المرأة العربية بين الحفاظ على الإرث الثقافي وإحياء الهوية المجتمعية – فاطمة محمد علي

المرأة العربية بين الحفاظ على الإرث الثقافي وإحياء الهوية المجتمعية

“المرأةُ العربية حاضنةٌ للإرث الثقافي،

وقلبُ الثقافة النابض، وأساسُ الهوية عبر العصور،

فهي صِلةُ الوصل في الثقافة العربية بين

الماضي العريق والحاضر المتجدد والمستقبل”

 

فاطمة محمد علي

لطالما لعبت المرأة العربية دوراً جوهرياً في تشكيل وصون الثقافة العربية عبر العصور، فهي لم تكن مجرد حافظة للتراث بل كانت صانعة له، مؤثرة في تاريخه، وناقلة له عبر الأجيال. من دورها في العشائر والقبائل إلى مساهماتها في الأدب والفكر والفنون، وكانت المرأة العربية أساساً للحضارة ونبراساً يضيء معالمها. ففي المجتمعات القبلية القديمة، لم تكن المرأة مجرد تابع، بل كانت محوراً مهماً في نقل المعرفة الشفوية التي شكلت جزءاً كبيراً من التراث العربي. كانت تحفظ الأشعار وتروي القصص، وتنقل الحكم والأمثال التي تعكس قيم المجتمع وهويته. لم تكن هذه الروايات مجرد تسلية، بل كانت وسيلة لحفظ التاريخ وتوجيه الأجيال القادمة. وكانت الأم والجدة هما الأساس في تعليم الأطفال، فتنقلان إليهم اللغة الصافية، والتقاليد، وأصول الفروسية والكرم والشجاعة.

ولم يقتصر دور المرأة العربية على نقل التراث فحسب، بل شاركت أيضاً في صناعته. فخلال العصر الجاهلي برزت شاعرات مثل الخنساء، التي لم تكن مجرد راوية للأحداث بل مؤرخة لشجاعة قبيلتها من خلال شعرها. ومع ظهور الإسلام تعزز دور المرأة في نشر المعرفة، حيث برزت شخصيات مثل السيدة عائشة بنت أبي بكر، التي كانت من أهم رواة الحديث، وساهمت في تفسير الكثير من الأحكام الدينية. وفي العصر العباسي ازدهرت مشاركة المرأة في الأدب والفكر، فلمعت أسماء مثل ليلى الأخيلية وولادة بنت المستكفي اللتان اشتهرتا بجرأتهما الفكرية وإبداعهما الأدبي.

لم يكن الحفاظ على الثقافة مجرد عمل فردي للمرأة، بل كان جهداً جماعياً تمارسه في الحياة اليومية. فمن خلال الحرف التقليدية مثل التطريز وصناعة السجاد والفخار استطاعت المرأة أن تحافظ على الهوية الثقافية لمجتمعها وتحميها من الاندثار. وكانت هذه الحرف تعبيراً فنياً عن القيم والعادات، كما كانت وسيلة اقتصادية لدعم الأسرة. وفي العصور الحديثة، استمرت المرأة العربية في أداء دورها الثقافي رغم التغيرات السريعة التي شهدها العالم. فقد أصبحت كاتبة وشاعرة وفنانة، تحمل رسالة الحفاظ على التراث من خلال أعمالها. ساهمت في توثيق العادات والتقاليد عبر الكتابة، وأحيت الفلكلور الشعبي من خلال المسرح والسينما، كما أبدعت في مجالات الفنون البصرية للحفاظ على الرموز الثقافية للأمة.

وفي الوقت نفسه، لم تتوقف المرأة العربية عند حدود الحفاظ على التراث، بل سعت إلى تطويره بما يتناسب مع متطلبات العصر. فقد لعبت دوراً بارزاً في المؤسسات الثقافية، فكانت أستاذة جامعية، وباحثة في التاريخ، ومنظمة لمهرجانات التراث، ومدافعة عن قضايا الهوية الثقافية في المحافل الدولية. كان هدفها الأسمى ليس فقط حماية التاريخ، بل بناء مستقبل ثقافي قوي قادر على الصمود في وجه العولمة.

دور المرأة في شمال وشرق سوريا كان فعالاً، حيث تمتزج الهويات والثقافات المختلفة، برزت المرأة كعنصر فاعل في المجتمع، ليس فقط كحافظة للتراث والتقاليد بل كقوة سياسية مؤثرة. استطاعت أن تعيد تشكيل واقعها رغم التحديات الصعبة. في هذه المنطقة التي شهدت اضطرابات سياسية واجتماعية عميقة، وجدت المرأة نفسها في قلب التغيير، واستطاعت أن توازن بين الحفاظ على الهوية الثقافية، والمشاركة في بناء مستقبل جديد قائم على المساواة والعدالة.

 تاريخياً، كانت المرأة في شمال وشرق سوريا جزءاً أساسياً من النسيج الثقافي، حيث لعبت دوراً مهماً في نقل التراث الكردي والعربي والسرياني والأرمني والآشوري، وذلك من خلال الأغاني الفلكلورية والقصص الشعبية والأمثال التي تحمل في طياتها حكمة الأجداد. لم تكن فقط راوية للتاريخ، بل كانت شريكة في صناعته، إذ شاركت في الحرف اليدوية، والزراعة، والأنشطة الاقتصادية التي دعمت المجتمعات المحلية، وضمنت استمرارية العادات والتقاليد رغم المتغيرات.

