علاقة الحرية والديمقراطية والمساواة ببناء مجتمع متكامل – مريم عثمان
علاقة الحرية والديمقراطية والمساواة ببناء مجتمع متكامل
“نظام الهيمنة الرجوليّة المتسلط، يُعادي في حقيقته
الحريّة والديمقراطيّة والمساواة،
فكلّما تعمّق في أزماته أكثر زاد خوفه من انتفاضة المرأة ونضال حريّتها،
وعمل بشتى الوسائل لسدّ الطريق أمام التغييرات التي تعتبر المرأة
القوة الراديكاليّة الطليعيّة لها في المجتمع“
مريم عثمان
الحرية من أحد أسس الحياة التي بدونها لا يكون للحياة أيَّ معنى، وهي لغة الخلاص من التقييد والعبودية والظلم والاستبداد. الحرية أن يكون للفرد المقدرة على الاختيار، وأن يفعل ما يشاء، وقتما يشاء، فهو صاحب إرادته وملكٌ لنفسه، إذاً الحرية نقيض العبودية، فمنذ آلالاف السنين والبشر يدفعون أثماناً باهظة لنيل حريتهم، أربعة أحرُف تغيّر مصير شعب بأكمله، لكنّ المترأسين على هرم السلطة أفرغوها من المعنى الصحيح ومحتواها العظيم.
نحتاج لتوضيح المعنى الحقيقي للحرية وآفاقها الشاسعة، ولكنْ في الواقع لن نجد من غاص وتعمق في وصف الحرية أكثر من الفيلسوف الأممي عبد الله أوجلان، حيث استطاع أن يوقظ الأمل في قلوب الملايين من أبناء الشعوب التوّاقة للحرية، وأوضح بأنّ نيل الحرية ليس بالمستحيل، فالحرية بمعناها وتعريفها لدى المفكر عبد الله أوجلان ذاتُ أفقٍ لا يمكن حصره في المجتمع البشري فقط، لأنّ الحرية هي هدف الكون على حدّ تعبيره، والكون يندفع نحو الحرية. وفي هذه الزاوية بالذات يجب علينا تسليط الضوء على بعض النقاط في تحليله للحرية المجتمعية.
المفكر عبد الله أوجلان يُعرّف المجتمع على أنّه الطبيعة ذات الذكاء الأرقى، وهو الجانب المهم في سياق تحليل الحرية، فميادين الذكاء حساسة إزاء الحرية، والأصح قول؛ إنّه بقدر ما يركز مجتمع ما على مستوى ذكائه وقدراته والثقافة والعقل فإنّه يكون ميّالاً بنفس القدر للحرية. لعلّ النقطة الأكثر إشراقاً كانت بقدر ما يفتقر المجتمع لتلك القيم في العقل والذكاء والثقافة أو يحرم منها بقدر ما يكون غارقاً في العبودية بالمثل، والحرية أيضاً في منظوره هي قوة الانتشار المجتمعي وهذا ما سمّاه “السلوك الأخلاقي”. يقول الفيلسوف عبد الله أوجلان أنّه منذ بدء البشرية: “الأخلاق المجتمعية غير ممكنة إلا بالحرية، بالأحرى هي منبع الأخلاق وإذا كان الخيار الأخلاقي منبثقاً من الحرية، فسيكون من المفهوم أكثر تسمية الأخلاق بالوعي المجتمعي أي ضميره”.
حين نضع روابط الحرية مع الذكاء والوعي والعقل نصب العين، تكون حقيقة الموضوع أشمل من اختصاره في مقالة أو تعليق أو تحليل في عدة سطور. فلو قيّمنا نظام الزقورات من حيث جوهره فإنّه في أعلى مراتبه في يومنا الحالي، وقد تأسس النظام الرأسمالي العالمي على نفس مبدأ زقورات سومر، وهذا يعود بنا إلى وجهي العملة ذاتها، فتراكم رأس المال والسلطة يؤديان إلى المزيد من العبودية والاستعباد.
