دور المرأة البارز في المؤسسات الفنية والثقافية – لورين الحج
دور المرأة البارز في المؤسسات الفنية والثقافية
“بالفن والثقافة نزدهر ونعبّر عن هويتنا المطموسة
حتى نزداد قوةً وجمالاً،
ففي بحثنا المتواصل نرى بأنّ دور المرأة في الثقافة
هو الأساس والروح التي تعطي نكهة للفن،
وبلونها تضفي رونقاً للغناء والعزف”
لورين الحج
من المهم إلقاء الضوء على ارتباط المرأة بالثقافة والفن في ظل الظروف التي نعيشها، وأهمية ربط الحياة بالمبادئ الثقافية والفنية لأي شعب؛ كي يحافظ على ميراثه والعادات والتقاليد التي تُعرّف المجتمع بمجتمعٍ آخر، وتحميه من التعرض للإبادة الثقافية أو العرقية، وللمرأة في الفن حضور عميق يعكس برمزيته معنى الحياة والطبيعة، الأرض والخصوبة، الجمال والمحبة، فهي تمتاز بصفات متنوعة تمتزج مع الفكرة الفنية التي تحدد الجانب الجمالي المطروح فيها. كما أن دور المرأة في الفن لم يتوقف عند حضورها كفكرة ورمز وصورة، بل انتقل من تلك الأطر العامة ليصبح للمرأة حضور ذاتي مشرق في الفن والإبداع.
منذ القدم أدّت المرأة هذه المهمّة، فالأغاني والمواويل والقصص التي كنا نستمع لها ونحن صغار، والمسرحيات والملاحم والبطولات التي كُتبت أو انتقلت شفوياً عبر التاريخ خير دليل على ما ذكرناه. المرأة التي حاربت لأجل الحرية منذ آلاف السنين، وناضلت ضد الذهنيّة الأبوية والتعصب الجنسوي، هي الركيزة الأساسية في ثورة روج آفا، وهي المؤثرة في مؤسساتنا الفنية والثقافية والأدبية في شمال وشرق سوريا، فالمرأة لها دور هام في بناء المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضاً.
كما أنّ المرأة أثبتت للعالم بِرُمّته مقولة “النّساء لسنَ فقط نصف المجتمع، بل إنّهنَّ مربيات للنصف الآخر أيضاً”، وهي القادرة على تكوين جيش خاص بها من الناحية الفكرية والعسكرية والسياسية وغيرها. ترى ذاتها مصدراً للقوة والقدوة لنفسها، وتحارب لحماية كينونتها دون أن تستعين بقوة الرجل أو أي قوة أخرى. مثل ما يقول الفيلسوف عبد الله أوجلان: “المرأة أساس المجتمعات وبفكرها سيتحرر المجتمع“، من هذه الكلمات نستنتج بأنّ فكر المرأة أينما وجد كان بحدّ ذاته فناً، فهي التي تستطيع خلق شيءٍ من لا شيء، ونرى بأنّها الأقرب للفن والإبداع وذلك لأنّها من الناحية البيولوجية والفكرية تجسد الطبيعة والخصوبة.
إنّ شعار “المرأة الحياة الحرية” الذي صدحت به حناجر آلاف النساء في شمال وشرق سوريا وفي شرق كردستان – إيران، أصبح فلسفة عالمية تمثل النساء اللواتي يعشنَ بفكرهنَّ وآرائهنَّ الحرة، كون النساء عازمات على رفع راية النضال معاً ضد الأنظمة القائمة على التمييز الجنسي والديكتاتورية والوضع الراهن وجعل القرن الحادي والعشرين قرن المرأة. فالمرأة كانت محور الحياة في المجتمع الطبيعي، والمستكشفة الأولى للطبيعة والزراعة، والحامية لمجتمعها من المخاطر، وخير دليل على ذلك قيادتها لمقاومة كوباني في رجافاي كردستان، وتتويجها بالنصر ضد إرهاب داعش.
