خيارات شعوب الشّرق الأوسط في مواجهة التّحوّلات الإقليميّة والدّوليّة – الإعلامية هيفيدار خالد

 

خيارات شعوب الشّرق الأوسط في مواجهة التّحوّلات الإقليميّة والدّوليّة

“شُعوب الشّرق الأوسط التي ذاقت ويلات الحروب لعقود

 تتأرجح اليوم بين آمالٍ جديدة وآلامٍ قديمة،

لذلك يجبُ عليها أن ِتصنع طريقاً نحو شرق أوسط ديمقراطي جديد

يعكس تنوّع شعوبه، ويحتفل بتراثها الغني،

 ويحتفظ بحقوقِ كلّ فردٍ فيها والمرأة على وجه الخصوص”

 

الإعلامية: هيفيدار خالد

دخلت منطقة الشّرق الأوسط مرحلة جديدة بالغة الحساسية عقب هجوم السّابع من أكتوبر عام 2023، الذي نفّذته حركة حماس ضدّ المستوطنات الإسرائيلية، وقد تحوّل الهجوم المفاجئ وغير المتوقع إلى حربٍ عنيفة أدّت إلى مقتل الآلاف من كلا الجانبين، فضلاً عن إصابة مئات الآلاف، ما أدى إلى توسيع رقعة الصّراع بشكلٍ غير مسبوق.

مع توجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى طهران، واتهامها بالوقوف وراء الهجوم عبر تقديم دعم استخباراتي لحماس، امتد نطاق المواجهة ليشمل مناطق أخرى، نتيجة تدخل قوى إقليمية ودوليّة بشكلٍ مباشر في الحرب. فيما كانت الأنظمة تتبادل الرسائل الناريّة، دفعت الشّعوب الثّمن الأكبر من التضحيات والمعاناة والآلام. استغلّت بعض القوى هذا الانفجار الإقليمي لترسيخ موطئ قدمٍ لها في المنطقة، ولو كان ذلك على حساب دماء الأبرياء الذين تحولوا إلى وقودٍ لحربٍ طاحنة لا يد لهم فيها، بعد أن هُدّمت منازلهم، وهُجّروا قسراً من ديارهم، وفقدوا أبناءهم وأبسط مقومات الحياة، وتحطّمت آمالهم وبات مستقبلهم مجهولاً ومرعباً،  ليجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام مآسي الحياة القاسية ومشقّة الحرب التي تلتهم الأخضر واليابس دون تمييز.

العامل الرئيسي في تصعيد حدّة هذه الحرب هو السياسات الدولية المتخبّطة التي لا تكترث لحياة المدنيين، وتساهم – عن قصد أو عن غير قصد – في إفناء الشعوب. لعلّ قطاع غزّة الفلسطيني خير دليلٍ على ذلك، إذ قُتل الآلاف في الحرب الأخيرة، وكان معظمهم من النساء والأطفال دون أن يتحرّك ضمير العالم.

في ظلّ عالمٍ يتغيّر بوتيرة متسارعة، دخلت المنطقة طوراً جديداً شديد الحساسيّة، وصعّدت الأطراف المتحاربة من شدّة صراعاتها، وتغيّرت أشكال المواجهة، فيما ظلّت الأهداف كما هي. فإسرائيل؛ التي طالما سعت إلى القضاء على حركة حماس واقتلاع جذورها، تمكّنت إلى حدٍّ بعيد من إضعاف حماس، وضرب بنيتها التحتية، واستهداف قدراتها العسكرية والسياسية، عبر تنفيذ عمليات اغتيال طالت كبار قادتها في غزة ولبنان وسوريا وحتى داخل إيران.

كما تمكّنت إسرائيل بدعمٍ مباشرٍ من الولايات المتّحدة من تقليص نفوذ حزب الله واستهداف قواعده الرئيسية، بما في ذلك ضرب منظومته الدفاعيّة التي طالما تفاخر بها، واعتبرها منيعةً على الانهيار. كما أنّ اغتيال زعيم الحزب حسن نصرالله، وسقوط المئات من قادته، شكّل ضربة موجعة أدّت إلى انهيارٍ كبيرٍ وسريعٍ في صفوف حزب الله، في مشهدٍ صدم الجميع، وأجبر العديد من الأطراف الإقليمية والدولية على إعادة النظر في حساباتها وسياساتها تجاه المنطقة، ما أحدث تغييراً واضحاً في موازين القوى. وهنا أصاب القلق دول الجوار، خاصّةً بعد الانهيار المفاجئ للنظام البعثي في سوريا، على يد هيئة تحرير الشام، التي سيطرت على السّلطة خلال أسبوع واحد فقط، في تحوّل دراماتيكي أربك المشهد الإقليمي برُمّته.

