أسئلة… وبعض النقاط على الحروف
أسئلة… وبعض النقاط على الحروف
“إن البداية ستكون من نقطة النهاية
ألا وهي إحياء القيم التي خلقت المجتمعية
والعودة إلى الطبيعة الأم،
فلا متعة تعادل متعة النبش في أعماق التاريخ وإخراج الخفايا للنور”
الكاتبة والقاصة: ليلى خالد
يدفعني قلمي بالكتابة والبحث في أمهات الكتب والغوص في أعماق فلسفة الكون والطبيعة المتجذرة في علاقة المرأة والرجل، وكل ما يحمله من قيمة وأهمية قصوى للدور الكبير لهما والتأمل في كيفية تطور المجتمع في أحضان الطبيعة.
حيث بُذلت جهود مضنية في مصارعة الطبيعة القاسية لحماية الذات بهدف استمرار الحياة، وهذا ما ساهم في تطور القوة الفكرية لدى الإنسان في طوره الجنيني وشكّلت الأرضية للعمل بشكل جماعي ومشترك فطرياً. فقد كان الانضمام لهذه الجماعات البدائية طوعياً، حيث تجمعهم احتياجات ومتطلبات مشتركة ولم يتشكل مفهوم السلطة، وحتى التسلط بين الجنسين في تلك المرحلة، ويعود السبب في ذلك عدم وجود فائض للإنتاج، كون التجمع الناشئ طبيعياً كان بهدف تأمين الحاجات المشتركة وبشكل جماعي مما أدت هذه العادة مع مرور الوقت إلى تطور الحياة الجماعية وتحوله إلى ثقافة بحد ذاتها.
الثورة الأولى
وأول ثورة في هذا المضمار كانت الثورة في مجال الأخلاق، حين وضعت الأم أولى الضوابط والقواعد والمفاهيم والقيم التي شكلت الأرضية للمفاهيم الإنسانية فيما بعد، التي فصلت الإنسان عن عالم الحيوان وعدم الانجرار نحو فطرته وغرائزه كما كان معتاداً سابقاً. وتعديل سلوكه وشكل ذلك أول قانون أخلاقي في حياة البشرية.
فقد كان الامتناع المفروض على الجِماع “ممارسة الجنس” أثناء فترة الحمل التي تسبق الولادة والرضاعة اللاحقة لها كحاجة جسدية وقيمية للنساء المنجبات بالانفصال عن جنس الرجل وتم إجراء هذا التحول من خلال ضبطهنَّ لغريزتهن ونزواتهن وشد كافة الأفراد المحيطين بهنَّ ومن كلا الجنسين للتأقلم مع هذه الضوابط المسلكية والأخلاقية.
وهذا ما حصل بالفعل عند دخول الرجل إلى الجماعات الأمومية الأولى (المنظمة وفق النسب الأمومي) وهذا ما ساهم في عيش الجنسين معاً ضمن تفاهمٍ نسبي وضمن ظروف أفضل وتفاهم نسبي ونمط اجتماعي أوسع، وبذلك اكتسبت الإنسانية أرفع مستويات التنظيم الفيزيولوجي والإنساني وصل بالرجل إلى حالة يمكن فيها تأمين ديمومة الموارد ومقومات الحياة الضرورية لاستمراريتها.
الحياة المشتركة
هذا “العقد الجماعي” للنظام الأمومي وعقد الحياة المشتركة أدى إلى حدوث تحولات ملحوظة في نمط حياة الرجل، وأصبحت الكهوف والملاجئ مهد العلاقات المشتركة التي أبدته المرأة تجاه جنس الرجل وبقية الكائنات الحية الأخرى، وأصبح عمل الرجل تدريجياً في الجماعات الأمومية؛ حماية الملاجئ ومجموعات الـ KLAN (مجموعات تتراوح أعدادها بين 20-30 فرد) ذات النَسَبْ الأمومي من الاعتداءات الوحشية والقيام بتأمين بعض المتطلبات والضرورات الاجتماعية عن طريق الصيد لتقوم بذلك المرأة بأداء دورها في إدارة الميادين الإنتاجية.
