مقاومة الشّيخ مقصود ملحمة لم تُكتَبْ بعد – الجزء الثالث – سعاد محمد حنيف كرو

مقاومة الشّيخ مقصود ملحمة لم تُكتَبْ بعد

(الجزء الثالث)

“ممّن استشهدوا بالصواريخ الحرارية،

  الشّهيد أبو روان وأصدقاؤه، أبو روان لم يبقَ من جسده شيء،

فقد أصبح قطعاً مبعثرة أمّا أصدقاؤه فقد أصيب أحدهم بكتفه

والثاني قد تمّ بتر أذنه وأيضاً أصيب بكتفه. لقد حاول المرتزقة دخول

الحيّ عن طريق حفر أنفاقٍ بين المناطق التي كانوا فيها

 ولكنّنا كنّا على استعداد لهم ولم نعطهم الفرصة في الدخول إلى الحي، وقاومنا”

 

سعاد محمد حنيف كرو

/ممرضة عاشت لحظات الحرب والمقاومة في حي الشيخ مقصود لعام 2013/

كتبتْ هذه المذكرات وهي تُحيي تلك اللحظات في ذاكرتها مرة أخرى/

 

أتمنّى من الجميع أن يسامحوني إذا نسيتُ أن أذكر بعض الأسماء. ما قمتُ به لم يكن ملحمة بطولية كالملاحم التي قام بها شهداؤنا الأبطال، فهم قدموا الكثير، ضحّوا بأجزاء من أجسادهم فداءً للوطن والقيم الوطنية، ومن أجل تطهير ترابنا وجميع مناطقنا من هؤلاء الأوغاد. وإنني وإنْ كنتُ قد نسيتُ ذكر بعض الأحداث والأشخاص مرة أخرى أتمنى المسامحة…

أريدُ أن أسرد عليكم شيئاً من أفعال وأعمال هؤلاء الأوغاد؛ لقد قاموا برمي القذائف على الحي وأصبحوا يحاربوننا بشكل آخر عن طريق التحكم بوسائل التدفئة والطعام بعد عدم قدرتهم على دخول الحي. وبسبب الحصار الذي فُرضَ علينا وبعد العديد من المشاورات أصبحوا يرسلون إلينا وسائل التدفئة التي أصبح الناس يستعملونها من أجل طهي طعامهم أو للتدفئة.

أتذكر أيضاً أنّه في يومٍ من الأيام كانت إحدى الأمهات تقوم بطهي الطعام وفي تلك اللحظة انفجر الموقد واحترق جسدها وجسد ابنتها بالكامل، وكانت ابنتها مرتبطة تستعد للزواج، فقد كانت تحضر نفسها من أجل زفافها ولكن بسبب الحروق التي تعرّضت لها والتي ظهرت على كامل جسدها طلبت من الشاب أن يقوم بإلغاء كل تجهيزات الزفاف، لكن ما حصل كان مفاجأةً كبيرة بالنسبة للفتاة وأهلها ولنا ككادر تمريضي عند رؤيتنا للشاب برفقة الشيخ في المشفى لعقد قرانه على الفتاة.

وهناك قصص أخرى مشابهة لها؛ ففي أحد الأيام تمّ إسعاف امرأة تعرضت للاحتراق نتيجة انفجار الموقد الذي كانت تقوم بطهي الطعام لأطفالها عليه. وامرأة أخرى كانت تقوم بإشعال المدفأة التي انفجرت ما أدّى لاحتراق منزلها وزوجها أيضاً، شاهدنا الرجل بأم عيننا عندما حملته السيارة إلى المشفى، كان جسده محترقاً بالكامل.

وبالرغم من كل هذه الأوجاع والآلام كنا نقاوم، ففي يوم من الأيام جاءت امرأة وهي تعاني من آلام المخاض، وكان المشفى خالياً من الأطباء، قابلة واحدة موجودة فقط في الحي وهي ليلى التي قامت بمساعدتها وإجراء كل ما هو ضروري لإنقاذ حياتها وحياة طفلها، وبالفعل تمّت الولادة بشكل طبيعي ورُزقت المرأة بطفلين، كانت الفرحة عارمة حين شعرنا أنّه ورغم مرارة الأوضاع وصعوبة الظروف نستطيع العيش والمساعدة، ولن يستطيع أحدٌ أن يسلبنا حقنا في العيش والحياة.

