ثلاثية “المرأة، الحياة، الحرية” ومقصلة الحداثة الرأسمالية
ثلاثية “المرأة، الحياة، الحرية” ومقصلة الحداثة الرأسمالية
” الدور الأول والأخير يتطلب من المرأة بذاتها،
لأنها الحياة والحرية ومنبع المجتمعية الصحيحة”
هيفيدار خالد
الكتابةُ هي سلاحُنا للكشفِ عن الحقائقِ التي تتطلّبُ تسليطُ الضوءِ عليها، وعلى وجه الخصوص إذا ما أردنا كشف سياسات القوى والنظم الاستبدادية المهيمنة على العالم اليوم، ومن يريد أن يسلبَ من الشعوب إنسانيتها ومن ثم مقدساتها وثقافتها وتاريخها. لذلك حاولت جاهدةً أن أكتب ولو قليلاً عن بعض المصطلحاتِ والكلمات والوقائعِ التي فقدتْ معانيها الحقيقية في ظلّ سياسات النّظم هذه وأولئك المتحكمين بكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في هذا الكون، وكيف يمكن لهذه الحقائق استعادة جوهرها الحقيقي وعلى وجه الخصوص في ظل النظام الرأسمالي والحداثة الرأسمالية.
ثقافة الشرق الأوسط
فالنظامُ الرأسمالي المهيمن نشأ وترسّخ من خلال النهش في ثقافة الشّرق الأوسط العريقة، وصِيغَ له تعريف على أنه نظامٌ اقتصادي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وخلق السلع والخدمات من أجل الربح، وتراكم رأس المال والعمل المأجور والأسواق التنافسية.
إلّا أنّه لدى تحليل هذا النظام الذي تحوّل إلى سرطانٍ مُعدٍ، بكافة جوانبه الغامضة غير المكشوفة، وبات ينخر بالمجتمع الإنساني، سنصل حتماً إلى تعريف آخر له، يُظهره كالثقوب السوداء في فضاء الكون الذي نعيش فيه.
النظام الرأسمالي، وإلى حدّ كبير يشبه الثقوب السوداء في هذا الفضاء الكوني الشاسع، فهي تعتبر أكبر قوة جذب كونيّة معروفة، حيث لا يمكن لأي شيء، ولا حتى الضوء أن يفلت منها، حتى ولو اقترب منها نجم، أو أي جسم آخر ستجذبه وتبتلعه، هذا النظام إذ تحولّه إلى ثقبٍ أسود غامض المعالم يجذب، ويبتلع كلّ شيء يقتربُ منه، ويمتص حتى البعيد عنه تماماً كهذه الثقوب.
إنّه نظامٌ ذو أيديولوجية يتغذى على القتلِ والدمارِ والحروبِ المتواصلة والطويلة الأمد، بالإضافة إلى جرائم الإبادة والتطهير العرقي، وإنكار الحقائق التاريخية الأصيلة للشعوب، والقضاء على ثقافات الجماعات الأهلية، ومبادئ وركائز الديمقراطية الحقيقية، وضرب أعمدة المجتمع السياسي والأخلاقي.
الحروبُ التي دارتْ في التاريخ باسم الاستقلال ومسمياتٍ عديدةٍ أخرى، تحت غطاء الدينِ تارةً، وباسم القوميةِ تارةً أخرى، أصبحت الأرضية الخصبة والأساسية لتطوير هذا النظام، الذي باتْ في وضع يمكنه من خلال الضغط على كبسة زر تدمّر العالم كله، وبما فيه، وكلّ شيء ينبض بالحياة، إنّه النظام الذي تمّ تأسيسه على آلية القمع وسياسات العنف والاستغلال، وهو النظام الذي لا يعرف لذلك حدوداً أبداً.