وبهذا الشكل تم تحويل الخصائص الهجومية والمنافسة والسطو وتأثيراتها التي كانت راسخة لدى الرجل إلى خصائص إيجابية تعمل في خدمة المجتمع من عدة نواحي مفيدة وإيجابية.
وتمخض عن ذلك أيضاً اكتساب العادات الاجتماعية الناجمة عن العيش المشترك الذي رسخته الأمهات كثقافة مجتمعية وغيَّرت من نمط حياة الرجل المنحصرة بذاته فقط إلى حياة مجتمعية تعتمد على القيم والاحتياجات الجماعية.
تؤكد الشواهد التاريخية والأركولوجية فيها كيف لعبت المرأة دورها المؤثر بل والمؤسس في هذا النمط في المراحل الإنسانية الأولى (أثناء الانتقال من عالم الكائن الحي البدائي إلى عالم الإنسان المتقدم) ورفع بالمرأة إلى مستوى الألوهية وأُضفى عليها القدسية.
نستطيع أن نقول بأنَّ المرحلة التي اعتبرتْ الأم “إلهة” هو أرفع تقدير لدورها عقب كل هذه التطورات المذهلة، ومع العبور والدخول إلى عصر NEOLITHIC (العصر الحجري الحديث) توغّلت المرأة في تفاصيل “ماءاتها” في اختراع وصناعة الأدوات الإنتاجية وطورتها أكثر، هذا ما ساهم في إطالة معدل عمر الإنسان في هذه المرحلة لدرجة ملحوظة بفضل الآلات التكنيكية التي قطعت أشواطاً مهمة في التقدم مقارنة بالماضي إلى جانب دورها في ضم وإدماج الرجل في عملية الإنتاج وهذا ما شكَّل صيرورة لدور المرأة الخلاق في تلك المرحلة.
فالفكر والمفهوم السائد آنذاك كان على الشكل التالي: “كل ما هو أنثى منجب وتكاثري، مقدس” وتمثل ذلك في المرأة وتأتي الأرض في مقدمة هذه المقدسات.
والرجل الذي انضم إلى الجماعات الأمومية ووفق ثقافة – الأم ومع بدء الثورة النيوليتية لم يرفض هذه الثقافة، بل عمد في البداية على التأقلم والتعلم من الأم – الإلهة والاهتمام بالأرض وحراثتها لاعتقاده (آنذاك) بأنَّ ما تنتجه الأرض تأتي من القوة الخفية “للأم” وإنجابها للأولاد (ومن هنا أخذت الأمهات صفة الألوهية).
لم يُظهر الرجل أي انزعاج أو ضيق تجاه ريادة الأم للمجموعة، بل على العكس مجّدَ واحترم تجاربها وأبدى تقديراً عميقاً لها، لما امتازت به من خصائص إنسانية وقوى روحية وقدرات خارقة وإيقاع جسدها المتوافق مع إيقاع الطبيعة، وبذل جهوداً حثيثة لِتَعلّم كافة المواهب منها، وبتكريس العمل المشترك في المرحلة النيوليتية.
الإدارية الأساسية هي الأم
تطورت العلاقات ووصلت التنظيمات وأشكال اجتماعية جديدة حيث شاع فيه الزواج الخارجي “الزواج في موطن الأم” يسكن الزوج بعد الزواج في كلان الأم ويكون بانتخاب واختيار المرأة للزوج المرغوب به والذي سيكون ملزماً بالانسجام مع هذه القوانين والمعايير التي ترسخت في الكلان (كما حصل في المجتمعات الحديثة بعد الانقلاب الذكوري و بدء الزواج الأحادي)، تكون فيها الأم هي المسؤولة عن الأطفال ويُنسبون لها حيث لم يكن قد قُبِلَ به بعد كأب لهؤلاء الأطفال، ولعدم إدراك الرجل لدوره في عملية التكاثر حيث أدرك ذلك لاحقاً مع مرور الزمن في عصر CHALCOLITHIC(العصر النحاسي5500) ق.م بعد أن ساد حياته الأمن والاستقرار ومراقبة تزاوج الحيوانات و تطور قوة التحليل لديه.