أمّا نظام المدنية المركزية فإنّه يحافظ على تواجده بحرمان المجتمع من حريته واستعباده، لذلك علينا أن نعي تماماً بأنّ الوعي هو الأقرب لتحقيق الحرية المبنية على الواقعية بفتح الآفاق أمامها. فالحرية تعني التكاثر والتنوع والاختلاف في الكون؛ الأمر الذي يُسهّل علينا توضيح الأخلاق المجتمعية، حيث أنّ تلك العمليات تحمل في طياتها كائناً ذكياً، فالإنسان هو أذكى كائن موجود في الكون حتى الآن، وهو نموذج مصغر للكون.
علينا أيضاً تسليط الضوء على الفرق بين السياسة المجتمعية والسياسات أو اللاسياسات، والتركيز على العلاقة ما بين الحرية والديمقراطية، فهنالك نقاشات حول أيّهما ينبثق عن الآخر والحقيقة أنّهما يكملان بعضهما البعض، وعندما نضع روابط ما بين السياسة المجتمعية والحرية يمكن وضع روابط بين الحرية والديمقراطية، وبالتالي فإنّ “السياسية الديمقراطية هي ترسيخ السياسة المجتمعية، بدون ممارسة الديمقراطية لن يستطيع المجتمع ممارسة حريته لأنّها المدرسة الحقيقية لتعلم مبادئ الحرية وممارستها”.
بالرغم من الاختلاف الموجود بين مفهوم الحرية (بما هي حرية التعبير والضمير والإبداع والحق في الاختلاف)، ومفهوم الديمقراطية (بما هي نظام سياسي يقوم على الانتخاب وآليات للتداول السلمي على السلطة، وضمان حقوق الإنسان وسيادة القانون والمساءلة)، فإنّهما “أي الحرية والديمقراطية” متلازمان، كما أنّهما نتاج الحداثة بالضرورة. لا ديمقراطية دون حرية، ولا حرية دون ديمقراطية والتي تكون نسقاً مركباً من عناصر سياسية واجتماعية وحقوقية واقتصادية مترابطة ومتفاعلة ترتبط بالحوكمة والمساءلة.
إنّ العلاقة بين الحرية والمساواة متناغمة ولا يمكن لأحدهما الإضفاء على الآخر، فالحرية هي التحرر من القيود التي تُكبّل طاقات الإنسان وإنتاجه، سواء كانت قيوداً مادية أو معنوية، فيما ينص مفهوم المساواة على تمتُّع الأفراد جميعهم بالحُقوق والحُرِّيات العامَّة على قَدَم المساواة دون أيّ تفرقة بينهم بسبب العِرق، أو الجنس، أو الدِّين، أو العقيدة، أو اللُّغة، أو غيرها، وهو يتضمَّن حقّ كلّ فرد في تنظيم حياته الشخصية، واتِّخاذ القرارات التي تُناسبه.
كما يرى المفكر عبد الله أوجلان أنّ الاكتفاء بتعريف علم الاجتماع لوحده لا يكفي ولا يجد الحلول للمشكلة، وإنّما الأهم من ذلك تحديد الوحدة الأساسية التي ستؤخذ كنموذج أساسي لتحليل المجتمع. فاصطلاح الحضارة الديمقراطية يوفر الأرضية الأوسع لإنجاز الثورة في العلوم الاجتماعية، وبعد تقديم الفيلسوف عبد الله أوجلان النقد للسوسيولوجيا السابقة واختياره لوحدته الأساسية “الحضارة الديمقراطية” يطرح الحل البديل ألا وهو “سوسيولوجيا الحرية”.
