سنديانة السّاحل – الإعلامية ستيرك كلو
سنـديانة السّاحل
“للوقوف ضدّ إبادة المرأة يجب علينا التّكاتف والتّصدّي لكافة أنواع الظّلم والتّهميش
عبر تشكيل جبهة نسائيّة
تحملُ روح سنديانة السّاحل في كلّ شبرٍ من أرضنا،
فالمرأة السّورية قادرة على تحقيق ثورة حقيقية
من خلال الكفاح المستمر والعمل على كافّة الصُّعُد”
الإعلامية ستيرك كلو
بعد انهيار نظام البعث الذي اعتمد على المركزية في إدارة سوريا منذ 62عاماً، تصاعدت حدّة المحاولات لإيجاد حلّ لهذا الوطن الذي يحمل بين طياته أكثر الاختلافات من حيث تكوين البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية، ولكن ما هي شكل هذه المحاولات وكيفية تطبيقها على أرضِ واقعٍ تعب تحت نيران المركزية والشوفينية. لسوريا مكانة استراتيجية في الشرق الأوسط، ولها ثقلها السياسي في تنفيذ أي مشروع، بمعنى آخر يمكن اعتبارها نموذج الحل أو اللا حل في هذه المرحلة.
الرّقم السّوري هامٌ في تنفيذ المشروع الجديد، وخاصةً من بعد انهيار التوازنات التي اعتمدت عليها القوى الخارجية في ترتيب المنطقة منذ أكثر من خمسين عاماً. مفهوم الدولة القومية التي اتخذت المركزية وقوداً في تسيير عجلتها، يلفظ أنفاسه الأخيرة إلى مستوى انهار نظام البعث خلال بضعة أيام لتترتب بعدها توازنات أخرى كانت صادمة للكثير من القوى والدول أيضاً. حاول هذا النظام أن يسير بعجلة المركزية ويهمّش الآخر إلى درجة الانعدام، ولكن اقتربت ساعة الصفر بعد زمن طويل من عمر هذه السياسة التي انهكت كاهل المجتمع السوري بجميع مكوناته. السياسة السورية في زمن البعث لم تعتمد على قواها الداخلية وديناميكياتها القوية في حل القضايا الحياتية لهذا البلد، بل اتّخذت المركزية وسياسة الحزب الواحد واللغة الواحدة والقومية الواحدة أساساً في إدارتها.
بالطبع لا يمكن اتخاذ الوضع السوري بشكل مستقل عن وضع العالم العربي والشرق الأوسط بأكمله. حيث تعتمد منطقة الشرق الأوسط في محور التغييرات التي تتجابه عليه قوى الهيمنة العالمية لترسيم جديد تحت مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي جاء بعد قرن على اكتمال اتفاقية سايكس بيكو بتقسيم المنطقة إلى دول قومية، فقد ولّى زمن الدول القومية وبدأت عاصفة التغيير منذ أكثر من عشرة أعوام ليأتي الدّور على مشارف كل من إيران وتركيا من بعد سوريا.
في خضمّ كل هذه التطورات يبدو الصراع عنيفاً ما بين القوى المهيمنة التي تترأس هذه الحرب تحت ستار الحفاظ على مصالحها من غير مصالح الشعوب والمرأة. يستمر النظام الرأسمالي عبر مفهوم الدولة القومية باستهداف المرأة والشعوب ويرتكب كافة أنواع الإبادات يومياً دون أي تردد، وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة هذه المجازر أمام مرأى العالم، لكن لم يتخطى كل ذلك خبراً إعلاميًا، وكأنّ التاريخ الدموي قدرٌ مكتوبٌ لا يمكن تغييره. شَهِدت جميع بلدان الشرق الأوسط هذه السياسة اعتماداً على ما انتجه النظام الرأسمالي من فكر الاستهلاك البشري مادياً ومعنوياً، في الحقيقة لا تقتصر الإبادة المستمرة على العرقية فحسب بل هناك أنواع كثيرة من هذه الإبادات منها الإبادة الثقافية والاجتماعية والجنسية.
ما حدث ويحدث لشعب فلسطين في غزة ولبنان وسوريا ما هو إلا نتاجٌ لهذه الذهنية التي اختلّت بجميع التوازنات نسبة إلى خصائص عصرنا والتي يسميها العديد بعصر النهضة والتطور. فمن جانب ما يتم وصفه بقمة التطور ومن جانب آخر تغترب الإنسانية عن حقيقتها وجذورها في ذات هذه الذهنية وذلك عبر القيام باستخدام جميع الديناميكيات الداخلية في سبيل تحقيق أهداف القوى المهيمنة.