ثورة المرأة في روج آفا ليست ثورة السلاح والحرب، بل هي ثورة الوجود أو اللاوجود. لم تكتفِ المرأة بتشكيل وحداتها العسكرية، بل واصلت مسيرتها الفكرية والفنية والثقافية والأدبية والفلسفية وساهمت بنقل المجتمع نقلة نوعية نحو التطور والتقدم، من خلال مقاومتها لكافة الضغوطات الحياتية، التي كانت تقيّدها وتهمش وجودها. فالمرأة أثبتت أنّها قادرة على تقرير مصيرها واسترجاع حقوقها المسلوبة منذ آلاف السنين، لتصبح ثورة المرأة في شمال وشرق سوريا من أهم الأحداث التاريخية التي شهدتها المنطقة خلال العقود الأخيرة ومصدر إلهام لنساء الشرق الأوسط والعالم.
من أبرز إنجازات ثورة المرأة في المنطقة؛ تطبيق نموذج الرئاسة المشتركة في المؤسسات العامة وعمل المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل، بالإضافة إلى تشكيل مجالس خاصة بها في كل المؤسسات العامة، ومنها المراكز الثقافية التي تفوق فيها نسبة النساء على الرجال. كما أن أحد أبرز المكتسبات التي حصلت عليها المرأة، الإقرار بحقوقها الأساسية وضمان حرية التعبير والمشاركة الفعالة في الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها.
مؤتمر ستار تنظيم نسوي أخذ على عاتقة الدور الريادي في طليعة ثورة روج آفا، وكان له دور هام في التنظيم والحماية من أجل حماية المرأة ومكتسبات الثورة وتوعية المجتمع، والتغلّب على الذهنيّة الذكوريّة التي طمست جوهر وحقيقة المرأة. ما يجعل مؤتمر ستار ملهماً للنساء بتنظيمه الخاص عبر منسقيات ولجان في الإدارة الذاتية الديمقراطية، وله الدور الأبرز والأهم في تحقيق المساواة بين الجنسين. نُظّم مؤتمر ستار على أيدي نساء لم يقبلنَ بالظلم والتعصب الجنسوي في المجتمع، وساهمنَ عبر نضالهنَّ وبرامجهنَّ إلى تمثيل هوية المرأة وإبراز صورتها الحقيقية.
من التنظيمات النسوية التي ساهمت أيضاً في المطالبة بحقوق المرأة وتحقيق المساواة المجتمعية (دار المرأة، وقف المرأة الحرة، اقتصاد المرأة) وغيرهم العديد من مؤسسات ومجالس المرأة التي كان لها الدور الأساسي في إعطاء الحق القانوني للمرأة في شمال وشرق سوريا وذلك بما يخص تعدد الزوجات، منع زواج الأطفال، تجريم قتل النساء تحت ذريعة الشرف ومناهضة العنف ضدهنَّ، فضلاً عن تناول العديد من القضايا الاجتماعية والبحث عن حلول لها.
تعطي أكاديمية الجنولوجيا (علم المرأة) الجواب الشافي لحقيقة المرأة وتاريخها، كما تعكس الأضواء على فن وثقافة المرأة بدءاً من المجتمعات الطبيعية حتى يومنا الراهن، وهو علم يفتح المجال للمرأة لاكتشاف حقيقتها وجوهرها وكيف أنّها كانت آلهة مقدسة في المجتمعات. هذه الحقيقة التي لم تكتب بسبب الذهنية الأبوية التي تمتد منذ خمسة آلاف سنة، كون العلوم الموجودة لم تعطِ أي أهمية لقضية المرأة وحريتها ووجودها.
لعبت الجنولوجيا في القرن الحادي والعشرين دوراً فعالاً في توعية المجتمع من خلال التدريبات والأبحاث التي تتمحور حول المرأة وحقيقتها، كما يقول المفكر عبد الله أوجلان: “العلم الذي سيتطور حول المرأة سوف يكون الخطوة الأولى نحو السوسيولوجيا الصحيحة”. نستطيع شرح هذه النظرية؛ بأنّه من المهم تناول قضية المرأة كقضية عالمية، وأنّ السبب الرئيسي في الخلل الاجتماعي وتراكم المشاكل العلمية يعود لمفهوم التعصب الجنسوي، وأخذ كل شيء بعين واحدة أو لون واحد كالذهنية الدولتية.
