المجتمع الديمقراطي الحر ومفاهيم الحياة النِديّة الحرة
المجتمع الديمقراطي الحر ومفاهيم الحياة النِديّة الحرة
” نحن اليوم بحاجة إلى أرواح خالية من الأمراض
وعقول بعيدة عن الاحتكار، عقول خلاّقة ومبدعة
تترك أثراً في نفوس الغير لتنهض بمجتمع ونسلٍ جديد”
بيريفان محمد يونس
بمقدورنا الدخول إلى عالم ثاني حين نكتب “المجتمع الديمقراطي الحر ومفاهيم الحياة النِديّة الحرة“، عالم لحياة كريمة وهادئة ويسودها الأمن والأمان والتفاهم، وتنبعث منها رائحة الحرية والسلام. ليس من السهل حتى تصور هذا النموذج من العيش الحر الكريم بكل جوانبها تحت نظام الفوضى التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، وفي ظل هيمنة الأنظمة الرأسمالية بكافة أساليبها ووسائلها وهذا هو الواقع الحالي المعاش.
واقع مؤلم حيث هناك سعيٌ كبير لتفكيك اللبنة الأساسية للمجتمع ألا وهي الأسرة، وإذا تفككت الأسرة سينهار المجتمع بأكمله وهذا ما تسعى إليه الرأسمالية. لأن قوة المجتمعات وتطورها تكمن في تماسكها وتعاضدها في النواة.
قلنا إنه ليس من السهل تحقيق فلسفة الحياة النِديّة الحرة ولكن لم نقل إنه من المستحيل، إذاً نستطيع مجابهة الذهنية المسِتعمرة منذ آلاف السنين وخوض نضال ذهني ومجتمعي لخلق ثورة مجتمعية لتحقيق ما نسمو لأجله.
بالطبع الكون نشأ منذ بدايته على الثنائية أو الديالكتيكية (الحياة – الموت، النور – الظلام، الخير – الشر) وكذلك الذكر – الأنثى، أي بدون وجود طرف من هذه الثنائيات لا معنى لوجود الآخر. من هنا نرى أهمية وجود الطرفين في إتمام بعضهم البعض، وإنتاج نتائج جديدة تزيد الحياة الطبيعية والاجتماعية نوعيات أخرى أو أنماط متعددة من الكائنات الحية، والتي تعمل بدورها على استمرارية الحياة وإضفاء ألوان ونكهات جديدة عليها.
فأنا أريد طرح هذا الموضوع من منظار رفيق المرأة المفكر عبد الله أوجلان، حيث ركّز وحلّل في مرافعته الثالثة سوسيولوجيا الحرية وقال:
“كما نعلم بأن كافة الكائنات الحية الموجود في الكون تتواجد بشكل ثنائي (ذكر – أنثى) سوءاً كانت هذه الكائنات نباتاً أو حيواناً أو إنساناً. حتى الذرات الموجودة في الكون تتواجد بشكل ثنائي، طبعاً هذه الثنائيات اشتراكها وتكاملها يكون السبب في خلق الوجود والتكوين. إذ لا يمكن تأمين الوجود خارج إطار الثنائيات، والثنائيات بطبيعة الحال دائماً ميالة إلى النشوء المختلف مثلاً: (القضب الموجب والسالب تفاعلهم يكون سبباً في إعطاء الطاقة الكهربائية) وعندما نريد البحث عن برهان فيما يتعلق بالذكاء الكوني المطلق فالمقدور البحث عنه أساساً ضمن ميول هذه الثنائية ومن الضروري أن تكون الثنائيات مختلفة فإذا تماثلت الثنائيات لن يتحقق الوجود”.
سابقاً كان المجتمع يعيش حياة متكاملة ككل، حيث كان كل من المرأة والرجل يتشاركون الأدوار الحياتية مع بعضهم البعض ولم يكن لدور معين أو لعمل معين هدف بإقصاء الآخر أو جعله أداة بيد الآخر أو سلعة تباع وتشترى وكان آنذاك يسود المجتمع السلام والأمان وتألفه روح المحبة دون التفكير ما هو مؤنث أم مذكر.
