضحة بأن النساء لن تحميهن سوى أنفسهن، وهذا ما قاله القائد والفيلسوف الكردي عبد الله أوجلان من أكثر من أربعين عام, وعلى صعيد الشرق الأوسط نجد أنه يواجه مشكلة حقيقية في تحقيق وإرساء أسس المساواة سواء بين الشعوب أو المكونات او في إطار العائلة أو المدرسة أو حتى المؤسسات الحكومية، وما يثير الشفقة أن المساواة ضائعة حتى في المحاكم, ففي نظم تحكمها قوانين الشريعة ماذا عسانا نتأمل في هذ المجال مثلاً؟
القوانين الممنهجة
القوانين التي وضعتها الدول المنتهجة للفكر السلطوي تضيع النساء اسماً فما بالك على أرض الواقع, إذ تقر جميع القوانين بضعفها وترتيبها في الصف المهمش من الشرائح المجتمعية, ويسميها الدين (المرأة) المخلوقة من ضلع ناقص، وللأسف فهذا الدين هو أساس هذا التشريع الذي تعتمده هذه الدول.
جاء الفكر التحرري كخيار تبنته المرأة كي تحقق أهدافها في الوجود والمساواة, وفي سبيل حقوقها. تلك النساء اللاتي يسعين من أجل رفع أصواتهن أمام العالم الذي قد بات ذكورياً من الناحية الذهنية, وأعلن النضال من أجل تغيير القوانين الذكورية التي تسيّر العالم. وعلاوة على كل هذا النضال من أجل مساواة حقيقية تؤمن حقوقاً متساوية ومتكافئة للجنسين، لتحقيق فرص متساوية على أسس حقوقية إنسانية ونيل الحقوق الطبيعية.
هذا يدل على نضال متواصل يمتد لحوالي قرن، ولا زالت تفتقر لابتغاء أهدافها, كون الذهنية الذكورية تنظم نفسها يومياً وتغدو أقوى, وتؤسس نفسها على أسس احتكار المرأة وجعلها أداة رخيصة وتبقيها في الخط الخلفي للمجتمعات. وإذا ما قمنا بالتطرق لهذا النضال النسوي من أجل الحرية والمساواة يجب الأخذ بعين الاعتبار, النضال الموجه والذي يتم بشكل منظم, والذي يعي هذه الانتهاكات التي تتعرض لها النساء، ويدرك أن الأيادي المستبدة هي من تقف وراء هذه الانتهاكات بشكل ممنهج, قد تحدث بيد الدولة, العشيرة, الدين, العائلة وكلها نتاج رحم النظم الذكورية.
وتعتقد بعض النساء أن الظلم الذي تتعرض له يقتصر فقط ضمن نطاق عائلتها, عشيرتها ودولتها فقط, ولا تعتبره نتيجة لعقلية قديمة ومتقوقعة وشاملة على كافة النساء, لذا هذا يعوز إلى النقص في التدريب الذاتي واكتساب العلم والمعرفة الحقيقية, وكما يعوز لكونها تقيمه على أسس منفصلة، فتعتبر إن هذا الظلم يتغير من دين إلى دين, من دولة إلى دولة, وحتى من عائلة لأخرى.
وهنا؛ تحصل الكارثة في تقسيم وتفكيك النضال وحصره في بوتقة ضيقة, فتجد نفسها غير متهيئة لمواجهة الأساس وهو النظام الذكوري، كونها لا تعي شمولية هذا النظام على النساء, فيحصل أن تهرب من عائلتها لتستند لرجل.
وبالتالي تتحرر منه لتستند للدولة, وتهرب من الدولة لتستند للمؤسسات, وكل ما سبق لا يبدي استعداداً لتحصيل حقوقها أو لإسنادها كونهم من نبع واحد, ولا تستطيع أي جهة مما سبق أن تحميها للسبب نفسه، وكونها لا تدرك ترابط هذه الجهات, فالدولة, العائلة, الرجل والمؤسسة هم التوجه ذاته.
لذا لا ينبغي لها أن تستند على جهة في طريقها للتحرر من جهة أخرى, يجب على المرأة إدراك أنها حين تهرب من جلاديها، أن تستند على بنات جنسها أي إلى تنظيم نسوي يدرك معاناتها وقادر على حمايتها, وأن تمسك بيد غيرها من النساء اللاتي يعشن نفس الظروف ويذقن الظلم ذاته, بهذا يتحقق توحيد النضال النسوي.
