شهيداتنا نجومٌ لا تَأفل – إعداد: سهير صالح
شهيداتنا نجومٌ لا تَأفل
“تميّزت بقوة شخصيتها وصلابة إرادتها ورجاحة عقلها،
كانت نموذجاً رائعاً وحيّاً للأخلاق الوطنية والإنسانية،
آمنت بأنّ الشهادة في سبيل الحرية هي الحياة بحدّ ذاتها،
وأنّ النضال هو السبيل الوحيد لتحقيق العدالة والمواطنة الحقيقية،
إنّها المناضلة منيجة حاجو حيدر”
إعداد: سهير صالح
ولدت منيجة حاجو حيدر عام 1977 في قرية جنق جيق التّابعة لمدينة عامودا بشمال وشرق سوريا، وترعرعت في كنف عائلة وطنية مكوّنة من أربعة شباب وخمس بنات، وبسبب الظروف الاقتصادية انتقلت العائلة إلى مدينة قامشلو عام 1983م. درست منيجة حيدر الابتدائية في مدرسة الشهيد فرحان أسعد الواقعة في حي الهلالية بمدينة قامشلو، ثمّ أكملت تعليمها حتّى نالت الشهادة الإعدادية.
منذ صغرها تشرّبت منيجة مبادئ المقاومة، وتبنّت صفات المرأة المناضلة ذات الإرادة الصّلبة. بين عامي 1983و1984م تعرّفت عائلة الشهيدة على نضال حركة التحرر الكردستانية، وتعمّقت بفكر وفلسفة المفكر الأممي عبد الله أوجلان، الأمر الذي ولّد لديها حب الوطن والأرض، وزاد من تأثّرها بالشهداء والشهيدات الذين ضحّوا بأرواحهم ودمائهم الغالية في سبيل حرية الوطن. عُرفت منيجة بشخصيتها القويّة وروحها المرحة، فلم تكن البسمة تفارق مُحيّاها حتى في أصعب اللحظات، وتميّزت بخصالها النبيلة وطاقتها الإيجابية وجسارتها وصدقها، ولم تكن محبوبة فقط ضمن العائلة بل أحبّها كل من تعرّف إليها وجاورها وتعامل معها وتحدّث إليها.
في عام 1997 تزوّجت منيجة حيدر من ابن عمها وأنجبت خمسة أولاد، أرضعتهم الوطنية مع حليبها، وغرست في قلوبهم حب الوطن والتّفاني لأجله، وإيماناً منها بقضيتها العادلة، بدأت الشهيدة بتدريب أحد أبنائها على خصال المناضلين الثوريين وحب الوطن، وذلك للانضمام إلى حركة التحرر الكردستانية، التي قدّمت تضحيات جمّة لتخليص المجتمعات من براثن الرأسمالية، التي فرضت نفسها في الشرق الأوسط والعالم أجمع، من خلال فلسفة الأمة الديمقراطية والعيش المشترك وتحرر المرأة. كانت تتطلع إلى أن يعيش كل من حولها حياة كريمة ومشرّفة، ولأنّ حلمها كان رؤية كردستان محررة فقد حملت راية الحرية، وبدأت كفاحها الثوري بجدٍّ وتفانٍ ووفاء وصدق وإخلاص. دائماً ما كانت تقول أنّه بفضل رفيق المرأة المفكر عبد الله أوجلان تمّ تحرير المرأة، وأصبح صوتها يصدح عالياً في كل الساحات، ليتمّ تتويج ثورة كردستان بثورة المرأة.
مع انطلاق شرارة ثورة 19 تموز عام 2012، بدأت منيجة بتطوير شخصيتها النضالية من خلال انخراطها في العمل. كان لها دورٌ بارزٌ في تأسيس حركة المرأة بدءاً من الكومين، وناضلت بكلّ إرادة وتصميم للوصول إلى جميع النساء وتنظيمهنّ ليكنّ رياديات لثورة المرأة، ناهيك عن أنّها استطاعت إثبات ذاتها في كافة المجالات التي وضعت فيها، وذلك بتعاملها اللبق مع المحيط، وبصدقها وتواضعها وحبها للخير، وطبيعتها الاجتماعية المحببة من الجميع سواء في العائلة أو القرية.