الطبيعة الاجتماعيةَ قد تَواجَدَت واستَمَرَّت على الدوام في جوهرِ نظامِ الحضارةِ الديمقراطية بهيئةِ تكاملٍ أخلاقيٍّ وسياسيٍّ كلي، بوصفها الوجهَ الآخرَ لتاريخِ المدنيةِ. فرغمَ كلِّ أشكالِ القمعِ والاستغلالِ للنظامِ العالميِّ الرأسمالي، إلا أنّه ظهر العجزُ عن إفناءِ الوجهِ الآخر من المجتمع. فمثلما لا يُمكِن للرأسماليةِ الاستمرارَ بوجودها دون وجودِ المجتمعِ اللا رأسمالي، فالمدنيةُ أيضاً كنظامٍ عالميِّ رسميِّ لا يُمكِنها الاستمرارَ بوجودها دون وجودِ نظامِ الحضارةِ الديمقراطية.
أودُّ القول؛ إنّ فلسفة الحرية التي تبناها المفكر عبد الله أوجلان لم تأتِ من الفراغ، إنّما كانت وليدة الواقع الذي عاشه، حيث يؤكد في جميع مرافعاته على أنّ الفكر الحر لا تقيده القضبان، لذلك فإنّ حل جميع أزمات الشرق الأوسط يمر عبر بوابة إمرالي. يقول الفيلسوف عبد الله أوجلان: “لقد تحول سجن إمرالي بالنسبة لي إلى ميدان لحرب الحقيقة بكل ما لهذه الكلمة من معنى“.
العصرانية الديمقراطية اليوم هي عصر ثورة المرأة وحضارتها، فمسيرة المرأة نحو الحرية تبدأ بجهود وخطوات قوية وواعية وفلسفة “المرأة، الحياة، الحرية” شاملة لجوهر الحياة الصحيحة، وإنّ أقوى وأصح خيار للشعوب هو براديغما العصرانية الملائمة للحقائق والوقائع التاريخية والاجتماعية لشعوب الشرق الأوسط أجمع. كما أنّ العصرانية الديمقراطية كافحت ضد الحداثة الرأسمالية، وتتألف من الأمة الديمقراطية ومجموع الحركات الاشتراكية والأيكولوجية والفامينية والثقافية، وما يميزها هو الإصرار والنموذجية في سياق حل قضية المرأة وثورتها، فمشاريع العصرانية لا تُخطط ولا تُنفّذ دون المرأة. حركة الحرية والمساواة والديمقراطية النسائية التي تستند على علم المرأة، الذي يحتضن الفامينية أيضاً بين ثناياه سيؤدي دوراً رئيسياً في حل القضايا الاجتماعية.
علينا عدم الاكتفاء بانتقاد الحركات النسائية البارزة في الماضي القريب، بل توجيه الانتقادات اللاذعة لـ تاريخ المدنية والحداثة الرأسمالية اللتان حولتا المرأة إلى هوية مهمشة وعاجزة. بهذا يمكنني القول؛ بأنّ القرن الحادي والعشرين سيكون قرن كفاح ونضال المرأة، وقرن التطوير الديمقراطي من خلال الثورات التي قامت بها المرأة المعتمدة على مبادئ الحرية، كون النظام الذكوري المهيمن يعيش أسوأ أزمة في تاريخه الممتد لخمسة آلاف سنة، وهو يسعى إلى إطالة عمره من خلال تحديث نفسه وإعادة إنتاج ذاته وتنشيط نظام هيمنة أكثر تطوراً، واليوم بفضل تحليلات المفكر عبد الله أوجلان أحدثت المرأة تغييراً جذرياً في واقع المجتمعات، من خلال تمكنها من القيام بأدوارها في بناء المجتمع.