ومن القصص المؤلمة التي لازلت أتذكرها، انقطاع الكهرباء في المشفى، ففي يوم من الأيام وقفت سيارة ليلاً وهي تحمل أحد المصابين وكانت إصابته بالسّاعد (انقطاع بوتر السّاعد). قمنا أنا والممرضة ليلى بخياطة الجرح في الظلام، استعننا بإنارة بسيطة جداً من مصباح جيبٍ صغير، ولا زلت أتذكر الجملة الوحيدة التي كان يكررها:

  • أرجوكم… قوموا… أرجوكم… قوموا بخياطة الجرح دون أن تصاب يدي بالعجز، لأنّ الحيّ لازال بحاجة ليدي من أجل الدفاع عنه.

وفي يوم آخر اتصل الأستاذ عماد وطلب مني أن أذهب إلى الغرفة التي في الطابق الثاني حتى أفحص إحدى الجثث للتعرف على هوية الشخص، أو إذ كان يحمل شيئاً يساعدنا في التعرف عليه. أنا والممرضة ليلى دخلنا إلى تلك الغرفة المظلمة، وعندما دخلنا رأينا في تلك الغرفة عائلة تتألف من أربعة أشخاص جميعهم جثث هامدة، رأينا امرأة في الثلاثين من العمر، قمنا بالبحث عن الأشياء التي بحوزتها من أموال أو هوية أو هاتف محمول، ولكن لم نعثر على أي شيء سوى المحبس، كان لايزال في إصبعها، حاولت انتزاعه لكني خفت أن ينتزع معه إصبعها، وبعد عدة محاولات قمت بانتزاعه دون أن أتسبب بانتزاع الإصبع، نعم كان شيئاً مروعاً.

وأتذكر أيضاً؛ في يوم آخر تمّ إسعاف المصابين وكان من بينهم شخصٌ لازلتُ أتذكر اسمه، كان اسمه عزيز وقد أصيب في السكن الشبابي وكانت إصابته في عينه خطيرة جداً.  كان يحمله شاب آخر اسمه مظلوم، وكان يحمله على ظهره حتى يقوم بإسعافه إلى المشفى بأسرع ما يمكن وأثناء المشي كان يطلب من حامله أن يتركه ويرحل، لكن صديقه لم يستمع إليه رغم أنّه أيضاً كان قد أُصيب في ساقه، لكنه لم يترك صديقه واستطاع أن يسعفه وأن يوصله إلى المشفى.

وأيضاً سأحدثكم عن تلك المرأة التي ذهبت لزيارة أحد أقربائها، وكانت لديها طفلة صغيرة لم تتجاوز الشهرين من العمر، وأثناء جلوسهم معاً يتبادلون الأحاديث وهي تقوم بإرضاع طفلتها الصغيرة، في تلك الأثناء سقطت قذيفة على منزلهم واستشهدت المرأة، أما الطفلة فقد عثروا عليها بعد ساعتين، لأن الطفلة من صدى انفجار القذيفة كانت قد سقطت بعيداً عن أمها على بعدما يقارب العشرين متراً، كانت عالقة بين الأنقاض. كنا نتساءل ما الذي فعلته هذه الطفلة الصغيرة لهؤلاء الأوغاد.

وأيضاً تمّ إسعاف شخص اسمه أحمد كان قد أُصيب في ساقه سابقاً، وبعد رحلة علاج طويلة أصبح قادراً على المشي، لكن الأمور لم تدم على هذا الحال فقد أصيب مرة أخرى بنفس الساق، وذلك أثناء جلوسه أمام منزله، حين سقطت قذيفة قريباً منه وتطايرت بعض الشظايا وأصيب بنفس الساق المصابة سابقاً.

وكان هناك شخصٌ آخر واقفٌ في محرس المشفى، كان يقف هناك من أجل إسعاف الجرحى وفي تلك اللحظة عندما كان واقفاً وقعت إحدى القذائف بالقرب منه، وتطايرت بعض الشظايا وأصيب بجروحٍ بليغة في بطنه (ناحية الكبد) واستشهد.

لم يكتفوا برمي القذائف، ولم تقتصر أعمالهم الإجرامية على ذلك بل قاموا بإسقاط الصواريخ الكيماوية الممنوعة دولياً. ظهر ذلك جليّاً عندما تمّ إسعاف الناس وهم يعانون من ضيق النفس والاختناق، فقد تمّ إسعاف عدة أشخاص وكنت شاهدة على ذلك، عندما وصلوا إلى المشفى كانوا بحالة يرثى لها، فقمنا مباشرةً برش الماء عليهم ووضعهم على أجهزة الأوكسجين وإعطائهم الأدوية اللازمة مثل (الموسعات القصبية) حتى نستطيع إنقاذهم من الموت. تخيّلوا ما الذي كنا نعانيه نحن في هذا الحي، الحي الذي أصبح أسطورة، ونحن كـ كادر طبي ما هي الظروف التي كنا نعيشها ونعاني منها.