الاستيلاء على نتاج المرأة
ولكن وبعد الاستيلاء على نتاجات المرأة ظهرت مرحلة مختلفة وصار المجتمع يعاني من الطبقية بين الرجل المتسلط (المستبد) والمرأة (المستعبدة)، وهنا أصبح المجتمع يعاني من مشاكل مجتمعية تؤدي إلى مشاكل نفسية وجسدية وتخلق أمراضاً مزمنة لا تشفى إلا بالبتر. ولا ننسى لا زلنا نعاني منها حتى اللحظة الحالية، بالتالي ظهرت مصطلحات تعمل على تعزيز التعصب الجنسوي في المجتمع تحت مسمى الدين والعادات والتقاليد.
حيث أدى كل هذا إلى تقليص دور المرأة وتحديد مهامها ومسؤولياتها في الحياة التي هي الركيزة الأساسية فيها.
ما إن تم تقليص دورها في الساحة الحياتية التي كانا يشاركان بعضهما البعض فيها، حتى رأينا ما نراه الآن من ِإقصاء وتهميش وتأطير لدور المرأة الفعّالة والنشطة آنذاك، وأصبح بذلك دورها منوطاً ضمن الأعمال المنزلية وإنجاب الأطفال وتربيتهم فقط، أما تلبية رغبات وشهوات الرجل هي من أقدس الأعمال وأوجبها التي يجب أن تقوم بها المرأة. أما الأعمال الخارجية من السياسة والاقتصاد، والزراعة، والحساب، والطب وغيرها من الأعمال الحياتية اليومية هي من مهام الرجل فقط، وليس للمرأة التدخل فيها أو حتى المشاركة فيها.
حتى المصطلحات التي يتم إطلاقها أو تنسيبها إلى المرأة أو الرجل في اللغات العالمية المختلفة هي دليل على مدى قيمة المرأة ونظرة المجتمع لها آنذاك، أو مدى المكانة التي كانت تحظى بها المرأة في كل مجتمع على حدا.
لكي نكون قادرين على استيعاب وفهم ما يجري الآن يجب معرفة تاريخ المرأة، كما يجب معرفة المراحل التاريخية التي مرت بها المرأة وإنجازاتها ومراحل انكسارها. بذلك نستطيع أن نفهم ونستوعب مدى التغييرات التي طرأت على حياة المرأة والتي أثرت عليها نفسياً، وجسدياً، وذهنياً وعملياً، بالتالي أصبحت ما هي عليه اليوم سلعة وأداة بأيدي الرأسمالية تُباع وتُشترى بجميع الأشكال.
لذلك ونتيجةً لما تطرقنا إليه سابقاً من التغييرات التي آلت المرأة إليها في هذا الزمن، فالحل الوحيد هو مدى استيعاب وتطبيق مبادئ الحياة النِديّة الحرة أو الحياة التشاركية الحرة. أي كيفية العيش معاً وتشارك جميع المهام الحياتية سوياً بدءً من المرأة والرجل ومروراً بفئات المجتمع ووصولاُ إلى المجتمع ككل.
مبادئ الحياة النِدّيِّة الحرة
ولمعرفة مفاهيم الحياة التشاركية أو الحياة النِديّة الحرة، كلنا يعلم بأن هنالك ثلاث عناصر أساسية يستطيع كل كائن حي أن يستمر في الحياة ويزيد نسله وهو: (الحماية – التغذية – التكاثر). ولكن هنا يجب أن نسأل أنفسنا سؤالاً؟ هل هذه العناصر الثلاث هي هدفنا في الحياة أم هي وسيلة؟ وهنا إجابتنا هي التي تحدد منطق وأسلوب حياتنا التي نحياها. فإذا كان هدفنا من هذه الحياة ذو معنى فستصبح هذه العناصر الثلاث وسيلة لبلوغ الهدف المرجو، ولكن إذا أصبحت الوسيلة هدف فإن حياتنا ستصبح بلا معنى. والغالب في مجتمعاتنا الشرق أوسطية نعيش حالة من التخبط حيث عملت الدول القومية بذهنيتها السلطوية على نشر مفاهيم مغالطة للمفاهيم التي كانت مُعاشة سابقاً.
المفاهيم التي كانت موجودة سابقاً، كانت مفاهيم تحث المجتمع على التشاركية، العدالة، المساواة والمحبة. لكن ما إن أُزِلت هذه المفاهيم حتى انتشرت مفاهيم معاكسة لها تماماً والهدف من نشر كهذا مفاهيم هي إنشاء الطبقية في المجتمع وتقسيمه إلى فئات وطبقات، وبدأت هذه الطبقية من الأسرة أو بشكل أوضح ما بين الرجل والمرأة كجنسيين بشريين وبدأت بذلك تتعدد القضايا التي لا سبيل إلى حلها في ظل وجود الطبقية.