الجنولوجيا؛ تستند عليها العديد من العلوم كـ علم الاجتماع، التاريخ، ميثولوجيا، اثمولوجيا، وتحتوي على الحقائق التاريخية للمرأة، وتفتح المجال أمام النساء للتعايش معاً ضمن حياة تشاركية في جميع الميادين. كما عرفهنَّ على القدرة الثقافية والفنية والأدبية التي يمتلكنها من خلال المعرفة والاستكشاف في علمهنّ. ثورة المرأة تزدهر بالفن، فقد استطاعت العديد من النساء في شمال وشرق وسوريا تطبيق هذه الحقيقة في حياتهنَّ الواقعية، ولم يكتفين فقط بالقراءة والمعرفة، فالجنولوجيا كان العلم الذي أنار جوهر المرأة وجعل منها مقاتلة وعالمة وفيلسوفة في هذه الحقبة التاريخية، والكشف عمّا تمارسه السلطة الذكورية وما نتج عنه من تضخم للأزمات والحروب، والمشاكل العنصرية والتعصب الجنسوي الذي لم يتطرق له أي علم اجتماعي للحد منه وإنقاذ المجتمع من مخلفاته.
لذا؛ من المهم معرفة السياسات التي أتبعوها خلال كل هذه الأعوام. يجب على المرأة والمجتمع برمته إدراك ومعرفة أنّ هذه الحياة المزيفة قد أخذت العالم إلى الخراب والدمار. علينا أن نعلم بأنّ ما نعيشه اليوم سيُكتَب في التاريخ، لذلك يجب أن ندوّن في صفحاته أننا كنساء حاربنا بقلمنا وعلمنا، وأبهرنا العالم بتنظيمنا لأنفسنا على هذه المبادئ القوية التي تدل على ارتباطنا بأرضنا وثقافتنا وفكرنا الحر.
إلى جانب ذلك تسعى المؤسسات والمراكز الثقافية الداعية لحرية المرأة إلى التمييز بين الرأسمالية التي تجعل المرء يضيع ما بين ثقافته الحقيقية والثقافة التي تأتي بسبب تأثير بدعة الرأسمالية، ومن تلك المؤسسات المعهد العالي للفنون في شمال وشرق سوريا الذي افتتحته الإدارة الذاتية الديمقراطية في مدينة ديرك مقاطعة الجزيرة والتي تهدف إلى تطوير الفن الثوري وتأهيل كوادر فنية علمية تلعب دورها بشكل فعال في المجتمع. كما تم افتتاح المعهد العالي للفنون الخاص بالمرأة والتابع لحركة الهلال الذهبي في مدينة الحسكة من أجل حماية ثقافة المرأة والمجتمع.
تهدف حركة الهلال الذهبي“ HÎLALA ZÎRÎN “ لثقافة المرأة في شمال وشرق سوريا إلى تعليم الأطفال والنساء على الفنون ومختلف ثقافات الشعوب والأديان والأطياف في المنطقة، وتساعد النساء على تعزيز مهاراتهنّ وقدراتهنَّ الفنية والثقافية، منها الموسيقى والآلات الموسيقية، والدبكات الشعبية، والمسرح والرقص، وتناضل بشكل خاص من أجل الحفاظ على ثقافة المرأة التي تمتد لآلاف السنين. حركة الهلال الذهبي من الحركات النسوية التي تناضل لصون هوية المرأة الحرة وتعريفها للعالم. كما تكّون علاقاتها مع المراكز والمعاهد الثقافية والفنون العالمية ومع فنانين ومثقفين عالميين عن طريق لجنة دبلوماسية مختصة بهذا الشأن.