سعت دولٌ إقليمية وأخرى غربية منذ اندلاع الصراع إلى استغلال حالة التوتر المستمر والاضطراب المتصاعد في الشّرق الأوسط، مستفيدة من التحوّلات السّريعة والتغيّرات المتلاحقة التي اجتاحت المنطقة. هذه القوى جعلت من هذه التطورات أداة لتحقيق أجنداتها الخاصّة، وتأمين مصالحها السياسية والاقتصادية سواء على المدى القريب أو في إطار مشاريع بعيدة المدى تخدم طموحاتها الإقليمية والدولية. هذه الدول وفي مقدمتها تركيا رأتْ في سوريا ساحة مثاليّة لتحقيق مكاسب متعددة الأبعاد- سياسية ودبلوماسية وعسكرية وحتّى اقتصادية- خصوصاً بعد سقوط النّظام البعثي البائد.

تركيا التي كانت تتذرع مراراً بمحاربة “الإرهاب” وحماية أمنها القومي، استغلّت الفوضى لتحتّل مساحات واسعة من الأراضي السورية، وشرعت في تنفيذ سياسات ممنهجة تمثّلت في تهجير السّكان الأصليين من مناطقهم، وفرض تغييرات ديمغرافيّة تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع السّكاني في الشمال السوري. كلّ ذلك تمّ وسط صمتٍ دولي مطبق، يكاد يرقى إلى التواطؤ.

لم تكتفِ أنقرة بالتّدخل العسكري، بل فرضت سيطرتها على البنية الخدميّة للمناطق المحتلّة، من خلال فرض التعامل بالليرة التركية، وفرض اللغة التركية في التعليم، بل وظهور المسؤولين الأتراك بشكل شبه يومي في تلك المناطق وكأنّهم أوصياء على مصير السوريين، يتحدثون باسم السلطة الجديدة في دمشق، ويصدرون قرارات وأوامر تمسّ الشّأن الداخلي السوري، متجاوزين كل الأعراف والسّيادة الوطنية.

موجة التغيير التي عصفت بالمنطقة، بدأت آثارها ترتدّ تدريجياً نحو الدّاخل التركي نفسه، حيث باتَ كيان الدولة التركية مهدداً من الداخل نتيجة تراكم الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فقد أصبحت حرية التعبير شبه معدومة، وتزايدت حالات الاعتقال في صفوف الصحفيين والناشطين الحقوقيين، وتراجعت مؤشرات حقوق الإنسان وحقوق المرأة إلى أدنى مستوياتها منذ عقود.

ولم تتوقف تدخلات تركيا عند حدود سوريا فحسب، بل امتدّت لتشمل العراق أيضاً، حيث قامت بإنشاء عشرات النقاط والمواقع والقواعد العسكرية في إقليم كردستان بذريعة ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، لكنّها في الواقع شكّلت اعتداءً سافراً على السيادة العراقية. كما تدخّلت أنقرة بشكلٍ مباشرٍ في شؤون عدد من المحافظات العراقية وعلى رأسها محافظة كركوك، مستغلّة علاقاتها مع بعض الشخصيّات التركمانية لتعزيز نفوذها هناك.

في سياقٍ متّصل، واصلت تركيا إنكارها المزمن للقضية الكردية التي تعدّ من أبرز القضايا المصيرية في البلاد والمنطقة برُمتها. إذ لا تزال الحكومة التركية تعتمد سياسات فاشية وعنصرية تجاه الشعب الكردي، ساعيةً إلى طمس هويته القومية، وممارسة التمييز ضدّه، وحرمانه من أبسط حقوقه الثقافية والسياسية. تاريخياً؛ لم تتوانَ السلطات التركية عن استخدام العنف وارتكاب المجازر بحق الكرد، في محاولاتٍ مستمرة لإبادتهم أو صهرهم في بوتقة الدولة التركية.