النساء في المجتمع كانت نظرتهن لهذا النظام الدفاعي كسند لهم وقوة تحميهم, هناك الكثيرات ممن هربن من الشدة والعنف ووجدن الملجأ الآمن في كنف هذه الوحدات, ووجدن حريتهن في التواجد ضمن المنظومة كحاميات للمرأة والمجتمع وسائرات في سبيل تحريره.
التفتت النساء حول هذه المنظومة لأسباب مختلفة, ومن ضمنها البحث عن الذات والجوهر أو البحث عن الحرية, وقد بذلنا ما في وسعنا لتدريب تلك النساء المنضمات في كافة المجالات, لم تكن المسالة مسالة حرب ولكن كانت الحرب وسيلة, وكان نضالاً بادياً للعيان، فقد كان للوحدات الدور الأبرز لإرساء الديمقراطية في صفوف المجتمع, وقد أدرك المجتمع انطلاقاً من دورها على الصعيد العسكري، أنها لم تعد تلك المرأة في شخصيتها القديمة ولا تمت للضعف والتبعية بصلة.
وقد نجحت لحد ما بتغيير الموازيين والمصطلحات، فهي لم تعد مكسورة الجناح ولم تعد تستقوى بسند مصطنع كزوج, صديق …الخ, لذا أدرك المجتمع أن هذه الشخصية الجديدة تستحق تقربات جديدة, كإعادة النظر في فك بعض القيود المجتمعية, نستطيع القول؛ التغييرات التي طرأت كانت ثورة ضمن ثورة, ثورة على الصعيد الشخصي وثورة ضد النظام الدولتي المحتكر لطاقاتها.
إن تنظيم وتوحيد النساء ضروري في وجه النظام الذكوري, فالتفكك بين النساء, سواء الفئة المنظمة أو الغير منظمة, فحصر النضال ضمن فئة ضيقة من النساء، تجعل النساء الأخريات بعيدات عن النضال وحتى بلا علم عن أهدافهن, لذا يجب أن يتم التنظيم الشامل, وتوصيله لكل بيت وقرية وحتى كل عائلة, فالمعادلة الناجحة هي توحيد الصفوف وجعلها قوة بادية للعيان, فهنا؛ نستطيع أن نقول إذا انتفضت النساء في أي بلد من أجل حقوق مشروعة, يجب على النساء في كافة أنحاء العالم دعم نضالهن, وهذا سوف يغير الموازين ويجني بعض النتائج الاستراتيجية.
هناك الكثير من الأدوار والمهام التي تبنتها هذه الوحدات من أجل توحيد الخارطة النسوية, ففي السنوات الأولى لانطلاقة الوحدات وحتى السنتين الأخيرتين, كانت العلاقات قوية, فالكثير من التنظيمات النسوية تواصلت معنا, وطالبت بإنشاء علاقات وأعمال مشتركة باسم الوحدات, ولكن المشكلة تكمن في كوننا قوة عسكرية.
إذا ما تناولنا الموضوع من هذه الناحية؛ فالقوة العسكرية مع الصعيد الاجتماعي والمؤسسات المجتمعية لا نستطيع أن نكون ممثلات ضمن الفعاليات التي تظهر, كون المؤسسات المجتمعية كونت نفسها على أسس الدول وعلى الذهنية الدولتية وهذا ما يشكل نقاط الضعف, وللتوضيح أكثر فمثلاً: إذا ما تواصلنا مع القوى العسكرية النسوية حول العالم سيكون هذا أسهل على صعيد العلاقات, ولكن هذا صعب، حيث أن المشكلة تكمن أنه لا توجد قوى نسائية عسكرية مستقلة, فقط هي تتحرك ضمن المنظومة الكلية.
فهناك الكثير من الدول التي تحوي قواها العسكرية على النساء كألمانيا وفرنسا وأمريكا ولكنهن لسن قوة مستقلة نسائية, هي فقط تنتمي للمنظومة العامة، لذا يجب أن تقبل الدول وتعطي الإذن وهذا صعب، لذا يكون التواصل مع الوزارات والتي أغلبها استخباراتية, وهذا لا يعتبر اتفاقاً أو إنجازاً ملموساً ويقتصر على عمل أو مشروع ضيق, ولا يفتح المجال لنشر تجربة ونهج الوحدات ضمن المنظومات العسكرية العالمية، فالدول لا تقبل أن يكون هناك جيش نسوي ضمن الجيش العام، فهي تتبع لنظم دولتية بحتة تحكمها عقول ذكورية لا تحترم خصوصية المرأة وحرية قرارها على الصعد الاستراتيجية.