لكن التحول الأكبر في دور المرأة في شمال وشرق سوريا جاء مع الأزمات السياسية والنزاعات التي شهدتها المنطقة، حيث فرضت عليها الظروف أن تكون أكثر من مجرد حافظة للتراث، بل صانعة للقرار ومؤثرة في المشهد السياسي والاجتماعي. برزت المرأة كقيادية في العديد من المؤسسات السياسية والمجتمعية، حيث أسست مجالس نسائية، وشاركت في نظام الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا، وتولت مناصب قيادية في الأحزاب السياسية، منحها ذلك صوتاً أقوى في صنع القرار.

إحدى أبرز سمات التجربة السياسية للمرأة في شمال وشرق سوريا هو نموذج “الإدارة الذاتية”، الذي أتاح للمرأة فرصة حقيقية للمشاركة الفعالة في الرئاسة المشتركة. فمن خلال مبدأ “الرئاسة المشتركة”، استطاعت المرأة أن تتبوأ مناصب قيادية في مختلف المجالات، جنباً إلى جنب مع الرجل، وهو ما ساهم في تعزيز ثقافة المساواة ورفع الوعي بحقوق المرأة في المجتمع.

كما لعبت وحدات حماية المرأة (YPJ) دوراً محورياً في كسر الصورة النمطية عن المرأة، حيث أثبتت أنها قادرة على الدفاع عن مجتمعها ليس فقط في المجال السياسي والاجتماعي، بل حتى في ساحات القتال، مما جعلها رمزاً عالمياً للمرأة القوية والمستقلة. كما أضافت على تاريخ المنطقة ومكوناتها كماً هائلاً من السمات، ومنها إحياء دور المرأة في حماية وطنها وهويتها الثقافية، ودورها البارز في دفع عجلة التقدم الثقافي في المنطقة، وذلك عبر تضحياتها في سبيل حماية هوية المرأة الثقافية من الإبادات وهجمات الحرب الخاصة والحرب الباردة. لم يكن الطريق نحو هذه القوة السياسية سهلاً، فقد واجهت المرأة في شمال وشرق سوريا تحديات عديدة، متمثلة بالعادات والتقاليد المحافظة التي كانت تحد من دورها، إلى النزاعات السياسية التي وضعت المجتمعات في حالة عدم الاستقرار. لكن رغم هذه العقبات، استطاعت أن تبني لنفسها مكانة قوية، وتعزز دورها كصانعة قرار، لتتحول من مجرد ناقلة للثقافة والتقاليد إلى قوة تدفع بمجتمعها نحو مستقبل أكثر عدالة ومساواة.

اليوم، تمثل المرأة في شمال وشرق سوريا نموذجاً يُحتذى به في العالم العربي، حيث تمكنت من تحقيق التوازن بين الحفاظ على الهوية الثقافية والانخراط الفعّال في السياسة والمجتمع. بفضل نضالها المستمر لم تعد مجرد صوت هامشي في المجتمع، بل أصبحت رمزاً للقدرة على التغيير، وسفيرة لقضية المرأة في الشرق الأوسط، تحمل على عاتقها مسؤولية بناء مستقبل تكون فيه المرأة شريكة حقيقية في كل مجالات الحياة.

في يومنا هذا تواجه الثقافة العربية تحديات كبيرة، حيث باتت العولمة والتكنولوجيا تهدد بعض جوانبها الأصيلة. لكن المرأة العربية لا تزال على العهد وتواصل تعليم الأجيال الجديدة لغة أجدادهم، وتغرس فيهم حب الهوية والانتماء. إنها تحارب النسيان بجهودها في المنازل والمدارس والمراكز الثقافية، وتصرّ على أن تبقى الثقافة العربية حيّة ومتجددة، لا مجرد ذكرى من الماضي. إنّ دور المرأة العربية في الحفاظ على الثقافة لم يكن مجرد واجب، بل كان شغفاً والتزاماً وعملاً دؤوباً امتد عبر الأجيال. وكما كانت حافظة للأشعار، وناقلة للحكايات، وصانعة للفنون، فإنّها اليوم تواصل المسيرة مؤمنة بأنّ الثقافة ليست مجرد ماض ٍ يُحكى، بل هوية تُعاش وتُبنى للأجيال القادمة.

ختاماً، كانت المرأة العربية ولا تزال العمود الفقري للثقافة والهوية، حافظةً للإرث ومجددةً له، وناقلةً للمعرفة والحكمة عبر الأجيال. من الخيام في البوادي إلى صروح الأدب والفكر، ومن المجتمعات القبلية إلى المنصات السياسية والثقافية، أثبتت أنّها ليست مجرد راعية للتراث، بل صانعة له، تحمله في كلماتها، في فنونها، وفي نضالها المستمر للحفاظ على جوهر الهوية العربية في وجه التحديات. واليوم في عالم سريع التحولات يظل دورها أكثر أهمية من أي وقت مضى، فهي جسر بين الماضي والمستقبل، تحرس ذاكرة الأمة، وتزرع في الأجيال القادمة الوعي والفخر بتراثهم، لتبقى الثقافة العربية متجددة، نابضة بالحياة، قادرة على الصمود أمام رياح التغيير.