المرأة هي الذّاكرة الثّقافية الحيويّة للأمّة – ليلى موسى

 

المرأة هي الذّاكرة الثّقافية الحيويّة للأمّة

“لعبت المرأة السورية دوراً محوريّاً للحفاظ على هويتها

 في مواجهة سياسات الانحلال والصّهر عبر تنشئة الأجيال

على الثقافة الوطنيّة السّورية،

 وأبدت موقفاً بعدم الانصياع للثقافة الدّخيلة

 والمفروضة من الخارج بالإكراه”

 

ليلى موسى

 

التركيبة الأثنية والعقائدية للمجتمع السوري جعلته من أغنى وأكثر المجتمعات قوّة وتميّزاً وتعقيداً وعصيّاً على الانحلال. هذه التركيبة الغنيّة أسهمت في خلق مستويين من الثقافة، ثقافة وطنية عامّة شاملة ذات أبعاد ديالكتيكية ممزوجة بين التراكم التاريخي والحضاري والخصوصية الثقافية (الفرعية) لكل مكون من مكوناته العرقية والعقائدية والمذهبية، والأخرى الخصائص الثقافية التي يتميز بها كل مكون. بالتوازي شهدت الحركة الثقافية السورية بمستواها الوطني العام والفرعي الخاص نماءً وتطوراً إيجاباً وسلباً مشكّلاً الهوية السورية.

 تركيبة الهوية السورية تشكّلت نتيجة تفاعل طبيعي بين الأنا والآخر، الآخرالذي هو شريك في الوطن والجغرافية والتاريخ والحضارة. الحالة الطبيعية والطواعية من التفاعل بين الثقافات الفرعية (القوة الناعمة) في حالة تكاملية تفاعلية طبيعية، أسهمت في تحقيق الاستقرار والسلم الأهلي والعيش المشترك. بالنّظر إلى العلاقة بين الأنا والآخر فإنّ هذه العلاقة التي تتطور بشكل طبيعي داخل الوطن والجغرافية الواحدة، نجد أنّها اتسمت بطابع ديالكتيكي أفضى إلى نتيجة مفادها “سرّ قوتي واستمراري” مرهون بـ “الآخر الشريك” في التاريخ والوطن والحضارة.

بالنّظر إلى الهويّة السّورية (الأنا السورية) في علاقاتها مع الآخر الشريك في المسيرة الحضارية للبشرية، نجد أنّها اتّسمت بطابعين، طابع تفاعلي اتخذ منحى طبيعي عماده علاقات حسن الجوار والمصالح المشتركة، والذي أسهم في إعطاء بُعد ثالث للثقافة السورية وهو البعد الحضاري وهو أشمل وأعم. أمّا الطابع الآخر في علاقة التفاعل، والذي اتّسم بالصراع والمقاومة للحفاظ على الهوية السورية في وجه محاولات صهرها في بوتقة ثقافة الآخر المستوردة، والتي تنتمي إلى الحضارة البشرية ولكنها غريبة وخارج الزمكانية السورية. هنا نتحدث عن زمن الاحتلالات والانتدابات على سوريا، سواء من الخارج أو عبر تعيين أوصياء من الداخل.

لعبت المرأة السورية دوراً محورياً للحفاظ على الهوية السورية في مواجهة سياسات الانحلال والصهر، ذلك عبر تنشئة الأجيال على الثقافة الوطنية السورية وثقافتها الفرعية التي تنتمي إليها، وأبدت موقفاً بعدم الانصياع إلى الثقافة الدخيلة والمستوردة والمفروضة من الخارج بالإكراه. لذا، وبالرغم من تعدد الاحتلالات سواء الخارجية منها أو عبر أوصياء من الداخل، حافظت الهوية السورية على نفسها وهي ماضية بذلك حتى وقتنا الراهن، فقد فشلت كافة محاولات فرض الهوية الخارجية، وظلّت سوريا مستمرة في مسيرتها الحضارية والإنسانية. وأودّ أن أسلّط الضوء على دور المرأة الكردية في الحفاظ على هويتها الثقافية، باعتبار الكرد أحد أهم المكونات الأصيلة في المجتمع السوري، واختيار هذا النموذج، نابع من عدّة اعتبارات، حيث تعرضت المرأة الكردية للاضطهاد لكونها أولاً امرأة، وثانياً بسبب قوميتها والدّور النموذجي والريادي الذي قدّمته خلال الثورة السورية.

