الفن … وإيقاعات ريشة عفرينية – الفنانة التشكيلية: صباح مصطفى علي
الفن … وإيقاعات ريشة عفرينية
” الرسم بالنسبة لي جزءٌ لا يتجزأ من حياتي
أعتبر الفن ثقافة وإحساس ومشاعر عميقة
أرسم المرأة والحياة والحرية كما هي”
الفنانة التشكيلية: صباح مصطفى علي
نشأتُ في مدينة عفرين. تقع مدينة عفرين ضمن منطقة جبلية في أقصى الزاوية الشمالية الغربية في سوريا. منطقة عفرين متنوعة في جغرافيتها بين السهول والجبال ويمر بها نهر عفرين وكما يعتبر هذا النهر وروافده من أهم المصادر المائية لمنطقتنا.
لقرب المنطقة من البحر لذا يعتبر مناخها متوسطياً، منطقة خصبة ونموذجية للزراعات المتوسطية، فالمناخ المتوسطي ووجود السهول والوديان والجبال وخصوبة التربة ووفرة المياه جعلها مناسبة لكل الزراعات حيث تزرع الحبوب والخضار بأنواعها والشمندر والحمضيات والفاكهة. أما الزراعة الرئيسية التي تشتهر بها مدينتي وتعتبر رمزاً لنا فهي “الزيتون” الذي يُزرع في كل أنحاء وقرى المنطقة دون استثناء.
كما أن عفرين تتمتع بموقع رائع وطبيعة خلابة من الغابات الطبيعية التي تغطي بقعة كبيرة من المنطقة، ولجمال المنطقة وهوائها العليل وانتشار المواقع الأثرية الهامة كـ (عين دارا – قلعة سمعان – النبي هوري – الكهف الذو بابينŞIKEFTA DU DERÎ ) والكثير من المواقع الأثرية كان له دور في جذب السياح إلى عفرين.
ما ذكرته في الأعلى عن طبيعة مدينة عفرين وتعدد الزراعات فيها أنه جزء أساسي من عمل واهتمام أهالي المدينة، في الحفاظ على الطبيعة والاهتمام بالزراعة، فهذا وبشكل كبير ينعكس على طبيعة وشخصية المرء والمجتمع.
ارتباط المرأة بالطبيعة ارتباط وثيق على مر العصور حيث تصدرت المرأة المشهد في كافة الثقافات باعتبارها رمزاً معنوياً من رموز الطبيعة، كما أعطت البيئة الهوية والصفات الأنثوية كالرعاية والإنتاج وإدارة الحياة. فالمرأة العفرينية أيضاً اقتبست تلك الخصلات الأصيلة من ثقافة المرأة – الأم وارتباطها التاريخي مع الطبيعة. فهي تربي أشجار الزيتون كأولادها، وتملي عليهم الحب والحنان والاهتمام وتحس بهم حتى وإن أصابهم أي مرض.
ومن ميزات المجتمع العفريني وخاصة ضمن الأسرة هناك نظام نوعاً ما بنظام إدارة الأم الكاملة، أيّ تُعد للمرأة القيمة البارزة، لأنها المنتجة والمعطاءة والحنونة والعطوفة مع الطبيعة وضمن عائلتها أيضاً، فهي تبني علاقاتها المتنوعة الاجتماعية والمهنية والعائلية والاقتصادية…الخ على أسس كومينالية. كما أنها تتمتع باتخاذ قراراتها بشكل متوازن متشبثة بمبادئها وثقافتها وتراثها وتبذل الكثير من الجهد للحفاظ على الثقافة التي نمت وكبرت عليها.
أرى تلك الصفات في أمي وأبذلُ قصارى جهدي لأجسدها في شخصي كي تصبح مثالاً ليقتدي به أطفالي، كما رأيتُ فيها تلك المرأة الجبلية ذو القرارات الصائبة، المرأة التي تعتمد على ذاتها دون طلب يد العون من أي أحد، المرأة الحكيمة. كبرتُ على يد امرأة جبلية تتناغم مع الطبيعة في قرية من قرى مدينة عفرين في منزل ريفي يحيط في أرجائه أشجارٌ من الفاكهة والكثير من أنواع الزهور المختلفة بألوانها الربيعية، حيث منذ صغري رسمتُ أول رسمة على أحد دفاتري (وردة جورية) وبعد ذلك رأتها معلمتي في المدرسة وأظهرت ابتسامة جميلة بملامح وجهها البشوش بعد رؤية رسمتي الأولى، تلك الملامح والابتسامة شجعتني لأرسم قطتي التي كنتُ أقوم بتربيتها في منزلنا، ومن ثم بعدها رسمتُ فتاة ترتدي زي الأميرات وبرفقتها قطة صغيرة.