أحدثت التطوّرات المتسارعة التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط حالة من القلق والارتباك داخل الدولة التركية، وأثارت مخاوف حقيقية لدى قيادتها من انعكاسات ما يجري حولها، لا سيّما التحركات الإسرائيلية في كلٍّ من سوريا ولبنان وفلسطين، حيث تسعى إسرائيل إلى تصفية وجود كل من حركة حماس وحزب الله، وتجفيف منابع نفوذهما في المنطقة. كما أنّ انهيار الأنظمة القومية التي كانت حتى وقت قريب تشكّل عموداً فقريّاً للسياسة الإقليمية، ساهم في تعميق حالة القلق التركي، إذ لم تعد هذه الأنظمة قادرة على الاستمرار أو تأمين استقرارٍ داخلي، بل أصبحت مرادفاً للفقر والمجاعة والخراب والدمار والموت العشوائي الذي يدفع ثمنه المواطن العادي.

زاد الطّين بلّة الدّعمُ الأمريكي والغربي اللامحدود لإسرائيل من أجل تنفيذ أجنداتها ومخططاتها وضمان نفوذها الأمني والسياسي في المنطقة. هذا الواقع دفع تركيا إلى اتخاذ خطوات غير معتادة، بعدما أيقنت أنّ التطورات هذه المرّة لن تمرّ مرور الكرام كما في السابق، وأنّ أمنها القومي أصبح عرضة للتأثّر المباشر بالتحولات الجارية من حولها.

في خطوة غير مسبوقة، خرج رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، في أكتوبر 2024، خلال اجتماع الكتلة البرلمانية لحزبه بتصريح مفاجئ، قال فيه: “بإمكان السيد عبد الله أوجلان أن يأتي ويتحدث في اجتماع كتلة حزب المساواة والديمقراطية، ويعلن حلّ حزب العمال الكردستاني”، مشترطاً لذلك رفع العزلة والإفراج عنه. وأضاف بهجلي، “تركيا لا تحتاج إلى عملية سلام جديدة، بل إلى خطوات صادقة ومخلصة، وإلى مزيد من تعزيز الأخوة التي تعود إلى أكثر من ألف عام”.

عقب هذه التصريحات بأيام، أعلن رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان دعمه الكامل لموقف بهجلي، في إشارةٍ واضحةٍ إلى أنّ هذه المبادرة لم تكن مجرّد موقف حزبي فردي، بل تعكس توافقاً سياسياً واسعاً داخل أروقة الحكم، وخاصة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، سعياً إلى امتصاص تداعيات التصعيد الإقليمي، والبحث عن اختراق في القضية الكردية التي باتت تشكّل عبئاً ثقيلاً على الأمن القومي التركي.

من جانبه؛ أبدى القائد عبد الله أوجلان تجاوباً مع هذه المبادرة، معرباً عن استعداده لبدء مرحلة جديدة من السلام في تركيا والمنطقة، ورحّب بمقترح حلّ القضية الكردية، معتبراً ذلك خطوة محورية من شأنها أن تؤسس لتحوّل سياسي إيجابي لا يقتصر على تركيا، بل يشمل عموم مناطق كردستان، وينعكس أثره على مستقبل الشرق الأوسط برمته.

هذا التوجه يمكن أن يمثل بداية جديدة لرسم خريطة طريق نحو شرق أوسط ديمقراطي، تعيش فيه جميع الشعوب والمكونات في ظلّ الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية، بعيداً عن سياسات الإقصاء والإنكار التي تفرضها الأنظمة التقليدية. في هذا السياق يشدد المفكر عبد الله أوجلان في مرافعاته الأخيرة، لا سيّما في الجزء الخامس منها على أنّ “الحلَّ الكردستاني هو الحلُّ الديمقراطي للشّرق الأوسط برُمّته”، في إشارة منه إلى أنّ حل المسألة الكردية يُشكّل مدخلاً لحل جميع القضايا المزمنة في المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وغيرها من الصراعات التاريخية العالقة التي لا تزال تنتظر حلاً جذرياً على أساس رؤية شاملة تعكس تطلّعات الشعوب لا مصالح الأنظمة.

أطلق الفيلسوف عبد الله أوجلان نداءً تاريخياً لقي ترحيباً واسعاً، في خطوة تعكس قدرته الفريدة على طرح الحلول الجذرية للقضايا المعقدة، وسعيه المستمر لإنهاء الحروب المزمنة التي تعصف بالمنطقة منذ قرون. يُعد هذا النداء محاولة حقيقية لإنهاء الصراع الكردي-التركي بوسائل ديمقراطية وسلمية، ذلك عبر مقاربات سياسية وحقوقية ودبلوماسية تضمن السلام والاستقرار للجميع.