بالنّظر إلى تاريخ الشعب الكردي وعقود الاحتلال التي تعرض لها، نرى أنّه على عكس بعض الشعوب ظلّ حياً ونابعاً بالحيوية والحياة، وأبى إلا أن يعيش وفق ثقافته وهويته الكردية، ويعود الفضل هنا إلى المرأة الكردية التي مازالت تحتفظ في ذاكرتها وممارسات حياتها اليومية بالموروث الثقافي القديم النابع من الآلهة الأم، مروراً بما اكتسبته من خلال ثورة المرأة في شمال وشرق سوريا، حيث سعت جاهدةً إلى الحفاظ على موروثها الثقافي، هذا الموروث الذي تحتل فيه المرأة مكانة مرموقة في المجتمع الكردي لازمها ودافعت عنه بشراسة في مواجهة كل محاولات طمسه، وذلك من خلال الدور الريادي والقيادي الذي لعبته في مناطق شمال وشرق سوريا. لذلك تحوّلت إلى نموذج ألهمت فيه جميع النساء التوّاقة للحرية حول العالم.

نضالها هذا هو نضالٌ في مواجهة سياسات حزب البعث ومنظومتها الحاكمة، إلى جانب مواجهة القوى التكفيريّة التي تحطّ من شأن المرأة. لذا خاضت معارك ومقاومات على كافة الأصعدة العسكرية والسياسية والمجتمعية، ومازالت ماضية في نضالها، حيث أنّها جعلت من نفسها درعاً لحماية مكتسبات الثورة ضدّ كافة الهجمات التي تتم على المنطقة بشكل عام. تفانيها ومقاومتها الآن ضدّ الهجمات التي تقوم بها دولة الاحتلال التركي على المنطقة، دليل واضحٌ على سعي المرأة للعودة إلى ذاتها الفاعلة، والمشاركة في بناء الوطن والمجتمع. هذه الإرادة التي تُبديها المرأة ليست فقط تجاه الهجمات الخارجية التي تتم من قبل أعداء الكرد، بل إنّها في حالة استنفار دائمة ومقاومة مستمرة لكلّ من يحاول التّعدي على قيم المقاومة، إن كان من العدو الخارجي أو الداخلي.

مقاومتها تبدو واضحة في مواجهة فرض سياسات الأمر الواقع كـ “تعيين قَتَلة النساء” التي تقوم بها سلطة الأمر الواقع في دمشق، ورفضها لكلّ ما يحطّ من إرادتها وكينونتها وماهيتها عبر إصدار العديد من البيانات والوقفات الاحتجاجية. وإنّنا رأينا ردّ فعل النساء المقاومات حول ما جرى تطبيقه أو فرضه من قبل رئيسة مكتب المرأة السيدة عائشة الدبس بفرض نموذج موحّد على النساء.

وبالنّظر إلى طرح عائشة الدبس الذي يُمثّل انعكاس رؤية، ومقاربات المنظومة الحاكمة التي تجلّت بشكل واضح من خلال تشكيل اللجنة التحضيرية للحوار الوطني وجلساتها التحضيرية، مروراً بعقد المؤتمر تحت يافطة المواطنة (الوطن لسوري) يجمعنا، مترفعين عن الحالة الطائفية والمذهبية والعقائدية والعرقية، والكل يعلم أنّ هذه الشعارات الرنانة ليست بجديدة على الشعب في سوريا، حيث سبق وعاش مقاربات بهذا الشكل من قبل النظام السابق، والنتيجة أفضت إلى مركزية شديدة تَمخّضت عنها الأزمة السورية.