أتذكر؛ أننا نجونا حينها من شظايا متناثرة لقذيفة سقطت بالقرب منّا ونحن جالسون نتبادل الأحاديث بعد أن تعبنا من إسعاف المرضى والمصابين، لن نستطيع أن ننسى تلك المواقف المؤلمة، حينها قلنا بأننا ربما نجونا من الموت بسبب دعاء هؤلاء الذين قمنا بإسعافهم.

ومن الأشخاص الذين حزنتُ عليهم كثيراً، كان شاب اسمه سربست، كان يأتي إلى المستشفى بشكل دائم وفي أثناء الهجوم على الحي قام بحمل السلاح مثله مثل باقي أهالي الحي، وتم استهدافه من قبل قناص في منطقة الأشرفية فاستشهد.

هل تعلمون بأنّ هؤلاء المرتزقة لم يتركوا حتى أطفالنا سالمين من شرهم، فلم يسمحوا لهم بأن يكملوا دراستهم. ففي يوم من الأيام قاموا بكتابة جملة على جدران المدارس وهذه الجملة هي:

“الأطفال لنا والحقائب لكم”

ولكي يثبتوا كلامهم قاموا باستهداف الطلاب عن طريق القناصين، استشهد طالب اسمه آلان محمد وطالبة أخرى اسمها آية قاسم وهم يخرجون من المدرسة إلى البيت. حين كنتُ أنظر إلى هذا الواقع كنتُ أقول هل هذه هي الحرية التي يتحدثون عنها؟

مثال آخر؛ في يوم من الأيام وصل أحد الأشخاص وهو يحمل طفلاً في أحضانه، وعندما قمنا بأخذ الطفل البالغ من العمر عامين منه، والذي كان قد أصيب بشظايا في رأسه من الخلف تفاجأنا بأن جمجمته من الخلف فارغة.

أيضاً؛ تمّ إسعاف شخصٍ كانت ساقه مصابة، اسمه رشيد وبعد فترة من الإصابة وبعد شفائه، عاد إلى الجبهة وأصيب مرة أخرى، لكن هذه المرة أصيب بطلقة قناص واستشهد. شخص آخر أيضاً بنفس الوضع كانت ساقه مصابة وبعد مدّة من علاجه عاد إلى الجبهة ليستشهد هو أيضاً.

تخيلوا! حتى الأطفال في رحم أمهاتهم لم يسلموا من بطشهم؛ ذات مرة جاءت امرأة وهي حامل وقد تمّ استهداف جنينها برصاصة قناص، فمات الجنين في بطن والدته، وبما أنهم كانوا قد حاصرونا من جميع الجهات قاموا بفتح معبر الجزيرة، وكان هناك أحد الأشخاص يقوم بإيصال الحقائب أو الأشخاص الذين لا يستطيعون المشي تم استهدافه بقذيفة هاون واستشهد هو أيضاً.

ومن تلك القصص التي تحدّث عنها هفال إبراهيم أتذكر هذه القصة:

بين تلك الأحداث التي كانت تجري يومياً، تمّ إسعاف أربعة أشخاص، وعندما كنا نقوم بعلاجهم، علِمنا أنّهم كانوا من جماعة خالد حياني، حينها شعرتُ برغبةٍ في عدم مساعدتهم، لم أكن أريد الاستمرار بعلاجهم، فقال لي هفال إبراهيم:

  • يا سُعاد؛ إن مهنتكِ هي مهنة إنسانية، وهؤلاء الأشخاص هم عبارة عن مجموعة من المصابين، وهل تعلمين لماذا أصيبوا؟ لأنّهم كانوا يجهزون لك قذائف هاون ومدفع جهنم، ولكن وبأمر الله حدثت المعجزة، فتلك القذيفة سقطت أمام هذه المجموعة وأصيبوا بها.

في ذلك الوقت عدتُ إلى غرفة الإسعاف وقمنا بعلاجهم، إصاباتهم كانت حساسة للغاية، قمنا أنا والممرض ولات بمعالجتهم وخياطة جروحهم. كان هناك الكثير من الأحداث والمشاهد المؤلمة التي تقشعرّ لها الأبدان، ربّما تشعرون بأنّ ما أقوله من محض خيال ولكن الله شاهد على صدقي في رواية هذه الأحداث اللاإنسانية.

