حي الشيخ مقصود ملحمة لم تُكتب بعد – سعاد محمد حنيف كرو
حي الشيخ مقصود ملحمة لم تُكتب بعد
(الجزء الأول)
“سأكتب لهؤلاء الذين كانوا ضحايا الحرب القذرة،
لأجل مقاومات نساء وفتيات وأمهات الشيخ مقصود،
تبقى الكلمات صغيرة أمام تلك المقاومة
ولكن علينا أن نكتب تلك الملحمة
فهي ملحمة العصر”
سعاد محمد حنيف كرو
(ممرضة عاشت لحظات الحرب والمقاومة لحي الشيخ مقصود لعام 2013/
كتبت هذه المذكرات وهي تُحيي تلك اللحظات في ذاكرتها مرة أخرى)
أنا مثلي مثل الكثير من النساء اللواتي كانت حياتهن بلا معنى، لا يفرقن سوى بين الأكل والشرب والنوم، فأنا وبالرغم من أنني إنسانة مثقفة وأملك الشهادة الثانوية (فرع التجارة)، إلا أن زوجي كان لا يتقبل بأن أتوظف. كان دائماً يقول لي: “لأنكِ كُنتِ تعملين في بيت أهلكِ، لذا أريدكِ أن ترتاحي، لا أريد منكِ أن تعملين في أي مؤسسة اهتمي بمنزلكِ وتربية الأولاد، وإن شعرتِ بأي تقصير حينها تستطيعين الذهاب لأي وظيفة تحبينها”.
وهكذا مرت الأيام؛ فأنا كنتُ أنام متأخرة وأستيقظ متأخرة أيضاً، ما كانت حياتي مثل حياة الدواب لا يعرفن شيئاً سوى الأكل والشرب والنوم. فاتت الأقدار وبسبب الأزمة السورية ودخول الجيش الحر إلى حي الشيخ مقصود، الحي الذي أصبح فيما بعد رمزاً للتضحية والنضال والمقاومة، وأُصيبت ابنة أخي بطلقة طائشة في أذنها وقمتُ بعلاجها، لأنني كنتُ أعمل ممرضة في بيت أهلي. وبسبب الضغط الذي كان الكادر الموجود في المشفى يعانون منه ألا وهو نقص الكادر الصحي، وبسبب إصابتها البسيطة قاموا بوضع القليل من المعقم على الجرح وقالوا لها:
- اذهبي إلى البيت.
عندما شاهدتُ الجرح، كان هناك وذمة، وبسببها ذهبتُ إلى الصيدلية التي كانت موجودة في الحي القديم.
قالت لي ليلى:
- لما لا تذهبين لكي تساعدي الرفاق في المشفى؟
في ذلك الوقت لم آخذ كلامها على محمل الجد، وبعد ذهابي إلى أحد المشافي أيضاً، كانوا يقولون لي نفس الكلام. كانت هناك رفيقة واسمها أم حقي، أتت إلى منزلي وأخذتني معها إلى المشفى. وعندما وصلنا إلى المشفى كان هناك شخص يجلس خلف الطاولة واسمه هفال إبراهيم، وبدأ يتحاور معي ويسألني أسئلة كثيرة، بعدها تم قبولي في المشفى.
وفي اليوم الثاني عندما أردتُ الذهاب إلى المشفى، ضعتُ في الطريق لأنني لم أكن أعرف شيئاً ولم أكن أخرج من المنزل كثيراً. وهكذا بدأتُ العمل في مستشفى (خالد الفجر) وهناك شعرتُ بأن لدي كيان وإمكانيات وأستطيع أن أساعد الكثير من الناس ومثلي مثل كل النساء الموجودات في الحي. فمنهن من ذهبن إلى المطبخ لكي يقمن بإعداد الطعام للذين حملوا السلاح في وجه هؤلاء الظالمين، ومنهن من ذهبن لجلب الإسفنجات والحرامات والوسائد لأجل الجرحى، ومنهن من قامت بالوقوف إلى جانب الجرحى ومساعدتهم من الناحية المعنوية والصحية، ومنهن من كان يرفع السلاح ومنهن من كانت توصل الطعام إلى الشباب الواقفين في خطوط الجبهة الأمامية، ومنهن من كانت توصل الذخيرة إلى حماة الحي.