فلسفة الأمة الديمقراطية
ولكن وبعد التعرف على فلسفة الأمة الديمقراطية رأينا بأن هناك الكثير من الحلول لقضايانا التي لم نسعى إلى التفكير في حلها والقبول بها كأمر حتمي لا يمكن الخلاص منه إلى أن وجدنا في فكر وفلسفة المفكر عبد الله أوجلان الكثير من الحلول وأولها قضية التعصب الجنسوي، والتي هي أساس كل القضايا المجتمعية الأخرى.
والحل يكون بأن نطرح مفاهيم الحياة النِديّة الحرة أو التشاركية الحرة ولطرح هذه المفاهيم يجب التعمق في مدى فهم هذه المصطلحات لأن تطبيقها على أرض الواقع سيلاقي رداً عكسياً، لأن هذه المجتمعات لم تتعلم السير حسب مبادئ الحياة الصحيحة.
فمفهوم الحياة التشاركية يعني تشارك الجنسين أي الذكر والأنثى في جميع المهام الحياتية وليس لجنس سلطة على جنس آخر، إنما التشاركية تكمن في كيفية فهم كل منهما الآخر والوصول دائماً إلى قرارات تصب في مصلحة الجميع أو الجماعة.
عندما نقول الاثنان معاً هذا يعني بأن الاثنان لهما الإرادة ذاتها ولهما الوجود والكينونة ذاتها ولا يسبب الاختلاف في الطبيعة البيولوجية للإنسان إلا بإضفاء معاني جديدة ومتنوعة والأهم من هذا إضفاء المعنى على وجودهم معاً.
أما بالنسبة لمفهوم (النِديّة) فالنِد يعني الخصم أو التنافس، فالحياة المبنية على أساس الديالكتيكية أو الثنائية دائماً تحتاج بأن يكون هناك تنافس بين الجنسين وهذا التنافس ليس بالضرورة أن يكون بالمعنى السلبي، إنما على العكس التنافس الذي يعني إضفاء روح المغامرة والمرح والمعرفة في الحياة بين الجنسين.
كما يجب شرح مفهوم مصطلح (الحرة) أيضاً لما له من أهمية كبيرة، حرية الفرد تكمن في حرية المجتمع فإذا لم يكن الفرد حراً لا يكون المجتمع حر وبالعكس أيضاً إذا لم يكن المجتمع حراً لا يستطيع الفرد ممارسة حريته.
هذا يعني بأن الحرية الفردية ليس لها أهمية دون المجتمعية، وجود الفرد وكينونته تتحقق في المجتمع، ولتطبيق مفهوم الحياة التشاركية الحرة نحتاج إلى أفراد أحرار أي امرأة حرة ورجل حر ومن غير ذلك يستحيل بناء منظومة حرة بأفراد مستعبدين.
ولتطبيق هذا المفهوم بهذا الشكل ليصبح خارطة طريق نصحح به مسار أو نمط هذه الحياة، يجب أن نتعرف على الأدوار التي يجب القيام بها:
حيث هناك مهام يجب على كل من الرجل والمرأة القيام بهما في سبيل إتمام هذه العملية بنجاح وهي:
- يجب على كل امرأة عدم القبول بالواقع المعاش المبني على أساس التسلطية.
- عدم القبول بأن تكون دائماً هي الطبقة الثانية والطرف المقصي في القضايا الحياتية.
- أن تحافظ على وجودها وكينونتها ولا تتخلى عنها في سبيل أي شيء آخر.
- يجب أن يكون استقلالها الاقتصادي الخاص بها بذلك تحقق استقلالها على جميع الصعد.
- على المرأة أن تعمل جاهدة لإزالة الطبقية بكافة أشكالها وأنواعها من المجتمع.
- على المرأة أن تكسر جميع الصور النمطية التي تكوّنت ضدها.
- على المرأة النضال ضد العنف الممارس ضدها بكافة الأساليب والوسائل.
- على المرأة الخوض في جميع الساحات والميادين الحياتية وخاصة السياسية منها، لأنه وبعدما تم إبعاد المرأة عن الساحة السياسية تدمرت الأخلاق المجتمعية.