غير أنّ تحقيق هذه المبادرة الطموحة يتطلّب من الدولة التركية اتخاذ خطوات ملموسة على الأرض، تبدأ أولاً بمنح القائد عبد الله أوجلان حقّه في “الأمل” وتحريره جسدياً من سجنه في إمرالي، باعتباره شرطاً أساسياً لأي مسار سلام جدّي. إلا أنّ السلطات التركية لا تزال تماطل في هذا الشأن، وسط استمرار نظام العزل المشدد والتعذيب النفسي، في تجاهلٍ واضحٍ لأبسط معايير حقوق الإنسان.

المفارقة الصارخة هي أنّ منظماتٍ دولية تُعنى بحقوق الإنسان، كثيراً ما تصدر بيانات بشأن ملفات هامشية أو قضايا رمزية في دول عدة، تلتزم الصمت التام إزاء الانتهاكات الجسيمة التي تُمارس داخل سجن إمرالي. فعلى سبيل المثال؛ لم تُصدر منظمة العفو الدولية حتى الآن أي بيان تدين فيه نظام العزلة والتعذيب الممنهج بحق المفكر عبد الله أوجلان، ولم تطالب صراحة بالإفراج عنه أو توفير شروط عادلة لاحتجازه، وكأنّ القضية لا تعنيها.

في المقابل، لا تتوانى الدولة التركية عن إطلاق دعوات متكررة لحزب العمال الكردستاني لإلقاء السلاح، متناسية أنّ القضية الكردية ليست محصورة في مسألة السلاح فقط، بل تتجاوز ذلك لتشمل حقوقاً قومية وثقافية مشروعة تتطلب حلاً شاملاً. مع ذلك؛ تصرّ أنقرة على تجاهل مسؤولياتها، وتتشبث بذهنية قومية عنصرية وإقصائية، ترفض الاعتراف بوجود الشعب الكردي وحقوقه، وتُمعن في تصعيد الصراع بدلاً من معالجته بالحكمة والحوار.

ما يزيد من تعقيد المشهد، استمرار تركيا في قصف مناطق “الدفاع المشروع” بالطائرات الحربية، وتنفيذ عمليات عسكرية باستخدام مختلف أنواع الأسلحة، في حملة تبدو وكأنّها تستهدف إجهاض أي فرصة للسلام الحقيقي. بدلاً من أن تتجاوب مع النداءات الرامية إلى وقف الحرب وبناء مجتمع ديمقراطي، تواصل أنقرة إشعال فتيل الحرب وتوسيع رقعتها، متجاهلة التحذيرات من أنّ تجاهل القضية الكردية سيقودها عاجلاً أم آجلاً إلى المصير نفسه الذي واجهته أنظمة قومية فاشلة انهارت تحت وطأة استبدادها وسياساتها العنصرية. الأخطر من ذلك هو الصمت الدولي المريب، حيث يغض المجتمع الدولي والقوى الكبرى الطرف عن السياسات التركية القمعية، في موقف لا ينسجم مع ما تعلنه تلك الجهات من شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية.

في خضمّ التطورات المتسارعة التي شهدتها تركيا والمنطقة، بقيت سوريا تراوح في أزمتها المستمرة. بعد انهيار نظامها البعثي السابق، ونتيجةً للهجمات المستمرة التي تشنها دولة الاحتلال التركي ضد شعوب ومكوّنات شمال وشرق سوريا. فبالتزامن مع العملية العسكرية التي أطلقتها هيئة تحرير الشام تحت مسمى “ردع العدوان”، أطلقت دولة الاحتلال التركي عملية عسكرية احتلالية موازية سمتها “فجر الحرية”، استهدفت من خلالها مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية، وركزت هجماتها على المدنيين، من أطفال ونساء، كما طالت البنية التحتية الحيوية.

هذه الهجمات حرمت السكان من أبسط مقومات الحياة، كالماء والكهرباء، واستهدفت الأفران والمنشآت الخدمية، واحتلت مدينة منبج، وهجّرت سكانها، ناشرةً الفوضى والذعر، وأعادت الفلتان الأمني إلى المنطقة، إلى جانب نهب منازل المدنيين، وإنشاء قواعد عسكرية جديدة، وتجنيد مجموعات من المرتزقة السوريين لخدمة أهدافها. لقد تسببت هذه العمليات في تقويض الأمن والاستقرار الذي كانت تنعم به المنطقة نسبياً.