أما أنا فقط انتسبتُ إلى النقطة الطبية الوحيدة الموجودة في الحي من أجل مساعدتهم وتضميد جروحاتهم. كيف لي أن أتحدث عن تلك المواقف والأحداث المؤلمة!!. لستُ بتلك القدرة على الكتابة والتعبير الفصيح والملقم بالأدب العالمي. تلك اللحظات التي عشناها لم تكن بتلك اللحظات السهلة أو الكتابة بعدة جمل. حتى الآن أسأل نفسي كيف عشنا تلك الأحداث وما زلنا أقوياء؟ الشيخ مقصود ملحمة لم تكتب بعد، أطمح أن أوثّق تلك الذكريات والقصص التي عشناها هناك.
لكل شارع حكاية مأساوية، لكل بيت غصة ألم ونكسة جارحة، في قلب كل أم ذكرى تريد نسيانها، هناك وفي الأفق البعيد والابتسامات القريبة كنا نخبئ جروحاتنا. لم نكن نملك اللحظة حتى كي نبكي، غير المقاومة وتحدي هؤلاء الأوغاد والظالمين لم يكن أمامنا أي خيار آخر، فإما المقاومة وإما المقاومة. هناك، عشنا ورأينا قذارة الحرب بكل معنى الكلمة. الذين لم يعيشوا الحرب لن يكرهوا الحرب.
فأنا سعاد محمد كرو من مقاطعة عفرين – ناحية معبطلي من قرية اسمها (إيكي آخور).
كنتُ أسكنُ في الخالدية وكانت لغتهم العربية أكثر من اللغة الكردية، ومع مرور الوقت تعلمتُ اللغة العربية، والأولاد هناك كانوا يغنون لنا باللغة العربية. وأغنيتهم المعروفة كانت على رأس الجبل:
لاطلع على راس الجبل واخد معي مفتاح
وأفتح جنينة يابي وأقعد فيها وارتاح
يا ربي زخت مطر تروي شجرة تفاح
والحلوة إلى ما بتنتسى لأحلا عيونها سواح
لأطلع على راس الجبل واشرب على الوادي
وأگول يا مرحبا نسم هوى بلادي
يا ربي ليلة مطر ويسيل على الوادي
واعمل زنودي جسر واقلد لبنية
عائلتي مثل كافة العوائل الكردية اللذين هاجروا من قريتهم إلى المدينة، فكانوا أجدادي كغيرهم تركوا قراهم وسكنوا في حي من أحياء مدينة حلب واسمها كلاسة الغربية.
دُمرت بيوتهم بسبب تربة هذه المنطقة التي هي عبارة عن أحجار كلسية ومليئة بالكهوف. فهاجر أعمامي إلى حي الشيخ مقصود أما والدي سكن في حي الخالدية. وهذا الحي أغلبية سكانه كانت من المكون العربي أما بالنسبة للكرد فكانت نسبة السكان هناك قليلة.
حين كنا نتسمع لتلك الأغاني ولا نفهمها كنا نتشاجر. رغم كل الصعوبات أكملتُ دراستي، ففي المرحلة الابتدائية درستُ في مدرسة (أسامة حجار)، وفي المرحلة الإعدادية كانت في مدرسة (ثانوية النيل) والمرحلة الثانوية كانت في (ثانوية التجارة الأولى للبنات). ومن ثم بدأتُ العمل في الكثير من العيادات الطبية؛ أول عيادة عملتُ فيها كانت عيادة عبد الله بهو وثاني عيادة عملتُ فيها كانت لدى الدكتور عماد الدين قطريب وبعدها عملتُ في مشفى الدكتور راغب لاميري وآخر عيادة اشتغلتُ فيها كانت عند الدكتور عمار نديم ومن ثم تزوجتُ وسكنتُ في حي الشيخ مقصود.
هذا الحي الذي يسكنه الأغلبية من الكرد بعكس الحي الذي تربيتُ فيه، وبعد مرور عدة سنوات وخاصةً أثناء الأزمة السورية. كنتُ أعمل في مجال التمريض وبسبب حادثة حدثت لأبنة أخي وإصابتها بطلقة نارية طائشة خلف أذنها وبسبب الكثير من الإصابات التي حدثت في الحي لم يهتموا بابنة أخي لأن إصابتها خفيفة جداً، فأنا من قمتُ بعلاجها، حتى وإن الحادثة كانت هكذا ولكنها تحولت إلى فتح الكثير من الأبواب بالنسبة لي كي أكون فعالة وأمارس مهنتي الإنسانية بطلاقة.
بسبب هذه الحادثة أصبحتُ واحدة من الذين كانوا يعالجون الجرحى. ومن الأشخاص الذين شجعوني للدخول للمشفى هي الصيدلانية ليلى. وعبدو الذي كان لديه دكان سمانة. وأم حقي التي أخذت بيدي حتى المشفى. لأنهم كانوا بحاجة ماسة إلى ممرضات وأطباء، فأغلب الأطباء هربوا أثناء الحصار.