ثورة 19 تموز شكّلت انطلاقة أساسية لتحرر المرأة من المجتمع الأبوي ونظام الدولة الذي كان يحكمها. أتاحت الثورة لها الفرصة لممارسة دورها الريادي في بناء نظام مجتمعي جديد، كما حققت إنجازات غير مسبوقة نحو كسر المفاهيم التقليدية سواء كانت سياسية أو مجتمعية. كان للنساء النصيب الأكبر من هذا الإنجاز، فحصلنَ على حقوق متساوية مع الرجال وتولّينَ القيادة في مختلف مجالات الحياة. انتفضت المرأة في شمال وشرق سوريا في وجه الظلم والاستبداد، وبادرت إلى تنظيم نفسها بنفسها من خلال تأسيس المنظّمات النسائيّة، والانخراط في العمل السياسي والحزبي والعسكري والمجتمعي والاقتصادي والفني والثقافي، إضافةً لإحداث تغييرات جذريّة في الحال القانوني للمرأة من خلال سن قوانين المرأة، ما أدّى إلى تقدّم الوعي في المجتمع.
خَطَتْ المرأة في شمال وشرق سوريا خلال سنوات الثورة خطوات كبيرة، وانخرطت في الميادين السياسية والدبلوماسية والاجتماعية والعسكرية والأمنية والتنظيمية كافة، حيث انضمت المرأة بالوعي العميق والجوهري والإرادة القوية، وتمكّنت من تخطّي ذهنيّة المجتمع الجنسوي، وأدّت دوراً تاريخياً في توفير الأمن والاستقرار، وقدّمت أداءً تاريخياً يُحسب لها في الساحة السورية وخارجها. تحوّلت المرأة في شمال وشرق سوريا بتضحياتها وعملها الدؤوب إلى رمز وقيادية للثورة المجتمعية، وذلك يعني تغيير المفاهيم البالية في المجتمع، وتغيير نظرة المجتمع للمرأة ونظرة المرأة لنفسها، وتحطيم النظرية التي فُرِضت عليها والتي ترى أنّ المرأة مخلوقٌ ضعيفٌ يحتاج دائماً للرعاية والحماية.
كانت منيجة من النساء اللواتي اتخذنَ مكانهنّ في ثورة 19 تموز، وحملنَ على عاتقهنّ مسؤولية فتح المجال أمام المرأة ليكون لها دور في تقرير مصيرها ومصير المجتمع في المحافل السياسية، وأيضاً العمل على خلق مشاريع وبرامج سياسية مناهضة لمفهوم الدولة والسلطة الفردية عبر مشروع الأمة الديمقراطية. ناضلت بإرادة وتصميم من أجل تحقيق الحرية لجميع النساء على أساس فلسفة “المرأة، الحياة، الحرية”. كانت تدرك أنّ شعبها بحاجة إلى صوتها، وأنّ قضيتها تتطلب مقاومة وعزيمة لا تلين، ولهذا سخّرت حياتها للدفاع عن حقوق الكرد بشكل عام والمرأة على وجه الخصوص، مؤمنةً بأنّ الحرية تستحق كل التضحيات.
كان للمرأة دورٌ مهمٌ جداً في هذه الثورات الساعية لتغير الذهنية الذكورية السائدة في المجتمعات وتأثيرها على الشعوب الأخرى، فعملت المرأة عبر التاريخ من خلال الثورات الكردية، وخاصة ضمن صفوف حزب العمال الكردستاني على بناء شخصيتها الثورية، وعلى نشر أيديولوجية تحرير المرأة الحرّة في كل مكان، للتخلّص من الحياة التي باتت تمثّل اللا حياة بذاتها.