من المهم التطرق إلى هذه الديناميكيات التي تُشكل مقومات المجتمع في الشرق الأوسط، وأهمها قضية المرأة التي تحتاج لتناول صائب وسليم كما أشار إليه المفكر عبد الله أوجلان. كيف يمكن تناول هذه القضية التي تكمن وراء جميع القضايا العالقة والتي بسببها اتجهت بعض البلدان إلى الانهيار، فقضية حرية المرأة من أولى القضايا التي تحتاج إلى حل جذري وعاجل، بالطبع لا يمكن للمرأة أن تنتظر الحلول من النظام الأبوي أو النظام المركزي الذي اعتمد في أساسه على عبودية المرأة في إدارة نفسه، والرأسمالية الحديثة من أكثر النظم التي استغلت هذه القضية وبأشكال مختلفة لخدمة مصالحها وقد كانت متفوقةً إلى درجةٍ عالية في عملية الاستغلال هذه.
هنا على سبيل المثال استبعاد المرأة عن الميادين الحياتية سواء أكانت في السياسة أو الإدارة أو الدفاع من خلال سياسة ممنهجة، وإقصاؤها كجنس ثاني يُعتبر إجحافاً بحق المجتمع قبل المرأة ذاتها. فلا يمكن الحديث عن مجتمع تكون المرأة فيه شيئاً يكمل آخر، كون المرأة جوهر في صنع المجتمع والمجتمعية وأي انتهاك لهذه الحقيقة يُعتبر انتهاكاً بحق المجتمع بأكمله. لدى اندلاع انتفاضة جينا أميني تحت شعار (المرأة، الحياة، الحرية) في شرق كردستان وإيران، اجتمعت النساء في أرجاء العالم وانضممن إلى هذه الانتفاضة التي كانت الاستجابة المرحلية لجميع متطلباتهم.
دكّت هذه الانتفاضة الذهنية الذكورية بغض النظر عن القومية والعرق. في الحقيقة لدى التحدث عن المرأة تأتي القومية في المرتبة الثانية كون المرأة بحقيقتها تُمثّل جميع مقومات المجتمع، لذا تبقى مطالب جميع النساء في العالم ومن جميع الأوطان هي نفسها حتى وإن كانت هناك جزئيات مختلفة في بعض أنحاء العالم. نحن على يقين بأنّ ما تعانيه الغزاوية لا يختلف عما تعانيه الكردستانية أو الأخريات في العالم، فهل هناك فارقٌ بين ما تعانيه المرأة تحت هيمنة طالبان في أفغانستان وما تعانيه الإيرانية تحت حكم الملالي؟ لا أعتقد بوجود الفارق لا شكلاً ولا جوهراً.
لذا من المهم تحليل النظام الذكوري كنظام هيمنة من منطق حرية المرأة والتي تُعتبر المقياس لكافة الحريات الأخرى. لا يمكن للمرأة الرجوع إلى الوراء بعد تحقيق كل هذه الانجازات التي ما هي إلا ثمرة جهودها سواء في المنزل أو الشارع أو مكان العمل. إنّ القوانين التي تحدّ من حريتها كانت أكثرها تطبيقاً في عصرنا هذا، سواء باسم القانون أو باسم الشريعة كون الاثنين وجهان لعملة واحدة.
بعد انهيار النظام البعثي البائد استلمت مجموعة متطرفة باسم الإسلام السلطة في دمشق من دون عثرة أو عائق، وتغيّر نظام الحكم ما بين ليلة وضحاها باسم التغيير والثورة. السؤال المهم هنا ماذا تغيّر؟ قُتِل الآلاف من النساء والأطفال وتعرضوا لكافة أشكال العنف الجسدي والنفسي ومن جميع المكونات، عاشوا حالة الخوف والرعب والاعتداء الجنسي بكافة أشكاله على أيدي مرتزقة لا يمكن وصفهم إلا بجهالة أبو جهل، إضافةً إلى ذلك حرمان المرأة من تمثيلها في الدستور وباسم الشريعة، والمشهد كان مقرفاً لدى إعلان الدستور وذلك لوجود وجوه رجال فقط. فكيف سيكون الدستور ديمقراطياً إذا كان محروماً بشكل شبه كامل من صوت المرأة ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين والذي يعتبر قرن حرية المرأة.
السبب الرئيسي الذي يكمن وراء تهميش دور المرأة هو خوف الرجل من فقدان سيادته التي بناها على أساس عبودية المرأة، ولكنّ المرأة الآن صاحبة الدور الرئيسي في كافة مجالات الحياة، ولا يمكنها أن تقف صامتة حول ما يجري بعد كل ما قامت وتقوم به في سبيل نيل حريتها وحقوقها شرعاً وقانوناً. خرج الاستسلام من قاموس المرأة في عصرنا هذا، وقد شهدت ساحات المقاومة هذه الحقيقة.
لم تتوقف آلة التعذيب عن استهداف أي مكونٍ كما هو حال دولة الاحتلال التركي ضد الشعب الكردي في شمال وشرق سوريا والسوريين في سوريا. لقد كان للمرأة دورٌ فعالٌ في صدّ هذه الهجمات ليس العسكرية فحسب بل كافة أنواع الإبادات التي استهدفتها، لذا نجد المرأة صاحبة جهدٍ عظيمٍ في جميع مراحل ثورة روج آفا. المرأة في شمال وشرق سوريا صاحبة القول والعمل، حتى أصبحت مركز جذبٍ لأغلب النساء في العالم من حيث المقاومة والتنظيم والوحدة.