فنجد القيادات رجالاً والنساء متواجدات بشكل نظري ويأخذن أوامرهن من الرجال, فالدولة هي تقرر طريقة تواجدهن ضمن الجيش, فإذا طلبنا أن نقابل أحدى النساء في هذه الجيوش، عليها أخذ الإذن من قيادتها وبالطبع القيادات هم رجال, وعلينا التواصل معهن عن طريقهن. حصلت أكثر من مرة أن التقينا بهن ولكن كانوا بتوجه من قاداتهن الرجال, ليس لديهن أي قرار مستقل كنساء ضمن هذا الجيش, ونحن نريد طرح تجربتنا لهن, لماذا ليست النساء هناك مسؤولات عن النساء ضمن الجيش؟ من خلال نقاشاتنا معهن طرحنا لهن هذا الفرق بيننا وبينهن, بالنسبة لنا لا يستطيع الرجال أخذ القرارت عنا، فلدينا قيادات نسوية نناقش معها ونتخذ قراراً يحمي كينونتنا ضمن المنظومة الكلية.
وقد لاحظنا أن هذه الجيوش تحاول الحد من انتشار تجربتنا بين صفوف النساء في جيوشهم, لا يتقبلون ذلك البتة, والمؤسسات المجتمعية دعت الوحدات إلى الكثير من الفعاليات، ولكنها لم تنتج عن ثمار جدية كونها تظل مجتمعية, وهذا يقف عائقاً أمام تشكيل علاقات قوية معهن.
في نفس الوقت هناك نساء حاولن الاستفادة من تجربتنا وطلبن منا توجيهات, مثل نساء أفغانستان إبان الأحداث في أفغانستان، طلبوا من أن نوجههم سواء عبر الرسائل والتصريحات, كونهن يثقن بأننا أثبتنا للعالم أننا قوة نسوية أممية تسعى لدعم نساء العالم في مساعيهن من أجل الحرية, هذه مسؤولياتنا. بالطبع كل الأحداث التي تشهدها النساء نجد أنفسنا مسؤولات عن دعمهن ويؤلمنا ما يتعرضن له.
لكن في السنتين الأخيرتين نجد أنه هناك مساعي لتقليص مشروعنا وهذا ما يحصل بأياد دولية, كونها تجد فيها تهديداً لنظمهن, والسؤال الذي يطرح نفسه، في الوقت الذي عرف العالم كله وحدات حماية المرأة وسمع ببطولاتها في حربها ضد الإرهاب، لماذا تم استجوابهن في بلدانهن, لماذا لم تفتخر دولهن بهن كونهن أتين لمحاربة الارهاب؟ لماذا وجدوا فيهن الخطر ولم يتم أتخاذهن كنماذج؟. الآن تحد هذه الدول من لقاءاتنا مع الأطراف العسكرية وتحاول تضييقها, بالطبع لدينا علاقات متينة مع الكثير من التنظيمات النسوية، ولكنها ليست كافية مقارنة بالأهداف التي نتبناها في منظومتنا النسوية, ولكي نتجاوز هذا يجب علينا توثيق علاقاتنا مع نساء العالم وبشكل خاص النساء الشرق الأوسطيات, وينبغي علينا تصعيد نضالنا على كافة الصعد للوصول لكم أكبر من النساء.
فالنهج التحرري الذي تتبناه وحداتنا والمستوحى من فكر القائد, ينضوي بشكل أساسي على مبادئ تحرير المرأة ليتحرر المجتمع بدوره, وهنا؛ لا بد لنا من التوعية بنهجنا في الحرية والمساواة ومساعينا في دمقرطة المجتمع وتوحيد الخارطة النسوية بغض النظر عن الحدود المرسومة, فالمرأة أينما كانت هي امرأة ولها الحق في التحرر، لذا نضالنا مستمر حتى نيل الحرية والمساوة وتحقيق العدل والحرية في مجتمعات ديمقراطية تحترم الحقوق والحريات.