على هذا الدرب أكملت منيجة مسيرتها النضالية إذ انضمت عام 2013 إلى مؤتمر ستار، وأسهمت بشكل فعّال في الدفاع عن حقوق المرأة، كما شغلت مناصب قياديّة عديدة منها (ناطقة مؤتمر ستار في قامشلو لمدّة أربع سنوات، وناطقة للجنة الاجتماعية على مستوى روجآفا، ورئيسة مشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في مقاطعة الجزيرة). كانت تؤمن بأنّ تحرير المجتمع يبدأ من تحرير المرأة، وكانت كلماتها وأفعالها تُجسّد ذلك. لقد كانت ترى في النضال واجباً حياتياً وليس مجرد وظيفة.
سعت منيجة من خلال عملها في حزب الاتحاد الديمقراطي لوصول المرأة إلى مستوى تتمكن فيه من التعبير عن نفسها، وتحليل الواقع المعاش بلغة سياسية خالية من الذهنية الذكورية، وبمفهوم ديمقراطي حر بعيد عن التسلط، بالإضافة إلى أنّها أدّت دوراً في إدارة الحوارات والمفاوضات بين الجهات والأحزاب الكردية للوصول إلى الوحدة الوطنية. في كلّ مكان تجد فيه امرأة تتعرض للظلم والاضطهاد، كانت الشهيدة منيجة تسارع لمساعدتها، فقد كانت الأم والأخت والصديقة والسّند لمن عرفها. عملت لمدة 13 عاماً دون كلل أو ملل، عملت بتفانٍ وإصرار رغم معاناتها من أمراض متعددة، ولم تجعل مرضها عائقاً أمام أداء واجبها الوطني والأخلاقي. كان هدفها الأول في أماكن مسيرتها النضالية هو حرية المرأة وتنظيمها، والوصول بها الى شواطئ الأمن والاستقرار، ومساواتها مع الرجل في جميع ميادين الحياة على أساس الحياة النِديّة التشاركية التي ترفض مفهوم التملّك، وتُقيم الحرية الاجتماعية بين الجنسين على أساس العدالة والمساواة.
إنّ هدف الشهيدة منيجة حيدر من النضال كان تحقيق آمال وتطلعات الشعب الكردي في الحرية، لأنّ الشعب عانى من الظلم والاضطهاد وتعرَّض لمجازر واعتقالات على يد السلطات الدكتاتورية والشوفينية، وكان للمرأة النصيب الأكبر من هذه الويلات والعبودية. اليوم يتطلب من الجميع وخاصة المرأة، إفشال كل المخططات التي تريد النيل من مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا، وأن يكونوا يقظين لسياسات الحرب الخاصة التي تريد النيل من مكتسبات شعبنا ومكتسبات المرأة، وزيادة النضال المستند إلى التدريب والمعرفة وفق أُسس الأمة الديمقراطية، ويجب خوض نضال منظم ضد الحياة التي يفرضها النظام الاستبدادي والعقلية الذكورية، بهدف بناء علاقة قائمة على أساس الحرية والمساواة، النظام الأبوي يعلم جيداً أنّ المرأة هي القوة الرائدة للمجتمع لذلك يحاول بشتى السبل تدمير إرادتها.
عند احتلال مدينة سري كانيه من قبل دولة الاحتلال التركي عام 2019، انضمت الشهيدة منيجة مع رفيقات دربها إلى القافلة الدّاعمة لقوات وحدات حماية المرأة والشعب، ورغم المخاطر والصعوبات التي واجهتها لم تتردد ولو لثانية عن المساعدة، حيث أنّها دخلت إلى الأماكن المحاصرة من قبل الاحتلال التركي، لإخراج الشهداء المحاصرين وتقديم المستلزمات الطبية للمصابين.