لكن بالمقابل؛ أبدت شعوب المنطقة إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية المرأة مقاومة بطولية في وجه هذه الهجمات، ودفعت ثمناً باهظاً لحماية مناطقها من التوسع التركي. كانت “مقاومة سد تشرين” مثالاً حيّاً على هذا الصمود، حيث قدّم أبناء وبنات شمال وشرق سوريا تضحيات عظيمة لحماية المصدر الأساسي للطاقة والمياه الذي يخدم ملايين السوريين، ومنع وقوعه بيد الاحتلال التركي، وقد استشهد العديد من الصحفيين والنساء والأطفال والمسنين خلال تصديهم لهجمات غاشمة استهدفت كل مقوّم للحياة.

عقب سيطرة هيئة تحرير الشام على السلطة في البلاد، دخلت سوريا مرحلة جديدة من الفوضى والانفلات الأمني، نتيجة السياسات الأحادية التي فرضتها الهيئة، من إدارة ذات لون وطائفة واحدة، مروراً بلجنة الحوار الوطني التي أُفرغت من مضمونها التوافقي، وصولاً إلى تغييرات في المناهج الدراسية والمصطلحات، وإعلان مسودة دستورية قوبلت بغضب عارم من مختلف القوى السياسية والاجتماعية، خصوصاً المنظمات النسوية والثقافية.

الحكومة التي شكّلها الجولاني كانت بمثابة إعادة تدوير لقيادات “حكومة الإنقاذ” في إدلب، ومعظمهم محسوبون عليه، ولا يمثلون التعدد العرقي والديني الحقيقي لسوريا، لا من الكُرد، ولا من السريان، ولا من الآشوريين. لقد أثبتت التجربة أنّ الحكم من إدلب لا يختلف كثيراً عن الحكم من دمشق، فالسياسات التي تمارسها الحكومة الجديدة لا تختلف من حيث الجوهر عن سياسات حزب البعث، التي قامت على الإقصاء وتكريس الحكم الفردي والاحتكار السلطوي.

اليوم؛ يعيش الشعب السوري حالة من اليأس والقلق وسط تردٍّ أمني غير مسبوق، وتزايد لافت في جرائم القتل والسرقة والسطو، ما يرسخ الشعور العام بأنّ البلاد لم تخرج من الأزمة بل دخلت في مرحلة أكثر سوداوية وغموضاً. إلى جانب انتهاكات المجموعات الإرهابية المنضوية تحت لواء “حكومة الجولاني”، فقد تصاعدت وتيرة المجازر المرتكبة بحق السوريين، لا سيما في مناطق الساحل السوري ذات الغالبية العلوية، هذه الجرائم التي ارتُكبت بدمٍ بارد بحق النساء والأطفال والمسنين، أصبحت وصمة عار ستلاحق الجولاني أينما حلّ، ولا بدّ من مساءلته ومحاسبته أمام العدالة الدولية.

ارتُكبت جرائم إبادة بحق قرى وعائلات كاملة، في مشهدٍ يُعيد إلى الأذهان فظائع تنظيم داعش الإرهابي، ولا سيما مجازره المروعة بحق النساء الأيزيديات في قضاء شنكال عام 2014. لا يزال مصير المئات من الضحايا مجهولاً، في ظل غياب أي مسار واضح لتحقيق العدالة أو إنصاف المتضررين من هذه المذابح المروعة. من خلال متابعة الوضع السوري في الآونة الأخيرة، يبدو جليّاً أنّ التحديات الأمنية ستستمر، وربّما تتفاقم قبل أن تُحتوى فعليّاً، وهذا يعني أنّ سوريا ستبقى أسيرة الفوضى وانعدام الاستقرار وفقدان الأمن، في ظل مشهد متغيّر منذ انهيار النظام البعثي السابق.