- على المرأة خوض صراع داخلي مع ذاتها لقتل الذهنية العبودية التي زرعوها في ذهنيات جميع النساء.
ولأن الحياة تشاركية بالطبع للرجل أيضاً دور مهم في تعميق هذه الفلسفة ويتطلب منه كما يتطلب من المرأة أيضاً على نفس السوية القيام بالمهام الملقاة على عاتقه للنهوض بالمجتمع وجعله متقدماً ومتطوراً. فدوره سيكون على الشكل التالي:
- يجب على الرجل أكثر من المرأة خوض نضال ذاتي لقتل الرجولة الكلاسيكية الموجود داخله وخلق رجل جديد بعيد كل البعد عن الكلاسيكية الموجودة.
- على الرجل التحكم في شهواته ورغباته ومعرفة كيفية السيطرة عليها وعدم الانجرار وراءها.
- يجب على الرجل القبول بواقعة علمية وصحيحة وهي أن المرأة كينونة بذاتها في هذه الطبيعة وتتشارك الحياة مع الرجل لاستمرارية الحياة.
- على الرجل أيضاً كسر الطبقية التسلطية المتمثلة في شخصية الرجل.
- على الرجل القبول بمدى أهمية وجود المرأة لجانبه في الساحة السياسية.
وهكذا وبالالتزام بهذه المهام سيستطيع كلاً من الرجل والمرأة خلق توازن جديد لبناء عائلة ديمقراطية وعلى أثره بناء مجتمع ديمقراطي تسوده روح التعاون والألفة والمحبة، ويهاجره الشر والأنانية والفردانية والحروب والاحتكار وجميع المفاهيم التي تخلق أمراضاً لا شفاء منه.
نحن اليوم بحاجة إلى أرواح خالية من الأمراض وعقول بعيدة عن الاحتكار، عقول خلاّقة ومبدعة تترك أثراً في نفوس الغير لتنهض بمجتمع ونسلٍ جديد واعٍ ذو إرادة يستطيع أن يبني نفسه بنفسه، وأن يعتمد على ذاته ويبتعد عن سياسة القطيع والحاكم والمحكوم ويكون العامل الأساسي لبناء الكونفدرالية الديمقراطية.
وللوصول إلى بناء العائلة الديمقراطية يجب ترسيخ مفهوم الحياة التشاركية الحرة ولترسيخ هذا المفهوم يجب تحقيق الشروط التالية:
- وضع حد لمسألة الإنجاب التي تكون خارج إرادة المرأة، أي يجب أن يكون كلاً من الرجل والمرأة على قدرٍ من الوعي متى تستطيع المرأة الإنجاب ومتى لا تستطيع.
- يجب أن تؤمن المرأة بذاتها خارج نطاق العائلة والأولاد وأن تحقيق ذاتها يعني بالتالي تحقيق أي شيء آخر.
- الحياة المبنية على الإرادة والتفاهم بمشاركة الطرفين وليس طرف على حساب طرفٍ آخر.
- مؤسسة العائلة يجب أن تكون مبنية على أسس تشاركية وتضمن كينونة المرأة فيها لا أن تزيلها من الوجود.
- معرفة المرأة لتاريخها يعني معرفتها لوجودها وضمان لاستمرارية كينونتها.
- تثقيف المرأة من جميع النواحي.
- اتخاذ مبدأ الحماية الذاتية لها كضمان لها لحماية جنسها من الزوال.
- يجب على المرأة تنظيم نفسها ضمن أي خلية أو تنظيم أو حزب لحماية هويتها النسوية والسياسية.
وفي النهاية أود القول بأننا وفي ظل أكثر من عقد في ثورة إقليم شمال وشرق سوريا واجهنا تحديات كبيرة سواء من الذهنيات التسلطية الأبوية القمعية أم من الهجمات التي تشنها دولة الاحتلال التركي يومياً، ولكن كانت هذه التحديات قابلة للزوال بمجرد أننا نظّمنا أنفسنا. حيث كانت حمايتنا الجوهرية تكمن في قوة تنظيمنا. كما خضنا صراعات داخلية للتخلص من الطبقية التي زرعتها الدولتية والطبقية في داخلنا وذلك بالتعرف على تاريخنا المهمش وبطولاتنا العريقة.