والكثير من الذين قمنا بعلاجهم لا زالوا موجودين في المنطقة، والذين استشهدوا لازال أهلهم موجودين هنا، ولم يستطع هؤلاء المرتزقة الدخول للحي بالرغم من أنّهم لم يوفروا أيّ شيءٍ في سبيل ذلك فاستخدموا مدافع جهنم، وصواريخ الصناعة المحلية، وقذائف الهاون والكيماوي، والصواريخ الحرارية.

وممّن استشهدوا بالصواريخ الحرارية، الشهيد أبو روان الذي لم يبق من جسده شيء فقد تحول إلى قطع متناثرة وأصدقاؤه أيضاً أصيب أحدهم بكتفه والثاني تمّ بتر أذنه وأيضاً أصيب بكتفه، حاول المرتزقة الدخول إلى الحيّ عن طريق حفر أنفاق بين المناطق التي كانوا فيها ولكننا كنّا على استعدادٍ لهم ولم نعطهم فرصة الدخول إلى الحي وقاومنا.

عندما فشلوا في مواجهة شباب الحي، خرجوا منه، ولكن قبل خروجهم قاموا بتفخيخ بناء مؤلف من عدة طوابق بالمتفجرات ما أدى إلى استشهاد مجموعة من الشباب، ولازالوا حتى الآن تحت الأنقاض وأصبح هذا البناء مقبرة جماعية لهم، وهذه هي بطولات ملحمة الشيخ مقصود وشبابها.

أتذكر في يوم من الأيام قام شباب الحيّ بالهجوم على مراكز هؤلاء الأوغاد، وقد كانوا متحمسين كثيرا ً وفخورين بالدفاع عن حيّهم، فكانوا متطوعين وبكامل الثقة مقاومين. هؤلاء الشباب تمّ حصارهم في قبو البناية، ما أدى إلى استشهاد اثنين منهم، الأول الشهيد خليل والثاني استشهد وهو يقوم بمحاولة إنقاذ صديقه.

وأتذكر أيضاً تلك المرأة العظيمة التي أثّرت على الجميع بروحها القتالية والمقاومة كان اسمها روكن؛ في تلك الفترة قام المرتزقة بترويج إشاعات من أجل تخويف الأهالي، وبدأوا يروجون بأنهم خلال أربعة وعشرين ساعة سيدخلون إلى الحي، وكانوا يخيروننا بين الاستسلام أو دفننا ونحن أحياء. تلك المرأة كانت لا تهاب الموت، خرجت وبحوزتها السلاح، واستقلت سيارة، قامت بقتل ذلك الرجل الذي كان اليد اليمنى لخالد حياني، ودخلت على مقرهم وقالت لهم:

  • نحن هنا… نعم وسنبقى هنا… ولن نستسلم… نحن لا نهابكم… سنقاوم… سنقاوم

 تراجع المرتزقة عن قرارهم في الاستمرار بالهجوم. حين يرى العدو روح المقاومة لدى الشعوب فإنه لن يتعدَّ حدوده. فكافة فئات الشعب والأهالي الموجودين قاوموا وهذه المقاومة كانت تاريخية.

كتابتي لهذه المذكرات حتّى وإن كانت متواضعة لكنني أحببت أن أشارك تلك اللحظات التاريخية المليئة بالمقاومة على صفحات تاريخ ثورتنا. ملحمة الشيخ مقصود ملحمة لم تُكتب بعد ولكنّي أردت ورغم الكثير من الظروف الصعبة أن أكتب ولو بعضاً من تلك المقاومة.

وها مرة أخرى، وأنا أتأمل حي الشيخ مقصود، هذا الحي الجميل والمليء بالمحبة وأخوة المكونات المتعددة، وطبيعة اسرها المتناغمة والموالفة معاً لها ميزة أخرى. الهجومات مستمرة، والمقاومة مستمرة، وتضحيات الأمهات مستمرة. لن يهدأ قلمي، ولن يغمض العين ولو للحظة وانا أرى امامي الكثير من الجهود المبذولة لأجل حماية الحي وكرامة أهاليها.

نعم؛ سنكتب تلك الملحمة والكثير من الملاحم البطولية، لن ينشف حبر القلم ولا نبض القلب عن الكتابة. هنا نزركش السطور التاريخية على تراب وطننا. وأنا لم أكتب إلا لحظات عشتها بأنفاس عميقة، والحزن يغمرني على فراق الكثير من الناس الأعزاء، والفرحة معها مندمجة لأنه المقاومة في كل زاوية.

وستبقى المرأة هي الحياة والحرية…

هي الامل والتضحيات الجسمية…

هي القلم الحر الذي كتب

وسيكتب عن الحقيقة في كل الازمان…