هنا بدأ ميولي أكثر وتأكدتُ بحبي وانتمائي لتلك الموهبة. وبعد عدة سنوات طورتُ من موهبتي من ثم توقفتُ لعدة سنوات أيضاً نتيجة ظروف عائلية، منها فقدان أبي وأخي، من بعدها زواجي وانشغالي بمولودي الأول ولكن عدتُ من جديد ولم أستطع الانفصال عن موهبتي أبداً.
بعدها شاركتُ في العديد من المعارض والمهرجانات منها؛ (ثقافة الأم – حكاية أرض الزيتون – صرخة سوريا وعفرين تنادينا – مقاومة سري كانية – معرض النزوح بلوحة بلغ طولها 16 متراً وتم في الشهباء والمشاركة في المعرض السنوي في مدينة قامشلو – مقاومة المرأة – السومبوزيوم والعديد من المعارض الأخرى.
رسمتُ العديد من اللوحات بالألوان الخشبية، الفحم، اكريليك والزياتي. وفي السنوات الأخيرة رسمتُ ما يقارب الـ 200 لوحة.
إنني أعتبر الفن ثقافة وإحساس ومشاعر عميقة، وأيضاً أعتبره نغمة من نغمات الحياة البهية. وهو يظهر بأشكال وتعابير مختلفة منها الصرخة، والشوق، والحسرة، والنقد والشكر والامتنان، والاحترام والمحبة والمودة.
حين أرسم فإنني أظهر تلك المشاعر على لوحاتي؛ من أجمل ما يملكه الإنسان هي مشاعر الامتنان والحب والولفه سواء للطبيعة – الإلهة، أو لابتسامة الأطفال. حين أرسم أشعر أنني أنثى، والريشة وفية معي. أرسم لأنني يجب أن أرسم، وكأن عجينة الفن اختارتني لوناً ورونقاً لها. لا أستطيع وصف تلك الحالة وأنا أرسم. بالطبع حتى الآن وأنا أرسم أريد أن أرسم جمال المرأة والحياة والحرية وعفرين العروسة الذهبية.
الحقائق التي يخفونها مجرمو الحرب لن تنسى؛ كنتُ شاهدة على مجزرة الأطفال الأبرياء الذين لا يعرفون معنى السلاح وتم قتل أحلامهم البريئة. كنتُ شاهدة على تهجير الصغار والكبار والمسنين من مدنهم قسراً وهناك صمت دولي وكأنهم يوجهون رسالة لنا بأن ليس للأبرياء حقوق سوى متر داخل حفرة مظلمة. شهدتُ أيضاً تلك المقاومة التاريخية لشعبي المهجّر في مخيمات مناطق الشهباء.
وكل يوم أرى تشييع جثمان شبابنا وشاباتنا اليافعات في كل المناطق بدلاً من رؤيتهم متخرجين من جامعاتهم، بدلاً من رؤية زفاف العاشقين، أراهم يُدفن أحلامهم نتيجة لقرارات الدول على إبادة مجتمعنا.
هذا الصوت، وهذه المشاهد، هذه الأحلام، هذه الأمنيات أوثقها في لوحاتي، أعبر عنها بحمل ريشتي ومزجها بالألوان وتوثيقها بلوحة تروي روايتنا التي تحتاج للكتابة والكتابة وثم الكتابة.
الرسم بالنسبة لي جزءٌ لا يتجزأ من حياتي، لم يحصل سابقاً وفكرتُ بالانفصال أو الابتعاد عن الريشة والألوان ولكن أثق بأن إذا حصل وفكرتُ بذلك، فسوف تخونني يداي، وتذهب لحمل الريشة مجدداً.
لا تفارقني الريشة ابداً اينما أذهب، هي صديقتي ورفيقة دربي، هي من تفهمني وهي تحس بوجع الزيتون، هي التي تحن للأشجار وللحدائق الخضراء، وللزهور الأرجوانية، هي التي تحي في ذاكرتي جمال الاقحوان وأشجار الزيزفون.
حين أرسم أحس بالسعادة والجمال وراحة البال. اعتقد دوماً بأنه عليّ أن أرسم لأن الرسم واجب إنساني وليست وظيفة توظفنا كي نعبدها. الفن يهديني الهدوء في كل الأوقات ويخلق مني نهراً دفاقاً للبحث عن الحياة الجميلة.
كل ما أتمناه أن أرسم يوماً ما هناك في بيتنا وعفرين العشق. اشتقت لكل شيء، للطفولة وضحكة الزيتون.
فأشعر دائماً بأنني لن أرسم بما فيه الكفاية ومهما رسمتُ سيظل شعور الشغف يرافقني بأنني لم أكتفي من الرسم بعد.