ومن خلال الأعمال الفنية والثقافية التي تقدمها حركة الهلال الذهبي، باتت ثورة المرأة في روج آفا واضحة الملامح. كما أنّها تساهم في إحياء ثقافة الأم المقدسة التي تتعرض للإبادة الثقافية، وتناضل ضد كل السياسات التي تستهدف ثقافة الشعوب، وتُحفّز الأجيال والفتيات الشابات على التمسك بجذورهم الثقافية. وبفضل ثورة روج آفا وفلسفة المفكر عبد الله أوجلان الذي يتّخذ من حرية المرأة أساساً للحياة، تمكنت المرأة من استعادة أحاسيسها الفنية والثقافية والأدبية التي فقدتها على مرّ السنين، وأصبحت تقرر مصيرها ومسيرتها الفنية وتخرج للعلن لكي تتفنن بمواهبها دون تردد.
تعمل حركة الهلال الذهبي على إيصال مفهوم نضال المرأة وما عانته في ظل وجود الذهنية الذكورية ومخلفاتها، وذلك من خلال أعمالها الفنية والثقافية. كما يؤكد ويقول الفيلسوف عبد الله اوجلان:” المثقف المُتنوّر هو من يُظهر ويكشف الحقائق“. لذا؛ المثقفة الحقيقية هي المرأة الأم التي كافحت وضحّت لصون ثقافتها المتمثلة باللغة والزي والحضارة والتاريخ والأدب والفن من الاندثار.
مهرجان الشهيدة برجم عفرين الذي أقيم في مدينة كوباني في السابع من أيلول عام 2024 خير مثال على مدى حماية ثقافات المنطقة بكافة مكوناتها من العرب والكرد، الشركس، الأرمن، الآشوريين، السريان والتركمان. إنّ جمع كل هذه الثقافات على مسرح واحد، شكّل لوحة فسيفسائية جميلة أظهرت الصورة الحقيقية لتناغم كل هذه الثقافات العريقة فيما بينها.
بالفن والثقافة نزدهر ونزداد جمالاً ونعبر عن هويتنا المطموسة في كل يوم. ففي بحثنا المتواصل نرى بأنّ دور المرأة في الثقافة هو الأساس والروح التي تعطي نكهة للفن وبلونها تضفي رونقاً للغناء والعزف. كل امرأة تمتلك موهبة فنية وتستطيع أن تلعب دورها في المجال الثقافي، عليها أن تكسر كل الحواجز التي تعيق مسيرتها سواءً كانت مفاهيم رجعية تكبت موهبتها أو سياسات الحرب الخاصة التي تهدف إلى محو ثقافة المرأة وإبادتها. فالإرادة هي من تصنع القرار، والقرار يصنع المستحيل.
يمكننا القول؛ بأنّ الفن الذي كان حكراً على الرجال فقط قبل بزوغ ثورة المرأة، يتحول اليوم إلى ساحة لمواهب المرأة والفتيات الشابات في شمال وشرق سوريا، ويبدعنَّ في كل المجالات الثقافية والأدبية والفنية. أن حماية الثقافة والفن واجب على كل شخص، فثقافة والفن تاريخ عريق ومقاومة عظيمة. فالمرأة الكردية التي تناضل في خنادق المقاومة في الجبال، وتمارس فنونها رغم ظروف الحرب، وتضع سلاحها على كتفٍ والبزق الكردي على الكتف الآخر، هي من أنارت طريق النساء في شمال وشرق سوريا، وأثبتت أنّ الفن الثوري وسيلة لإبراز مستوى تضحيات المرأة من أجل حريتها وهويتها، وفي نفس الوقت دونت بقلمها تاريخ شعبٍ عانى من التهميش والإبادة. ومن هؤلاء المناضلات الشهيدة مزكين ” غوربت أيدن” التي مازالت الجوارح تعانق صوتها الثوري المجبول بالشجاعة والثأر والشهيدة دليلة اللواتي سطّرنَ أسمائهنّ بأحرفٍ من ذهب في صفحات تاريخ ثقافة المرأة.