كنا نحن الممرضين والممرضات هناك مثل ولاط وليلى وياسين. عندما بدأتُ العمل كان هناك طبيبين فقط، الطبيب وائل نجار وجميل بلال وعندما دخلتُ إلى المكتب كان هناك رجلاً لم أكن أعلم من هو في البداية وبعدها تبادلنا الأحاديث. بدأتُ بالعمل وأنا أشعرُ بأنني غريبة ولم أعرف أحداً من الممرضين الذين كانوا هناك وحين كنا نأخذ استراحة كنتُ أقف أمام باب الإسعاف لكي أكون أول من تدخل إلى غرفة الإسعاف وقسم الجرحى. في بعض الأحيان كانوا يعتبرونني واحدةً من أقرباء المصابين، فكانوا يطلبون مني بأن أخرج من غرفة الإسعاف.
كان هناك شخص اسمه محمد وهو مسؤول عن إطعام المرضى.
ففي يوم من الأيام تحدث معي وقال:
- هفال، لماذا لا تطلبين مني السيگارة؟
تأملت وجهه وقلت:
- أنا جديدة… ولا أعرف القوانين والتوجيهات التي تعتمدون عليها هنا.
عندما هاجمت الفرقة 16 الحي، جماعة (خالد حياني) كانوا يوزعون الطعام على الجميع، كانوا يعتبرونني من أهل المصابين هناك. ففي يوم من الأيام طلب هفال ولاط منهم أن يحسبوا حسابي في تقديم الطعام، لأنني كنتُ واحدة من كوادر التمريض هناك. وبعد فترة لم أكن أعلم أنني تحت المراقبة، طلبني هفال إبراهيم وقال لي:
- نريد منكِ أن تكونين واحدة من كوادر الممرضات في المشفى.
وافقتُ وبدون تردد لأنني أعتبر أولاً مهنتي مهنة إنسانية، ومهنتي هي أغلى من حياتي وأولادي. كنا نذهب إلى المشفى الساعة التاسعة صباحاً ونخرج منها الساعة التاسعة مساءً. بالرغم من أنني كنتُ أملك أربعة أطفال ولكنني كنتُ أنسى أحياناً بأن لدي أطفال.
إحساس الفرحة والرضى عندما كان يغمرني وأنا أنقذ أحد المصابين من الموت كان يُنسيني بأنني أم وأملك أطفالاً. عندما أتذكر هؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم ودمائهم فداءً لتراب هذا الحي، والذين أصبحوا رمز المقاومة والصمود والتضحية، لا أستطيع نسيانهم.
لم أنسى ماذا فعل هؤلاء الإرهابيين لنساء الحي ولكن للرد على تلك الممارسات الإرهابية، الكثير من النساء كانوا يقمن بحماية شوارع الحي وحملوا السلاح، كانوا يطبخون للمقاتلين ويوزعون الدخان عليهم وتامين الإسفنج والحرامات من أجل المصابين. في ذلك الوقت تم تفجير مشفى خالد فجر، في ذاك المشفى لم تكن فيها الأدوات الطبية الكافية مثل الضمادات ولصقات الجروح والإبر… الخ. فعندما كنا نغير الضمادات لم يكن لدينا شاش لنضعها فوق الجرح، ولم نملك أسِرَّة للمرضى كي يتمددوا فوقها.
كنا نضع الإسفنجات على الأرض وحسب الإمكانيات نداوي جروح الجرحى. عندما أتذكر تلك اللحظات لا أستطيع أن أمحو تلك المواقف والأحداث من ذاكرتي، وخاصةً أصوات الجرحى وصراخاتهم لا تنقطع عن آذاني. فهذا الحي المعروف بالمحبة الأخوية فيما بين المكونات الكردي والعربي والمسيحي والأرمني جميعهم كانوا يساعدون بعضهم البعض ويحترمون ثقافاتهم المتنوعة.
ففي يوم من الأيام وبتاريخ 29 / 3 / 2013، هذا التاريخ الذي أصبح يوم مقاومة عظيمة، رغم كل الظروف صمد أهل الحي وقاوموا جنباً إلى جنب. في هذا اليوم أقْدَمَ هؤلاء الذين كانوا يُسمون أنفسهم بالثوار بالقيام بعدة تسللات للدخول إلى الحي، ولكنهم باءوا بالفشل. قاموا بضرب قذائف هاون ومدافع جهنمية وصواريخ فيل على الحي، وقاموا برميها جميعاً من الساعة الثانية عشر ليلاً إلى الساعة السادسة صباحاً. فالأهالي جميعهم وبعزيمة عالية المقاومة قاوموا وتوقفوا ضدهم.