في ظلّ هذا الدمار الهائل والخراب المستشري خصوصاً في سوريا، بات واضحاً للجميع أنّ الأنظمة المركزية لم تُفلح في حل الأزمات، بل أسهمت في تعميقها وتوسيع هوّة الانقسام. تجاهل الحقوق المشروعة لمكوّنات الشعب السوري، وعلى رأسها الكُرد، وعدم تضمينها في الدستور السوري، يُعدّ عاملاً جوهرياً في استمرار الأزمات وانسداد أفق الحل السياسي. لذا؛ فإنّ تحقيق الأمن والاستقرار المستدام في سوريا لن يتحقق دون الاعتراف الفعلي بالتنوّع القومي والديني والثقافي، وصياغة عقد اجتماعي جديد يضمن حقوق الجميع على قدم المساواة.

بل يمكن القول وبكل وضوح، إنّ المرحلة الأصعب لم تبدأ بعد في سوريا، فالوضع الأمني هشّ للغاية، والآلاف من المرتزقة الأجانب الذين تمّ دمجهم تحت ما يُسمى “وزارة الدفاع”، باتوا يشكلون هاجساً مرعباً لدى مختلف فئات الشعب السوري، لا سيّما وأنّ سجلات الكثير منهم ملطّخة بدماء المدنيين، وموثّقة أمام عدسات الكاميرا، دون أن تطالهم يد العدالة حتى اليوم.

إنّ ملف المرتزقة بما يحمله من تداعيات خطيرة، يُعدّ تهديداً مباشراً لمستقبل الدولة السورية وسلطتها في دمشق، ويضع الشرعيّة على المحك. تأسيساً على المعطيات الراهنة يبدو من الصعب التنبؤ بما آلت إليه الأمور في المستقبل القريب، في ظلّ الانقسامات العميقة والتدخلات الإقليمية والدولية التي لم تُفضِ بعد إلى أي أفق للحل أو المصالحة الشاملة.

من خلال متابعة المشهد السياسي العام في سوريا، يتّضح أنّ النظام التركي ماضٍ قُدماً في تنفيذ استراتيجية تهدف إلى بسط نفوذه على سوريا، وخاصةً على السلطة الجديدة في دمشق والتي تجمعه بها علاقات جيدة منذ سنوات، ذلك بعد أن قدّمت له هذه السلطة دعماً عسكرياً ولوجستياً مباشراً. تمكّن النظام التركي من بسط هيمنته على الهيكلية العسكرية في المناطق التي تحتلها قواته داخل الأراضي السورية، مستغلاً بذلك حالة الانهيار المؤسسي التي خلّفتها سنوات الحرب الطويلة.

لقد تحوّلت سوريا إلى ساحة مفتوحة للتنافس الإقليمي والدولي، حيث تتصارع فيها القوى الكبرى والإقليمية على النفوذ. فمع سقوط النظام السابق بقيادة بشار الأسد، أُتيح المجال لتنافس محموم بين تركيا وإسرائيل على ترسيخ موطئ قدم في البلاد، وذلك عبر رؤى استراتيجية متباينة، تتقاطع أحياناً في ملفات معيّنة، لكنّها تتعارض جذرياً في الأهداف النهائية. تسعى إسرائيل إلى التوغل في بعض المناطق السورية لتأمين حدودها وفقاً لما تسوّقه من مبررات أمنية، لا سيما بعد أن تسلّمت الفصائل الموالية لتركيا زمام السلطة في بعض المناطق، وتضمّ في صفوفها عناصر أجنبية، ما زاد من مخاوف تل أبيب.

في موازاة ذلك؛ يلاحظ تراجع واضح في دور المكونات السورية المتعددة، وازدياد محاولات إقصاء المرأة السورية عن مراكز صنع القرار والحياة العامة، رغم أنّها أحد الأعمدة الأساسية في الحراك الشعبي الذي انطلق عام 2011. فقد شاركت المرأة في التظاهرات والاعتصامات، مطالبة برحيل النظام البعثي وتحقيق مسار ديمقراطي يحفظ كرامة وحقوق جميع السوريين، وخاصة النساء اللواتي ذُقن الأمرّين تحت حكم نظام قمعي واستبدادي.

رغم تلك المعاناة أثبتت المرأة السورية شجاعة لافتة، متحدّية القمع والملاحقات الأمنية، ومقدّمة نموذجاً للريادة الاجتماعية. غير أنّ انحراف الحراك السلمي عن مساره بفعل التدخلات الإقليمية والدولية أفضى إلى تهميش كبير لدورها وتفاقم معاناتها. في المقابل؛ سلكت المرأة في مناطق شمال وشرق سوريا طريقاً مختلفاً، حيث اعتمدت ما يُعرف بـ”الخط الثالث”، ونظّمت نفسها ضمن مشروع الأمة الديمقراطية والإدارة الذاتية التي جعلت من المرأة حجر الأساس في بناء مؤسساتها. أسهم هذا النموذج الذي يتبنّى مبدأ التشاركية والمساواة في إعادة الاعتبار للمرأة ودورها السياسي والاجتماعي، وجعلها فاعلاً حقيقياً في صياغة مستقبل المنطقة.