في ظلّ النظامِ الرأسمالي والحداثةِ الرأسمالية تغيّرَ المفهوم الحقيقي للحياة والحرية. نظام الحداثة الرأسمالية والذي بدأ بالصعود في القرن السادس عشر، وتسرب في أنسجة المجتمع الشرق الأوسطي مستغلاً الوقائع، والحقائق الاجتماعية كالنزاعات الأثنية التي شهدها التاريخ من ناحية القضاء على ثقافة الشعوب العريقة والغنية، والتي كانت تقطن المنطقة، وتترك أثراً سلبياً كبيراً على كل شيء في المجتمع، وفتحَ الطريق أمام عصر مروع من كافة النواحي، مما شكل ضربة قاضية ضد البنية الذهنية الاجتماعية العظيمة العريقة، التي تشكلت آنذاك وخاصة فيما يتعلق بحقيقة المرأة والحياة والحرية.
ففي ظلّ النظامِ الرأسمالي والحداثةِ الرأسمالية تغيّرَ المفهوم الحقيقي للحياة والحرية، فبات من الضرورة بمكان، أن نبحثَ في الأسباب الحقيقية التي ساعدت في ذلك، لمعالجتها ووضع الحلول الجذرية لها، ومنها التضخم السكاني الكبير، والدمار والخراب الذي يلحق يومياً بالبيئة بشكل متواصل، والتصدعات الاجتماعية الناتجة عن مشاكل عديدة في الحياة، والتي أصبحت بلا حدود في وقتنا الراهن.
أمّا الروابط الأخلاقية المتحطمة، وانقطاع الحياة عن الزمان والمكان، والحياة المفتقدة لمعانيها وأصالتها تحت وطأة الصراعات الكبيرة التي يشهدها العالم، الذي يعيش حروباً جديدة لا متناهية، وأخطاراً وجودية متصاعدة، حيث تنتشر ترسانات الأسلحة النووية، والتي بإمكانها تحويل العالم خلال ثوانٍ إلى دمارٍ وخراب.
قضيةُ المرأة، الحياة، الحرية
من أهم القضايا التي يجب معالجتها، ووضع تحليل دقيق وسليم لمعانيها الحقيقية، في ظلّ النظام الرأسمالي والحداثة الرأسمالية، بعد أن فقدَت هذه الثلاثية قدسيتها، وجردت من كافة معانيها الإنسانية، بينما كانت فيما السابق فلسفة قدسية وأبدية للإنسانية جمعاء.
بالطبع كل هذه العناوين المهمة لا بّد من البحث في ثناياها الحقيقية، وتعدُّ قضيةُ المرأة من القضايا الأساسية في المجتمع، والتي تحتاج إلى إيجاد تحليل عميق يخرجها من معترك الحياة التي تعيشها في ظل النظام الاستبدادي العالمي، الذي يتحكم فيها كيفما يشاء، مستغلاً قوته وسيطرته المطلقة ونفوذه وماله، ورغم أن المشاكل التي تعانيها المرأة تتشابه في معظمها سواء في الشرق أو الغرب، إلّا أنّها حتى الآن لم يتمْ وضع توصيفٍ دقيقٍ لقضيتها، أو حلٍّ جذريٍّ ينقذها ممّا هي فيه.
المجتمعات الغربية والشرقية جميعُها على حدٍّ سواء، أهملت المرأة وقضيتها، وفتحت المجال أمام الرجل ليستلم زمام المبادرة في شؤون الحياة كافة، والذي أظهر تفوقاً فيما يخصّ القضايا العامّة على حساب قضايا المرأة وشؤونها، فباتت قضاياها في المرتبة الثانية، تحت سطوة الرجل وهيمنته وأفكاره ومشيئته، لتقاد المرأة وراءه مسلوبة الإرادة من دون حول منها ولا قوة.
أيديولوجية النظام الرأسمالي، والحداثة الرأسمالية
إنها الأيديولوجية المستعدة للتضحية بثقافة الشعوب، التي يبلغ عمرها آلاف السنين مقابل منفعة يومية صغيرة، خلقت أرضية قوية لذاتها لاستغلال المرأة في شتى مجالات الحياة المتعددة.