ترى لماذا شنوا هذه الهجومات على الحي؟ هل لأننا كنا الكرد مقيمين هناك؟ أم لأنهم كانوا يجدوننا كفرة؟ ففي الصباح شاهدنا الكثير من السيارات وكل سيارة وجماعة قد أسمت فصيلتهم بأسماء مختلفة. فمثلاً منهم: من كان معروف بـ كتيبة صلاح الدين وكتايب القسام وكتيبة نور الدين الزنكي وكتائب عزباء الشام وكتيبة أحفاد الرسول وكتيبة شهداء بدر ولواء الفركان ولواء التوحيد وكتائب أبو ليلى، حيث المجاهدين لواء صقور الجبل، كتائب ابو عمار، درع الجبل، لواء تحرير سوريا، وسلطان مراد، ولواء محمد فاتح …الخ
هاجم هؤلاء على الحي، وبوحشية لا تطاق، كانوا يعتقدون أنفسهم بأنهم أبطال وحُسناء النية، ولكنهم كانوا القتلة والظالمين ولا يملكون أي ذرة رحمه وإنسانية. وأنا كنتُ واحدة من سكان هذا الحي الذي هرب معظم سكانها خوفاً من هذه الوحشية والمعيب هنا أنهم كانوا يسمون أنفسهم بـ ثوار الخلاص.
ورغم التهديدات المستمرة إلا أنه بقي الوطنيين المقاومين والمدافعين عن الحي بقوة وجسارة. إن هذا اليوم كان يوماً شاقاً وتاريخياً، فقد تغيرت نظرة العالم ولفت انتباهها إلى مقاومة أهالي هذا الحي. فأبناء هذا الحي لم يتقبلوا الهزيمة والفشل وترك أراضيهم والديار التي كبروا فيها.
ولكيلا يبقوا تحت أمر هؤلاء الذين يسمون أنفسهم الجيش الحر، قاوم أهالي الحي وحملوا السلاح لمواجهتهم، ودافعوا عن أنفسهم. وكان هدفهم الأساسي هو الدفاع عن الإنسانية والمحاصرين بسبب هؤلاء الوحشيين، ولم يكن هناك أي فرق بين المذاهب والأعراق. فكانوا يتعاملون معاً كالأخوة فجميعهم كانوا يساعدون بعضهم البعض. هؤلاء الذين يحاربون تحت مسمى “الدين” إنهم يخدعون أنفسهم، فليس هناك أي ديانة تحارب بكل هذه الوحشية.
بسبب الأوضاع التي كنتُ أعيشها في المنطقة ولأن أغلبية الجيران كانوا من المكون العربي، لم نكن نتحدث باللغة الكردية كثيراً، وعندما انتقلتُ إلى العمل في المشفى، كان يقول لي هفال إبراهيم:
- يا رفيقة، ألستِ كردية؟
أجبته: نعم، أنا كردية
فقال لي: لماذا لا تتحدثين باللغة الكردية؟
قلت له: لم أتعود أن أتحدث بلغتي الأم، لأنه كان جميع جيراني الذين أتعامل معهم هم عرب، لهذا السبب تعودتُ أن اتحدث بالعربية فقط.
وبعد مرور عدة أسابيع، جاءت رفيقة ثانية إلى المشفى اسمها گولان. فطريقة تعاملها معنا كان جميلاً، وبالرغم من أنني لم أكن قد تعرفت على الحركة التحررية الوطنية الكردستانية كثيراً، إلا أن الرفيقة گولان والرفيق إبراهيم جعلوني أحب هذه الثورة، لأنهم كانوا يدعموننا من كافة النواحي سواء من الناحية المعنوية أو المادية. وبعد مرور مدة قصيرة علِموا أنه بإمكاني فحص المرضى، فطلب مني هفال إبراهيم أن أعمل عمل الطبيبة لأن المشفى بحاجة إلى أطباء لم يوجد أطباء في كل الحي. بالرغم من الضغط النفسي الكبير الذي كنا فيه حاولنا بقدر المستطاع أن نكون قد المسؤولية والثقة التي زرعها هفال إبراهيم في كياننا.
