التغريبة العفرينية – الصحفية فريدة عمر
التغريبة العفرينية
“نعم نزحتُ، لكنّ روحي بقيت معلقةً في سماء عفرين،
تشاهد وتعيش مع عفرين أفظع اللحظات،
بقيت عيناي تنظرُ للخلف لا تصدّق ما يجري،
وخطواتي كانت تعود للوراء بلا شعور لا تريد الابتعاد عنها،
فمن لا يبكي لفراق مدينته؟ ومن لا يشتاق لأرض الزيتون؟
مهما نزحتُ فلن أجد أحنّ من حضن مدينتي”
إعداد: فريدة عمر
بهذه الكلمات سأسرد لكم تفاصيل نزوحي من مدينة عفرين، لأنسج قصة تعكس معاناة عدد لا يحصى من الأرواح البريئة جراء الهجمات التركية الوحشية على مدينتا، مدينة الزيتون، مدينة المقاومة، المدينة المحتلة من قبل الاحتلال التركي الغاشم.
أنا فريدة عمر من ناحية جندريسه التابعة لمدينة عفرين، من مواليد 1998، عشت طفولتي بكل مراحلها في ربوع مدينتي الجميلة، فكلّ زاوية منها شاهدة على ضحكاتي وأحزاني، شاهدة على المغامرات التي قضيتها مع أصدقائي وجيراني، ليس الأمر مجرّد تعلّق بمكان، بل هو انتماء عميق لجذور حُفِرت في أرواحنا وشكّلت هويتنا. هذه الأرض التي نحبّها ليست حجارة صماء، إنّها ذاكرةٌ حيّةٌ تختزن قصص الصمود، وتحتفظ بأصوات الأمل رغم الاحتلال والدمار الذي لحق بها. أعلم أنّ النجاح يحتاج إلى تعب وجهد وأنّ الأمر ليس سهلاً، لكنّ الظروف قد تتحكم بنا أحياناً. وجدت نفسي أمام آلة حرب دمرّت كلّ أحلامي في استكمال دراستي الجامعية وأنا في السنة الأولى في كلية التجارة والاقتصاد، تحطّمت جميع أحلامي وتلاشت مع صوت المدافع والطيران الحربي.
عفرين التي تبلغ مساحتها 2 % من مساحة سوريا تتميّز بموقعها الاستراتيجي، حيث تقع على ضفتي نهر عفرين في أقصى شمال غرب سوريا، وهي محاذية لمدينة أعزاز من جهة الشرق، ولمدينة حلب التي تتبع لها من الناحية الإدارية من جهة الجنوب، وإلى الجنوب الغربي منها تقع محافظة إدلب، وتحاذي الحدود التركية من جهة الغرب والشمال.
تُعرف مدينتي بطبيعتها الخلّابة وهوائها العليل، حيث يفوح العَبق الزكيُّ من بين الجبال، ناسجاً لحناً من حفيف الشجر وآثار الأجداد والأصالة. مناخها المتوسطي جعل منها بيئةً خصبةً لمُختلف الزراعات، وخاصةً الزيتون والحمضيات والكروم. كما تتميز بوجود العديد من المواقع الأثرية مثل قلعة سمعان، وقلعة النبي هوري وتل عين داره، والجسور الرومانية على نهر عفرين وجسر هره دره، ويُعتبر الجبل الكبير (جيايي كري مزن) من أعلى قممها.
خلال ثورة 19 تموز التي انطلقت شرارتها عام 2012، كانت عفرين من المدن الأولى التي واكبت الثورة، كانت تعيش حالة من الأمان والتعايش المشترك بين مكوناتها، وتلاحم أبنائها وتكاتفهم للحفاظ على استقرارها بفضل النموذج الديمقراطي الذي كان سائداً فيها، وعلى ضوء ذلك أصبحت عفرين ملاذاً آمناً للمئات من النازحين الهاربين من لهيب الحرب في مناطقهم.