مع استيلاء هيئة تحرير الشام على السلطة في البلاد، تصاعدت محاولات استهداف دور المرأة في إدارة وتنظيم شؤون المجتمع، بما في ذلك تقليص دورها القيادي وفرض قوانين وتشريعات جديدة تهدف إلى العودة بالمرأة إلى عصور غابرة. في ظلّ هذه التطورات المتسارعة يصبح من الضروري أن تتكاتف النساء السوريات أكثر من أي وقت مضى، وأن يكثفنَ جهودهن ونضالها، مع التأكيد المستمر على ضرورة إشراك المرأة في جميع مجالات الحياة السياسية والدبلوماسية والأمنية، ذلك لضمان الحفاظ على المكتسبات التي حققتها المرأة حتى الآن.

إنّ سوريا المستقبل، سوريا التعددية التي تحتضن جميع مكوناتها، يجب أن تكون مكاناً يعكس تنوع الشعب السوري بكافة أطيافه وألوانه. تبقى سوريا بغناها التاريخي والثقافي والحضاري العريق بعيدة عن التطرف والإرهاب والعنصرية والأفكار التكفيرية. الأهم من كل ذلك هو الحفاظ على اللُّحمة بين مختلف فئات الشعب، وعلى وجه الخصوص بين النساء السوريات التوّاقات للحرية والحياة الكريمة.

اليوم يتطلّب من شعوب المنطقة التي عانت وما زالت تعاني من ويلات الحروب تنظيم صفوفها وإنشاء نظامها الخاص القائم على الحماية الذاتية والجوهرية، بعيداً عن الاعتماد على وعود الأطراف الدولية التي لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها وأهدافها. يبقى عنصر الحماية الذاتية خياراً أساسياً لشعوب الشرق الأوسط في مواجهة التحولات الإقليمية والدولية والتغيرات المتسارعة، من خلال بناء تحالفات واتفاقات حقيقية مع القوى الديمقراطية، على أسس منطقية وواقعية، تخدم قضايا جميع شعوب المنطقة، بعيداً عن العنف والتطرف والإرهاب الذي يهدد العالم ويحاول فرض حصار على الشعوب الحرة.

في نهاية المطاف؛ نجد أنّ شعوب الشرق الأوسط التي ذاقت ويلات الحروب لعقود، تتأرجح اليوم بين آمال جديدة وآلام قديمة، بين حلم بالسلام وبين كابوس من الحروب المستمرة. إنّها كالسفينة التي تعوم ولا تعلم إلى أي شاطئ ستصل، ولكنّها لا تزال تحمل الأمل في شراعها المهزوم. الشعوب التي ضاقت ذرعاً بالتقسيمات العرقية والطائفية، أصبحت اليوم كالعشب في الصحراء تشق طريقها بين الحجارة بحثاً عن قطرة ماء من السلام والعدالة.

لقد تعلّمت المنطقة من خلال الدمار الذي خلفته الحروب، أنّ الأنظمة الاستبدادية لا تبني إلا الجدران بين الشعوب، وتُعمِّق الهوّة بين الأمل واليأس. كما أنّ القوى الدولية الكبرى التي تتحكم في مفاتيح القرار تبقى كالعاصفة التي تهب فتتلاعب بأعواد القصب، دون أن تهتم إذا كانت ستكسرها أو تُدمّرها. إذا كانت شعوب الشرق الأوسط ترغب في بناء مستقبلها، يجب أن تحفر بأناملها طريقاً نحو الشرق الأوسط الديمقراطي الذي يعكس تنوع شعوبه، ويحتفل بتراثها الغني، ويحتفظ بحقوق كل فرد فيها. فالنضال من أجل الحق لا يمكن أن يتوقف، ومهما كانت التحديات، تبقى الشعوب الحرة كالطائر الذي يحلق نحو الأفق بكل شجاعة، منتصراً على أوجاع الماضي وتحديات الحاضر.