بالرغم كل هذا الحصار والضغط إلا أننا كنا سعداء وفخورين بمحاولاتنا التي نبذلها من أجل شعبنا وكنا نعلم بأننا نقوم بمهنة إنسانية نبيلة. وهذان الرفيقان مهما أتحدث عنهما وعن تضحيتهما لنا لا أستطيع أن أعطيهما حقهما في الكلام بسبب أخلاقهما وأسلوبهما وشخصيتهما المتواضعة. بعد عملي لمدة تأقلمتُ مع أصدقائي ذات الخبرة والمعرفة في مهنة التمريض، وأحببتُ عملي ووطني أكثر من حب الذات والأنانية. ومثلما ذكرتُ سابقاً عندما دخل هؤلاء الذين سموا أنفسهم بالثوار إلى منطقتنا فجرأً في يوم الجمعة الساعة السادسة صباحاً، أصبحنا نسمع كلمات مثل (الله أكبر …تكبيررر) وكانوا ينادون بالإسلام، والديانة الإسلامية بريئة منهم.
كنتُ واحدة من أهالي المنطقة وقد قدمتُ جزءً بسيطاً من المقاومة والصمود. هذا الحي الذي سُطرت ملاحم وبطولات أهلها بمقاومة تاريخية سيشهد له التاريخ بأن أبناء الحي أصبحوا يداً واحدةً كالأخوة متحدين معاً في وجه هؤلاء المنافقين الذين يسموا أنفسهن بالمسلمين. نحن نعلم أن الذي يسمي نفسه بـ الثوار، يجب أن يدافع عن المظلومين والمضطهدين ويخففون آلامهم ويساعدونهم وليس العكس. حيث منعوا دخول الطعام والأدوية وأدوات التدفئة، فـبالرغم من ذلك فإن أهالي الحي قاموا بطهي طعامهم على الخشب والكرتون، ولم يتنازلوا أو يستسلموا لتلك التهديدات.
وأثناء عملنا في القسم الطبي صادفتُ الكثير من المواقف مازالت عالقة في مخيلتي ولا أستطيع نسيانها، لأن في ذلك الوقت كنتُ لا أعلم بأن هذه الأمور هي عبارة عن حلم أو واقع، دائماً أسأل نفسي ما ذنبهم؟ هل لأنهم من أبناء هذا الحي أم لأنهم مسالمون ولا يحبون الأذى والعنف؟ أم أن هؤلاء همجيون قد أخرجوا ما في قلوبهم من الحقد لأننا لم نستسلم ولم نخضع لأوامرهم؟
ذات يوم كان هناك أحد المصابين وكانت إصابته من البطن وكان لديه نزيف داخلي، منعناه من الأكل والشرب. بسبب عدم وجود أطباء وغرف عمليات من أجل إجراء العمل الجراحي له كنا نتلقى الكثير من الصعوبات. وعندما كنا نذهب للاطمئنان على المصاب فكان يطلب مني شرب الماء، فكنتُ أقول له:
- لا ينبغي أن تشرب أو تأكل شيئاً، فاصبر قليلاً حتى نستطيع أن نأخذك إلى أقرب قسم طبي لمعالجتك.
وبعد عدة أيام ذهبتُ مرة أخرى كي أطمئن على صحته فسمعتُ بأنه قام بشرب كيس البول الموجود في كيس تجميع البول، انصدمت كثيراً، وتألمت في داخلي وقلت لنفسي هل هذه هي الثورة؟ وهذه هي قيمة الإنسانية عندهم؟ أين هي حقوق الإنسان والضمير؟ الإسلام قد جعل الإنسان وفضله على جميع خلقه، ولأنهم يفهمون الدين والإسلام بشكل خاطئ يقومون بقتل الأطفال والنساء بطريقة وحشية.
كان هناك شخص كبير في السن ومصاب بطلقة قناص في رأسه وعندما وصل إلى المشفى كان قد توفي فوراً، فجاءت زوجته بما أنه كان أرمني طلبت جثمانه عن طريق المنظمات الدولية، قامت بتوقيف سيارة وأخذت جثمان زوجها وذهبت.
وبعد يومين جاءت زوجته مطالبة بأخذ أسنان زوجها الاصطناعية وقالت لنا:
- هل هذه حقيقة ما حصل لزوجي؟ هل هذا هو حقيقة الدين الذي ينادون به! ويقولون لنا إكرام الميت دفنه؟
أتذكر شخصان آخران كانا جالسان أمام محل للمواد الغذائية فسقطت قذيفة قريبة من المحل، وبسبب قوة صدى الانفجار انكسر زجاج المحل، شظية من الزجاج أصابت أحد الجالسين في شريانه السباتي، والذي يعتبر أهم شريان في الجسد، طبعاً انقطاعه يؤدي إلى الموت. فتم نقله إلى أقرب مركز طبي والذي كنا موجودين فيه.