عُرفت عفرين بمدينة المرأة لأنّ المرأة لعبت دوراً بارزاً في الأسرة والمجتمع، بالإضافة إلى أنّها حاربت أقوى القِوى الإرهابية الظلامية في المنطقة والعالم، كما تمكّن الشعب من بناء إدارة في ظل غياب الأمن وقاموا بتشكيل لجان حماية، ثم تشكيل وحدات حماية الشعب والمرأة، ومن ثم تشكيل قوات سوريا الديمقراطية، وذلك ضمن مشروع الأمة الديمقراطية الذي أطلقته الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا. بعد أن نظمت النساء العفرينيات أنفسهن على مختلف الأصعدة، وشاركنَ في كافة المجالات بنسبة 50 بالمئة، توصلنَ إلى ضرورة حماية مكتسبات ثورتهن، لتكون تجربتهنّ في المنطقة حجر الأساس في بناء سوريا الجديدة.
بين ليلة وضحاها تغيّر كل شي، وانقلبت حياتنا رأساً على عقب، حين شنّت دولة الاحتلال التركي بتاريخ 20 كانون الثاني عام 2018، عملية عسكرية براً وجواً، في محاولة لاحتلال مدينتي الجميلة. حوصرت المنطقة من أربع جهات وتعرّضت للقصف من قبل 72 طائرة حربية، لم يسلم من تلك العملية العدوانية أحد لا البشر ولا حتى الحجر فحتى المباني والطبيعة لم تسلم من شرورهم، واستهدفوا صغارها قبل كبارها، وشرَّدوا وهجَّروا الآلاف من العائلات، ضاربة بذلك الإنسانية والأمن والاستقرار عرض الحائط.
منذ اليوم الأول للهجوم انسحبت القوات الروسية، وقوات النظام السوري من مراكز وجودها في المنطقة دون سابق إنذار. كانت الغالبية تتوقع أن تسقط عفرين في غضون أيام أمام أقوى ثاني جيش في الناتو، لكنّ قوات سوريا الديمقراطية أطلقت حملة مقاومة العصر، فدارت معارك طاحنة في أرياف عفرين وعلى تخوم المدينة، كما حمل المئات من أهالي عفرين أيضاً السلاح في جبهة المقاومة للدفاع عن المدينة، وتمكّنوا خلال الأسبوع الأول من منع تقدّم جيش الاحتلال في القرى المحيطة بعفرين على الرغم من سوء الأحوال الجوية.
استمرّت مقاومة العصر لمدة 58 يوماً، إلا أنّ التزام المجتمع الدولي الصمت إزاء الهجوم العنيف المستمر أدى إلى احتلال عفرين بتاريخ الثامن عشر من آذار 2018. كان هدف دولة الاحتلال التركي من احتلال مدينتي التي احتفظت باسمها ومنزلتها رغم كل ما مرّ بها من حوادث، هو تغيير ديمغرافية المنطقة من جهة، وضرب مشروع الأمة الديمقراطية المستند على فكر الفيلسوف الأممي عبد الله أوجلان، والقضاء على إرادة المرأة الحرّة وإعادة إحياء أمجاد الإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى. في ذلك الوقت شاركتُ كامرأة شابة عفرينية أنا وأصدقائي في إعداد الطعام للقوات العسكرية على جبهات القتال، لأنّ حماية مدينتنا وأهلنا واجب علينا، والنصر لن يأتي بسهولة، يجب أن نقاوم ونناضل ونقدّم الغالي والنفيس لنعيش بحرية وأمان.
المقاومة التي أبداها شعب عفرين بكردها وعربها بجانب المقاتلين والمقاتلات، هي أساس حرب الشعب الثوريّة التي جعلت جيش الاحتلال التركي المدعوم بنحو 25 ألف مرتزق، ومئات الجنود من القوات الخاصة التركية يعمد إلى استخدام الأسلحة المحرّمة دولياً والمدافع الثقيلة، واستهداف البنية التحتية والخدمية لمدينة عفرين، وارتكاب المجازر وقصف بيوت المدنيين، بهدف نزوحنا إلى مناطق أخرى.
إلى جانب المقاومة التي كانت رائحتها تفوح من كل الأزقة ومن كل البيوت، والتي استمرت لـ 58 يوماً، كان هناك أيضاً لحظات ألم وحزن ومعاناة، فالبعض استشهد وترك غصّة الألم والفراق في نفوس والديه، والبعض الآخر جلس على الركام يبكي الأهل والإخوة الذين قضى عليهم القصف، ولكلٍّ منهم قصةٌ دامية وذكرى لوعة وجرح فراق لا يندمل.