المرأة حاربت داعش واليوم تكافح ضدّ مفهوم الذهنية الجهادية الذي لا علاقة له بالجهاد الحقيقي في تاريخنا كسوريا والشرق الأوسط. المرأة المنظّمة هي التي تنتصر مهما كانت مصاعبها، لأنّ النظام الموجود يحاول بكل الوسائل الانتقام من هذه الروح التي أحيتها بمقاومتها التي لا نجد مثيلاً لها في العالم، وجميع النساء في سوريا شهدن على هذه الحقيقة وخاصة بعد حملة انتصاراتٍ عظيمة ضدّ إرهاب داعش.
أمّا في منطقة الساحل السوري، فهناك مجازر و إبادات بحق النساء والعلويين، هذه المنطقة التي شهدت مقاومات عظيمة ضدّ كافة أشكال الهجمات في تاريخ سوريا البعيد والقريب أيضاً. سمعنا وقرأنا الكثير عن فدائيات في تاريخ منطقتنا، لأنّ ثقافة المقاومة حيّة في كل بيت وقرية وجبل وتلة وساحل، ولا يمكن كسر هذه الشوكة بهذه السهولة، وقد شهدت منطقة جبلة على سنديانة الساحل، الأم التي وقفت بجانب أجساد أبنائها وسَخرَتْ ممن قتلهم، هذه الأم هي من أصل هذه الثقافة التي نبتت عليها جميع الفدائيات على أرض بلادنا. سنديانة الساحل، عنوان لثقافة المقاومة ضدّ الغصب والنّهب والاحتلال، أبهرت هذه الأم العالم بهذه الوقفة التي تحدّت الإبادة.
السنديانة في وطننا تعني الأصل، الجذور التي تنبت من صلب أرض ارتوت بدماء أبنائها وبناتها آلاف السنين، لتزهر عليها شجرة الحياة الحرة، سنديانة الساحل بنت عشتار وخولة، هذه الأم المناضلة الحقيقية في سبيل حياة كريمة. لو تحدثنا عن الجهاد والإيمان، لا يمكن لأحد أن يفوق بالاثنين على سنديانة الساحل ووقفتها التي تدل على كبريائها حتى لو كانت شاهدة على مقتل أبنائها والدماء تغرقهم.
هذه الأم مثّلت حقيقة وروح المرأة التي ثارت في انتفاضة المرأة، الحياة، الحرية لتصبح روحاً حية تنبض في كل تفاصيل حياتنا. المرأة في سوريا وخاصة في شمال وشرق سوريا صاحبة هذه الإرادة الصلبة في تخطي كافة الصعوبات والعوائق التي تواجهها من قبل سلطة الرجل المركزي الذي يتخذ من المركزية عنوان نجاحه. هناك ثورة حقيقية تقودها المرأة وحتى يمكننا القول بأنّها تخطّت مراحل صعبة من تجربتها هذه لأنّها تلعب دوراً حيوياً في ريادة النظام الديمقراطي كما هو موجود في شمال وشرق سوريا.
في الحقيقة لو استطاعت المرأة في عموم سوريا وخاصة في المناطق التي ترتكب فيها مجازر بحقهم بشكل يومي وخاصة العلويين والدروز، أن تنظم نفسها وتجد طريقة الدفاع عن نفسها كما هو موجود في شمال وشرق سوريا، فإنّها ستتمكن من مجابهة كافة أنواع الإبادات، وفي الآونة الأخيرة أعلنت الدرزيات عن تشكيل فصيل لهن للدفاع عن أنفسهن، هذه الخطوة هامة وجادّة لتشكيل كل قرية وبلدة قواتهن للدفاع عن أنفسهن.
هذه المرحلة تتطلب تنظيم ومعرفة عميقة لمواجهة كل المخاطر التي تواجهها المرأة وأولها خطر الإبادة التي تدفع المرأة ثمنها يومياً. للوقوف ضدّ إبادة المرأة يجب علينا التكاتف ضدّ كافة أنواع الظلم والتهميش عبر تشكيل جبهة نسائية تحمل روح سنديانة الساحل في كل شبر من أرضنا، فالمرأة السورية قادرة على تحقيق ثورة حقيقية من خلال الكفاح المستمر والعمل على كافة الصُّعُد لتفعيل دورها في هذه المرحلة التي تتوجه نحو تغييرات جادّة. هذه المرحلة هي فرصة تاريخية للتحول الديمقراطي بريادة المرأة، وسوريا من أكثر البلدان الخصبة في تفعيل السياسة الديمقراطية بقيادة المرأة، حيث فتحت المرأة بنضالها وريادتها الأبواب أمام تحقيق إنجازات ساعدت المجتمع بأكمله على تحقيق حلمه في الحرية والديمقراطية.