بالتالي إنّ التعويل على السياسات السابقة التي مارست أقصى أشكال التهميش والإهمال بحق مكونات المجتمع السوري، لن يقودنا إلا إلى تكرار التجربة السابقة وإعادة تعويم عقلية الاستبداد مرة أخرى، ولكن هذه المرة بلبوس ديني. هذا ما يقودنا إلى طرح إشكالية العلاقة من بين الهويات الفرعية والهوية الوطنية الجامعة، والدخول في الصراع لأجل البقاء في وجه محاولات الصّهر والإنكار.

هنا تتحول العلاقة بين الهويات الفرعية والوطنية الجامعة من الحالة التكاملية إلى الصراعية، بهذه الرؤية والمقاربة حتى الهوية الوطنية الجامعة ستفقد حالتها الديناميكية الحيوية (تتطور بتطور الهويات الفرعية)، ومع مرور الزمن تتحول إلى صبغة واحدة مقولبة عصيّة على التجدّد والتجديد. بالتالي فإنّ هذه المقاربات من قبل دعاة الهوية الوطنية والتغني بها على أنّهم مثاليون ويترفعون عن الجزئيات ومضحّون في سبيل الوطن “الكل”، في الحقيقة ما هي إلا تعبير عن الحالة الغوغائية التي تجيدها السلطات، والتي تهدف إلى تمكين قبضتها على مفاصل الحكم، لأنّهم يتنكّرون لحقيقة الهوية الوطنية التي تأسست في الأصل عبر علاقة ديالكتيكية بين الهويات الفرعية.

شيفرة الدول القوية والعظيمة تكمن في تقوية وصون الهويات الفرعية. لكن ديدن العقلية الاستبدادية هي أنّهم أنفسهم مع مرور الزمن يحولون الوطن لخدمة توجهاتهم وأيديولوجياتهم، بل وأحياناً يحولون الوطن إلى حديقة خلفية للعائلة الحاكمة أو الفئة أو المذهب أو الطائفة الحاكمة، وبكلّ تأكيد سوريا خير مثال على ذلك.

ربّما الإصرار على هذا الطرح من قبل القائمين الجدد على السلطة في دمشق، ما هو إلا ترجمة لاستمرار نفس سياسة الإنكار والتهميش واجترار الماضي، والخشية من التغيير، وهو تناقض آخر يبرز للساحة، بأنّ الثورة في الأساس قائمة على التغيير والتجديد على القديم. بالتالي نحن أمام فرز لمشاكل وقضايا جديدة قديمة، إلى جانب بروز قضايا جديدة في ظل التطور التكنولوجي والعلمي، والذي لا يدرك كيفية العامل مع التطورات الرقمية والتكنولوجية، ومن لا يعرف كيف يجيرها وفق ثقافته وحقيقته، حينها سيكون التطبيق عبارة عن نسخ ولصق وبالنتيجة سنصل إلى مجتمع مسخ ومشوه.

إنّنا في الكثير من الأحيان نقع في شباكها ونغرق في تفاصيلها لغياب الوعي المجتمعي الكافي، لكون المرأة كانت أكثر المتضررين من المقاربات والسياسات الإملائية والإقصائية والحالة المظلومية التي عاشتها، والتي دفعت بقوة إلى إجراء دراسة نقدية تحليلية وواقعية مكّنتها من مواجهة تلك السياسات بردود أفعال مدروسة وممنهجة، فإنّها لم ولن تنصاع لإملاءات تستهدف هويتها الوطنية والفرعية. لتثبت أنّ قوة سوريا وتميّزها متواجد في هويتها المتنوعة وأنّ الحالة الطبيعية للمجتمع هو العيش وفق خصائصه المتنوعة.

تعمل المرأة في مناطق شمال وشرق سوريا لجعل مكتسبات المرأة من خلال تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية ملكاً لجميع السوريات ومضمونة دستورياً، وما لعبته المرأة الكردية من دورٍ محوري في الحفاظ على الهوية الثقافية لسوريا، لعبته جميع النساء السوريات بشكل عام باختلاف انتماءاتهن العرقية والدينية والمذهبية. يمكن القول وبكل ثقة بأنّ المرأة السورية كانت ولازالت ذاك “الرُبّان” الذي يقود سوريا لبرّ الأمان في مواجهة الثقافة الذكورية والاحتلالية وجميع محاولات الصّهر والانحلال.