غادرنا جندريسه بحثاً عن مكان أكثر أمناً، وتوجهنا إلى مركز مدينة عفرين، رغم صمودنا هناك أيضاً إلا أنّ الأزمة تفاقمت وأُجبِرنا على المغادرة. رغم مرّور سبع سنوات على احتلال مدينتي، إلا أنّ مشاهد القافلة التي كنت ضمنها عند خروجنا من جبل الأحلام أتذكرها وكأنّها حدثت البارحة، وأكثر المشاهد التي لا تزال محفورة في عقلي وفي قلبي، صور الأطفال وعلى كلّ خدٍّ صغيرٍ متورد جرح غائر وقصة ألم. وكان المشهد الأكثر ألماً رؤيتي لتلك العائلة المنكوبة التي فقدت أحد أفرادها وبقي مصيره مجهولاً، ومن بين المشاهد التي هزّت كياني أيضاً اختلاط أصوات بكاء النساء والأطفال بضجيج الانفجارات والقصف.
عند وصولنا إلى مقاطعة الشهباء، كانت الحياة شبه مستحيلة لأنّ المنطقة غير ملائمة للعيش بسبب الدمار الذي خلّفه تنظيم داعش وتدميره للبنى التحتية وكل مقومات الحياة هناك، إلا أنّ إصرارنا وإرادتنا الحرّة وقربنا من مدينتنا جعلنا نتحمل كافة الظروف المعيشية والمناخية. بذلك دخلت مقاومة العصر مرحلتها الثانية إدارة، شعب، قوة. الإدارة الذاتية الديمقراطية باشرت بإنشاء مخيمات في الشهباء، وكان مخيم “برخدان” أول مخيم تمّ إنشاؤه وتجهيزه شرق ناحية فافين، لإيواء أهالي عفرين الذين خرجوا قسراً من ديارهم عند احتلال تركيا لها، تلاه إنشاء مخيم سردم، عفرين، العودة والشهباء.
في البداية لم نستطيع التأقلم مع طبيعة الشهباء ولا العيش على أرضها، كونها كانت مختلفة تماماً عن منطقتنا التي كانت تُعرف بالطبيعة الخضراء الخلابة، كانت أشجار الزيتون تُزيّن أراضيها والأزهار والنباتات الخضراء تُزيّن منازلها. كان هذا ما يضاعف معاناتنا على هذا الأرض، لكن ومع مرور الأيام، بدأ المهجرون يزرعون النباتات والأشجار الصغيرة لتكبر ويكبر معها أمل العودة إلى حضن وطنهم الجريح، فحولوا المخيمات إلى حدائق مليئة بالأزهار والورود والأشجار.
رغم النزوح لم تكتفِ دولة الاحتلال التركي بقصف عفرين والمناطق الأخرى في شمال وشرق سوريا، بل وشنت قصفاً عنيفاً بشكل مستمر على مقاطعة الشهباء، وارتكبت الكثير من المجازر بحق المدنيين، جلّهم من النساء والأطفال كـ مجزرة تل رفعت، ومجزرة أقيبة، كما فرضت الفرقة الرابعة التابعة لجيش النظام البعثي السابق حصاراً خانقاً، منعت من خلاله دخولَ المواد الغذائية وحليب الأطفال والمستلزمات الطبية والمحروقات إلينا، ما أنذر بكارثة إنسانية وشيكة آنذاك. كل تلك الصعوبات لم تثنينا عن مواصلة المقاومة للبقاء بالقرب من مدينتنا.
خلال تواجدي في مخيم برخدان عملت ضمن المجالس واللجان لتنظيم الأهالي وتخفيف وطأة تأثير النزوح عليهم، ثم قررت الدخول إلى المجال الإعلامي لتوثيق معاناة الأهالي إلى جانب المقاومة العظيمة الموجودة هناك. عندما كنت أتجول في المخيم وعدستي في يدي لفت انتباهي أطفال صغار يركضون باتجاهي ويطلبون مني تصويرهم، وهم يلوّحون بأيديهم بإشارة النصر في إشارة منهم إلى أنّ عفرين ستتحرر حتى لو بعد حين. كما لاحظت أنّ تحت كلّ خيمةٍ لا تقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء قصص ممزوجة بالمقاومة والأمل، تُعبر هذه القصص عن عشق الشعب لأرضه الطاهرة، عن شعبٍ عانى الأمرين في سبيل تحرير مدينته من براثن مرتزقة لا تمت للإنسانية بصلة. كنتُ متأكدة أنّ الكرامة مادامت أساساً للشعب المضطهد فلن يستطيع أحد القضاء على مقاومته وإصراره في المطالبة بحقوقه.