منذ سقوط النظام البعثي في سوريا بتاريخ 8 كانون الأول عام 2024، صعّدت دولة الاحتلال التركي من هجماتها برّاً وجوّاً على مناطق شمال وشرق سوريا بشكل عام، وسد تشرين الذي يقع على نهر الفرات بشكلٍ خاص، السّد الذي يُعتبر من أهم المنشآت الاستراتيجية في المنطقة، كونه صلة الوصل بين مدينتي حلب والرقة، ومصدراً رئيساً للطاقة الكهرومائية في سوريا. على الرغم من هجمات دولة الاحتلال التركي ومرتزقتها، والظروف الجويّة والبرد الشديد، توجّه الآلاف من مكونات مقاطعات الجزيرة والرقة والطبقة والفرات من كرد وعرب وسريان وتركمان، وذلك بتاريخ الثامن من كانون الثاني لعام 2024 صوب سد تشرين، للتنديد بالهجمات التركيّة على المنطقة، في صورة تعكس ارتباطهم بأرضهم وتشبثهم بمكتسباتهم والتفافهم حول قواتهم العسكرية.
بتاريخ 17 كانون الثاني عام 2025 ورغم معرفتها بخطورة الوضع وأنّها قد لا تعود، لكنّها قررت الذهاب إلى السّد، كانت دائماً تؤكّد بأنّ الشّهادة في سبيل الحرية هي حياةٌ بحدِّ ذاتها، توجّهت منيجة برفقة مجموعة من الأهالي إلى سد تشرين لرفع راية النضال والمقاومة عالياً، كانت تقول دائماً بأنّ هدف الاحتلال التركي ومرتزقته من القصف هو عبور سد تشرين، والدخول إلى مدينة الطبقة وكوباني، ومن ثمّ احتلال شمال وشرق سوريا بالكامل.
خلال تواجد الأهالي على سدّ تشرين، استهدفت دولة الاحتلال التركي المناوبين على السّد وكان ذلك بتاريخ 18 كانون الثاني عام 2025، أسفر ذلك عن استشهاد منيجة حاجو حيدر، لتعانق روحها نسمات الخلود في سماء الحرية. استهداف تركيا للمرأة هو محاولة بائسة لإسكات صوت النساء اللواتي يناضلن من أجل مستقبل أفضل، وكجزء من سياساتها العدائية الممنهجة ضد الشّعوب السّاعية إلى الحريّة والديمقراطيّة. كما أنّ دولة الاحتلال التركي تستهدف المرأة الرياديّة للحدّ من انتصارات المرأة، وتحقيق أهدافها في النيل من إرادتها التي من خلالها تبني مجتمع ديمقراطي.
بمراسيم مهيبة شيّع الآلاف من أهالي مقاطعة الجزيرة كوكبة من الشّهداء، إلى مثواهم الأخير في مزار الشّهيد دليل صاروخان بمدينة قامشلو، كان من ضمنهم الرئيسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي الشّهيدة منيجة حيدر، وكان ذلك بتاريخ 21 كانون الثاني عام 2025، وسط زغاريد الأمهات وشعارات تمجّد الشّهداء.
نعم رحلتْ منيجة حيدر، لكنّها باقية في وجداننا وفي ضمائرنا، باقية في روح النّضال الذي نسلته من روحها العالية وعنفوانها اللامحدود، النضال الذي سيذيق عدوها عدو الإنسانية السمّ الزعاف، لما يقوم به من جرائم بحق النساء، وستبقى منيجة حيدر رمزاً للمرأة الحرّة التي آمنت بأنّ النضال من أجل الحرية واجب، وستظل ذكراها مصدر إلهام لكل من يؤمن بالكرامة والمساواة، كما أنّ مسيرتها النضالية ستظل ملهمة للأجيال القادمة، وستبقى خالدة في قلب ووجدان كل من عرفها وشعلة تنير طريق كل من ضاقت به الظروف.