فالواضح هنا أن الرجل قد تمعن وبعمق فيما يدور من حوله وما يجري من أمامه من تجارب واكتشافات. في حين أن الأم كانت تعيشه منذ زمنٍ طويل. يتراءى لي عند قراءتي لتاريخ المرأة أنها كانت تراقب كل ما حولها بعناية وكانت على تماس مباشر وارتباط طبيعي كثيف معه، تتعلم وتأخذ التجربة منه لتسقطه على الحالة البشرية لتأمين مقومات الحياة الإنسانية، فكانت على الدوام تراقب أحوال الطقس وتتعلم كيفية التأقلم مع التقلبات الجوية والحذر من أخطار الطبيعة العديدة (رياح ـ فيضانات ـ عواصف).
برأي أن “الأم” كانت مدركة ومتفهمة لدور أهمية الأمطار وقيمة المياه في اخضرار الأرض وإنباته، وهي التي بدأت وقادت الثورة الزراعية، واللقى الأثرية في تلك المرحلة شاهدة على ذلك. وهي التي فكرت بإجراء مقارنة لكيفية انتعاش الأرض بماء المطر، مع انتعاش رحمها أيضاً من الماء (المني)، وهي من توصلت بذكائها إلى ربط اكتمال دورتها الشهرية مع مراحل اكتمال القمر.
هذه من جهة الطبيعة وعوامل الطقس؛ أما من جهة أخرى نعلم أنَّ الأم أول من روَّضت الحيوان، ولا بد أنها قد شهدت تزاوج الحيوانات فيما بينها في أوقات التكاثر الموسمية أيضاً باعتبار. فالمرأة التي كانت تراقب وتتعلم، تخلق وتبدع، وأدركت بأن لها الدور الكامل في تطوير الحياة نحو الإبداع والأفضل ولم شمل الجماعة.
حقيقة التاريخ
فكما يوضح لنا التاريخ أنَّ الرجل اكتشف دوره المهم في استمرارية الحياة عبر مراحل، ابتداءً من انضمامه للمجموعات الأمومية الأولى وتجاوزه مرحلة الصيد إلى حياة الاستقرار في المرحلة الزراعية، والعمل في الرعي، ثم بدأ باكتشاف المعادن في العصر النحاسي، علماً أنَّ هذا الاستقرار وتعدد الاكتشافات بدأت في شكلها البدائي بإدارة المرأة قبل الرجل.
رويداً رويداً اكتشف الرجل والمرأة أيضاً بأن انقسام العمل يبدأ بين الجنسين بعد الكشف بأن الرجل لا ينجب. فبمجرد إدراك الرجل طبيعة تلك العلاقة الجنسية ونتيجتها أنجاب الأم للأولاد فقط، أعلن عن نفسه “الإله – المالك – المتحكم – رب المجموعة” الذي لا يمكن للحياة أن تكون بدونه.
فحصل ما سمي بالانقلاب الذكوري واستغل ذلك في تقزيم دور الأم شيئاً فشيئاً على شكل انتقام لا أخلاقي وذُكر ذلك كثيراً في الميثولوجيات حتى بات وجودها في المجتمع مهمشاً وبلا كينونة. فاقتصر دور الأم في الإنجاب وطاعة رب المجموعة فقط، وسُحِبَت منها ثقافتها، وفي أفضل الأحوال قامت بأداء دور الامتثال لسلطة وهيمنة الرجولة في المجتمع بل واعتبرت بأن هذا التحول قدر مفروض عليها.
ففي البدايات السحيقة للتجمعات الإنسانية كانت العلاقات حرة تماماً دون ضوابط أو قانون حيث كل امرأة لكل رجل وكل رجل لكل امرأة، وهذا التطور موغل في القدم لدرجة أنه يستحيل معه تقديم القرائن المباشرة على وجوده إلا أن الأثنان يأتيان من أطوار لاحقة منبثقة منها فيها نوع من التنظيم وما الضوابط والتنظيم الذي وضعته المرأة إلا لضبط حالة انعدام النظام ليظهر نظام مجموعة قربى الدم.