سبعة أعوام في مناطق الشهباء لم تكن مجرد أعداد وأرقام، إنّما مقاومة سُطّرت في صفحات التاريخ. اخترناها نهجاً لنا في وجه أساليب الحرب الخاصة ومخططات الإبادة التي تنتهجها دولة الاحتلال بحقنا، وطيلة تلك السنوات رددنا شعار “المقاومة حياة”، إيماناً منا بتحرير عفرين والعودة إليها.
وفي تغريبه عفرينية جديدة تحمل في طياتها مرارة الألم والتهجير، نزحنا مرة أخرى بعد سقوط النظام البعثي في دمشق، واستغلال مرتزقة تركيا المسماة بالجيش الوطني لهذه المرحلة والفوضى التي حلّت بالبلاد، لتشن حملة احتلالية جديدة على مقاطعة الشهباء وقرى ناحية شيراوا. خلال هجوم مرتزقة تركيا على الشهباء أبدت قوات تحرير عفرين مقاومة عظيمة، وسطّرت أروع الملاحم البطولية، وقدّمت الكثير من الشهداء في سبيل حمايتنا. ولكيلا يتعرض مهجرو عفرين وأهالي الشهباء للمجازر والإبادة مرة أخرى، قرر مجلس عفرين والشهباء بمحض إرادته الخروج من المنطقة التي كانت مطوّقة من قبل مرتزقة الدولة التركية. مع برد الشتاء القارص الذي كان يقصّ العظم قصاً، وفي ظلّ الاشتباكات وأصوات الرصاص التي كانت تهز المدينة، خرجنا من الشهباء على شكل قوافل باتجاه مستقبل مجهول، تاركين وراءنا أحلامنا، حاملين فقط أمل العودة إلى حضن مدينتنا. بعد ليلة باردة وطويلة وصلت القافلة إلى مقاطعة الطبقة، بقيتُ فيها عشرة أيام، ثم أكملتُ طريقي حاملةً معي ما تبقى من ذكريات الوطن وسبع سنوات من الصمود، متجهةً نحو مدينة قامشلو لاستكمال عملي ضمن صحيفة روناهي، لأكون صوت أهالي عفرين أينما كنت، فأنا مؤمنة بأننا سنعود إلى عفرين أحياءً أو أموات.
منذ احتلال مدينة عفرين وحتى هذه اللحظة، يستمر الاحتلال التركي ومرتزقته بارتكاب أبشع الجرائم بحق أهالي المدينة وطبيعتها، من قتل واختطاف واغتصاب للنساء، وتدمير ممنهج للمعالم الأثرية والدينية في المنطقة، وحرق الغابات والأشجار المثمرة، وبناء مستوطنات وتغير اللغة الأم وتهجير السكان الأصليين بهدف تتريك المنطقة وتغيير ديمغرافيتها، بالإضافة إلى حالات السرقة المستمرة لممتلكات المدنيين، يمكنني القول بأنّ عفرين تحوّلت من مدينة آمنة ومستقرة إلى بؤرة للعنف والجرائم والانتهاكات اليومية.
عفرين وأهلها وكل مكوناتها وشرائحها المجتمعية ستبقى صاحبة أكبر مقاومة عصرية، المقاومة التي أدهشت الشعوب وأحرار العالم وأصحاب الضمائر الحية. مازالت هذه المقاومة مستمرة ومستدامة بمبادئها وقيمها حتى تحقيق عودة آمنة للأهالي إلى ديارهم، وأنا على يقين أنّه رغم الخذلان والتقاعس من قبل المجتمع الدولي حول ما يجري في مدينتي حتى اليوم، إلا أنّ ثورة الشعوب الحرّة الكريمة ضد الظلم والاستبداد والاحتلال ستنتصر في النهاية لأنّها حق مشروع، وأنّ أهالي شمال وشرق سوريا بشكل عام ومهجرو عفرين بشكل خاص يناضلون بإرادتهم وعزيمتهم وإصرارهم، ويقدّمون تضحيات كبيرة وعظيمة من أجل الحفاظ على أرضهم الطاهرة، هذ الأرض التي رويت بدماء آلاف الشهداء والشهيدات.