لنْ يذبُلَ الياسمين .. في وطني – الكاتبة والشاعرة: عفاف حسكي
لنْ يذبُلَ الياسمين .. في وطني ..
“مهداةٌ إلى روح شهيدة الياسمين هڤرين خلف”
الكاتبة والشاعرة: عفاف حسكي
العشق للوطن، هو بلا شك من أجمل وأسمى القيم الروحية والجمالية والأخلاقية المطلقة، هي الحقيقة الأكثر سطوعاً ونبالةً في ممارسة الحياة والعشق ذاته وهو عشق يتعاظم كلما كان الوطن واضحاً لك قريبا لك ليس كجغرافية فحسب، وإنما كتاريخ وعلاقة انتساب المواطن لترابه ومائه وخبزه، ومناخه.
ويكون هذا العشق أكثر سمواً حينما تكون مؤمناً بأن سمائه هي الأجمل، وأن عشبه هو الأكثر خضرةً ونداوة، وأن زهره وورده أعبق عطراً ورائحةً، وحينما يكون لك حكايات كفاح، وعمل، وأمل، وحلم وحينما تمتلك حرية الرأي والتعبير، وتلقائية الانسياب، أن تتحول إلى نسمة وإن تتنفس من رئتيه، وأنت تعيش كل حالاتك من فرح.
حزن وألم ومشاعر القلق والانقباض التي ربما تراودك أو تعيشها وأنت تمارس وطنيتك أو عشقك للوطن فتقرأ كل ملامحه وصوره وتاريخه وتجلياته وتعيش مشاعر القلق والخوف عليه، وحينما تجده مزداناً بتباشير الفجر، مبللاً بخضل المطر ومشرقاً مزنراً خاصرة فضائه بقوس قزح بهيج بكل دفء، حينها يتحول الوطن إلى وشم. نحمله على جلودنا لا ثوباً نرتده، ونخلعه كيفما نريد، فالوطن ليس خريطة نعلّقها على جدراننا وليست درس جغرافيا أو تاريخ في كتبنا، وليس فندقاً ننام في حضنه وقتاً ونغادره كيفما نريد، الوطن ليس سوقاً نشتري به ونبيع، وإنما هو من نحن برسم أن نكون له، وأن نشعر بأنه السند والجدار والظل والخيمة العملاقة والحضن الشاسع، الذي إليه تعود مهما حنت عليك أرض الغربة، ومهما منحتك محبتها، فالوطن أم، وانتماء وأصالة.
أَنظرُ بعينين تشعان بالقوة والأمل، إلى المدى البعيد، لتخوم البلاد والوطن، أسافر مع سطور تاريخه وأحلق في مجده وأغرق في تفاصيل حكاياته وأساطيره، وأذوب في موسيقا أغانيه القديمة، فينبعث الدفء في كياني وينبض القلب بإيقاع العشق، ويسري الدم دافقاً دافئاً في مسارات الجسد والروح.
تحلق الراحة، وشعوراً جميلاً، شعوراً مبهماً، يتسلل روحي يخدرني، يبوح لي بحب ويستوطن قلبي، ويغفو في أعماق الروح ولا يغادرني، يطارد الأحزان ويغلق باب الهواجس، فأعود أتنفس شذى هذي الأرض وأدخل حالة الذهول والهذيان، تنقشع ظلال التشاؤم، وتتبدد عتمة الماضي بفجر جديد، ببراعم جديدة وربيع جديد، ويشع النهار ألقاً وألواناً، وتبتهج بتلات الياسمين بياضاً، ونضارةً.
أطفال المدارس، والنساء العاملات الجميلات نمضي معا نسير كتفا لكتف مع شبابنا ورجالنا في كل مكان، المدارس والساحات والخنادق، وباحات الفن والموسيقى والمسارح، على دروب الربيع المخضرة بالعشب والنضرة بالخطوات الثورية، المفعمة بأنفاس الثورة والحياة الجديدة، نصنع العشق الحقيقي، العشق الكبير فيبدأ القلب يغني ملاحم البطولة والجمال، العصافير أيضاً وكأنها تشاركنا، كأنها أيضاً للتو حطمت أسلاك أقفاصها المقيتة، تحلق بأجنحتها الصغيرة نحو الشمس، تزقزق بفرح غامر وكأنها في كرنفالٍ للعشق، إننا نمضي ونحمي ميراث الحرية، وميراث العشب والشجر، ميراث البشر والحجر، ميراث الزيتون والقمح والبيادر، ميراث إنسانيتنا.
صوت قوي يسكنني، يصرخ ويعلن:
أننا على حق وعلى يقين ولن نخسر المستقبل، ولن نتحسر بعد الآن، فالآمال تحققت والسنابل لا تكذب أبداً، فالعشق شجرة خضراء تزهر زهوراً بكل الألوان، تحمل بكل الثمار، وهكذا هي الحياة، تراتيل عشق في محراب القدسية والبطولة والفداء.. درب رسمها لنا الأبطال والشهداء بعرقهم وجهدهم وحبر أراوحهم وبأقلامهم ودمائهم الزكية الغالية. سفوحها رخيصة في سبيل أرض غالية، في سبيل حياة جديدة نقية كبتلات الياسمين تبث بياضها كالنجوم وترسل أريج عطرها في البيوت وحاراتنا الجميلة، تعلن عشقاً أزلياً للمكان، وسيرة حياةٍ لا تنتهي، بكل رهافتها ونعومتها تسمو، ثم تغفو على أكتاف جدران بيوتنا، تمنحنا البياض والأمل والعطر والسلام. فكل أناشيد الحب كانت للياسمين، وكل مراثنا كانت لندى الياسمين التي أدمعت كثيراً، وطويلاً.
سنمضي معاً، بخطى أكثر ثباتاً وعزيمة، ننشد للحرية، لوطن لا نغادره ولا يغادرنا، ولن تنطفئ مواقدنا، سنكون الريح التي تهب، تحرك أشرعة التاريخ. سنمضي في بحر الحياة سفينة جديدة، وسحب غيمٍ ماطرةٍ، نروي تراب بلادنا، فيورق الشجر ويزهر الحب في ربوع بلادنا سنمضي بسواعدنا، بالحب والعرق ودمنا، نحو مجدنا، نحو انتصارنا العظيم. ولن يذبل الياسمين.
لن يذبل الياسمين..