قال الفيلسوف عبد الله أوجلان” هدفي هو جعل المرأة قابلة لأن تكون مصدر للحياة وتحيا بحرية، ولقد كان طموحي الأول والأخير أن أُكمل لوحة حرية المرأة بإيصالها إلى أعلى المستويات القيادية في كافة الساحات وريادية ضمن المجتمع، ورَكزتُ على هذا الموضوع منذ أمدٍ بعيد وحتى الآن وأنا في إمرالي ما زلت رفيق الدرب للمرأة الحرة التواقة للحرية. حتى وإن كانت المسافات بيننا بعيدة ولكن الحقيقة هي أنّ طموحنا للوصول إلى حياة صحيحة وامرأة حرة سيكون مستمراً حتى النهاية، لأنني أثق بتلك الطاقة الحياتية المخفية في طبيعة المرأة، وأنا ذلك الفنان الذي يرسم من خلال تلك الطاقة لوحة الحياة البهيّة للجميع، الحرية أثمن من الخبز والماء، وكلّي إيمان بأنكنّ ستحققن تحرر المرأة في الشرق الأوسط، لتُشرقنَ كشمسٍ ساطعة مع حلول الربيع بناءً على الذكاء والحماية والجمال، لأنّ المرأة الجريئة والذكية والجميلة تستطيع فتح العالم لذلك فأنا أعيش من أجلكن”.
في المجتمع الطبيعي مثلت المرأة دورًا رياديًّا في تنظيم المجتمع وتطوير مقومات الحياة، حيث كان المجتمع ينعم بالمساواة والعدالة بعيدًا عن الطبقية والعنف الذي أسسه النظام الذكوري بعد صراع دام أكثر من 200 ألف عام، ولذلك فهذا الصراع كان هدفه انتزاع السلطة من يد المرأة، لظهور مجتمع ذكوري، تتعدد فيها الطبقات والسلطة الحاكمة، وهذا كان نظام الذهنية الذكورية الذي فرض على المجتمع.
إنّ نظام الهيمنة الرجولية المتسلط يعادي في حقيقته المرأة والحرية والديمقراطية، فكلّما تعمّق في أزماته أكثر زاد خوفه من انتفاضة المرأة ونضال حريّتها، وعمل بشتى الوسائل لسد الطريق أمام التغييرات التي تعتبر المرأة القوة الراديكالية الطليعية لها في المجتمع. النظام الرأسمالي الحديث لا يستطيع حل مشاكل البشرية والمرأة، ويستمد عقليته من الشخصية الذكورية.
كما أننا نعيش اليوم أخلاق الحرب بانحدارها وانحلالها، لتكون بديلاً عن الحياة الاجتماعية الصحيحة، ولإبعاد هذه الأجيال عن ثقافتهم الشرقية وفلسفتهم وحريتهم واستبدال القيم المجتمعية. وسط هذا الظلام نجد طريق النجاة بأفكار المفكر عبد الله أوجلان ليس فقط في سوريا بل للإنسانية جمعاء، انطلاقاً من مقولته “بأنّ الحياة الخاطئة لا تعاش بصواب”، لذلك نرى بأنّه لا يمكننا أن نبني مجتمعاً على حلول آنية ومرحلية لا تستند على أساس تاريخي. لا بدّ من العودة عند مناقشة هذه الأزمات والقضايا إلى أساسها وجذورها وبداية ظهورها، ومراحل تطورها عبر التاريخ البشري وتاريخ المجتمعات وهذا سوف يعطينا القوة والقدرة على تشخصيها بشكلٍ دقيق، مما يسمح لنا بوضع حلول جذرية ومناسبة وأكثر ديمومة، فلا يمكن البحث في القضايا الاجتماعية دون البدء بقضية المرأة، والتي يعتبرها الفيلسوف عبد الله أوجلان الحجر الأساس ومنبع كافة القضايا.
ونحن كنساء أحرار، سنواصل قيادة المقاومة في كل زمان ومكان، وعلى هذا الأساس لا بدّ لنا من ردع سياسات الاحتلال والاستغلال المفروضة على الشرق الأوسط والعالم، والعمل معاً بمقاومتنا المشتركة وفعالياتنا وتنظيمنا لإفشال سياسات الاحتلال والإنكار، والإبادة والصهر القومي والثقافي المفروضة من قبل الذهنية السلطوية.