فوفق هذا النظام تنقسم الجماعات الزواجية حسب الأجيال فنجد جميع الجدات والجدود في نطاق القبيلة أزواج فيما بينهم وكذلك فيما يتعلق بأولادهم أي الآباء والأمهات، بينما يشكلون أولاد هؤلاء الحلقة الثالثة في حلقة الجماعات الزواجية ونجد أن هذا الشكل قد حرَّم العلاقة الجنسية بين الآباء والأبناء من دون الأخوة والأخوات حيث كانوا مجموعة من الاخوة من أم واحدة تدخل في علاقة زواج مشترك مع عدد معين من النساء لا يوجد بينهم أخوات لهم والعكس” أي إن العلاقة الجنسية كانت مباحة بين شريحتين من دون الأخوة والأخوات.
عظمة المرأة
لأني كلما تعمقت في تفاصيل الطبيعة والإنسان، أدرك عظمة المرأة ومدى انفتاحها اللامحدود وهذا يحثني للتركيز أكثر وبشكلٍ معمق ومكثف، لذا ارتأيت الكتابة عن هذا الموضوع، وإثارتي لهذه التساؤلات ستنشط إدراك المرء وتفتح أفقاً أوسع تحثنا على القراءة المستفيضة والصائبة للتاريخ ودراسته دون تابوهات، لنصل معاً إلى الحقائق العلمية بهذا الصدد والوصول لحقيقة من الذي اكتشف أولاً أهمية الاختلاف في العلاقة الثنائية المرأة أم الرجل.
من هنا علينا تحليل هذه العلاقة الإنسانية التي تحولت من العلاقة المقدسة إلى العلاقة المدنسة! رغم أننا ندرك بأن المرأة والرجل يكملا بعضهما البعض من حيث التركيبة الفيزيولوجية لكليهما دون تصنيف لِأفْضلية جنس على الآخر. فالهرمونات الذكرية والأنثوية كلاهما يكملان الآخر لولادة إنسان جديد، فلا استمرار للحياة دون هذا التكامل بين المرأة والرجل.
أدعو من خلال هذا المقال المقتضب لضرورة إعادة قراءة التاريخ لتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة والتي رُسخت في المجتمع وحطت من مستوى المرأة وقتلت الحياة الإنسانية المشتركة بينهما، وأهمية العمل على ترميم هذه العلاقة الشبه مدمرة والتي تحوّلت من القدسية إلى عداء وخلَّفت معها شرخاً كبيراً وخللاً في الطبيعة الأولى والثانية والعمل على بناء الإنسان الخلاق والمبدع وبالتالي إنعاش الطبيعة الثانية التي انهارت مع انهيار ريادة المرأة ، ومع التحولات التي أفرزتها فوائض الإنتاج والقيمة ونشوء مفاهيم مستحدثة ، السلطوية والمدنية بأبعادها الثلاث (المدينة – الطبقة – التدول).
كنتيجة أريد القول؛ بأن البداية ستكون من نقطة النهاية ألا وهي إحياء القيم التي خلقت المجتمعية والعودة إلى الطبيعة الأم، فلا متعة تعادل متعة النبش في أعماق التاريخ وإخراج الخفايا للنور، فالفهم والإدراك السليم سيفتح لنا طرق الوعي وبه تحَل كل القضايا الشائكة ضمن تناسق وتناغم الطبيعة والإنسان والمجتمع.
ليلى خالد كاتبة وقاصة وإدارة مشتركة في منتدى حلب الثقافي/سنوات الحرب والمقاومة علمتني الكتابة/ عاشت كل لحظات مقاومة الشيخ مقصود/ ومن نتاجاتها الأدبية (شقيق الألم) إضافة إلى العديد من المقالات في المواقع الالكترونية وزاوية خاصة في جريدة روناهي، وكتابة قصص قصيرة في مجلة آفاق المرأة/ وحصلت على المرتبة الأولى في كتابة المقال لمهرجان أدب وفن المرأة الثامن/.
|