حيث إنّ الصورة الأكثر وضوحاً للمرأة في ظل النظام الحداثة الرأسمالية، هي ساحة الإعلانات التي تعرض على شاشات القنوات التلفزيونية، والتي جعلت المرأة سلعةً تباع وتشترى، ولكلِّ جزءٍ من جسدها سعرٌ خاصّ به، هذا تحديدًا ما يمكن أن يفهم منه، بأن عبودية المرأة أصبحت قوةً عملاقة رئيسية تضخ روح الحياة الحداثوية وفق منظور الرأسمالية.
ولأن النظام الرأسمالي مؤسَّس على فلسفة الاستهلاك والاستغلال، استغل المرأة بالدرجة الأولى كونها بالنسبة له السلعة التي لا يمكن الاستغناء عنها، سواء في مجال إنجاب الأطفال أو تقديمهم للحروب، مفتقداً إيّاها بذلك المعنى الحقيقي للأمومة في المجتمع، أو المتاجرة بها حسب ما تمليه مصالحه ورغباته، مثلاً قول أشياء من قبيل إنّها ضعيفةٌ، ولا تصلح أن تكون في مراكز قيادية وسياسية في الحياة العامة.
المرأة في منظور الأنظمة الرأسمالية
الرأسمالية من خلال جذب المرأة إليها جردتها من جوهرها الحقيقي، وجردت معها حياتها من كلّ شيء جميل ومقدس، لتشكل لها شخصية بعيدة كل البعد عن ذاتها وواقعها وكيانها الذي تعيشه تماماً. في الوقت الذي لا تعرف فيه قيمة جهد الأم وكدحها، تقوم الأنظمة الرأسمالية بتوجيه تعليمات للأمهات من تعيين لعدد الأطفال الذين ستنجبهم إلى استغلالها في الكثير من المرات، فهي القوة العاملة الأرخص في ظل تلك الأنظمة، حيث يُستغلّ كدحُها وعرق جبينها بتشغيلها في أصعب الأعمال مقابل أجر زهيد، وخداعها بالمقابل بمفهوم الحرية الزائف، بالقول “كل شيء متاح ومفتوح أمام المرأة، يمكنها أن تطوّرَ ذاتها في أي مجال تريده “، إلّا أنّ الحقيقة هي أن المرأة بهذا الانفتاح قد انفتحت على الاستغلال، وبمعنى آخر ما فتح المجال أمامه هو الاستغلال وليس المرأة.
فالرأسمالية من خلال جذب المرأة إليها جردتها من جوهرها الحقيقي، وجردت معها حياتها من كلّ شيء جميل ومقدس، لتشكل لها شخصية بعيدة كل البعد عن ذاتها وواقعها وكيانها الذي تعيشه تماماً، أي إن كانت بيولوجياً امرأة، فهي مسترجلة (الرجولية السلطوية) من الناحية الذهنية.
وإنّ الرأسمالية تستطيع تقمّص كل الألوان والأشكال، ولا سّيما في خداع المرأة التي من خلالها تضمن نظامها الاستثماري، وبذلك كانت الرأسمالية من أكثر الأنظمة السلطوية، التي تترسخ فيها عبودية المرأة والقضاء على جوهر حياةٍ هي من أجادت أدواتها في البدايات، ولا يُعقل أن تواصل المرأة العيش في هذه المتاهة.
التمييز العنصري ضد المرأة
وينتشر اليوم خطاب محشو بالكثير من التمييز والعنصرية القاسيين، أصبحنا في عصر يشجعون فيه بترسيخ الذهنية الذكورية، ويباركون للرجال غزواتهم ضد المرأة، ودائماً ما يتم تحميل النساء مسؤولية كلّ الذي يحصل في الحياة الزوجية، ويتم اتهامهن بكلّ الأخطاء والمشاكل التي تحصل ضمن الأسرة، وكأنها يجب أن تُحاسبَ فقط لأنّها امرأة، ويجب أن تقبل كلّ شيء يفرض عليها، ويطبق بحقها.
والسؤال الأبرز هو أين يكمن المخرج من الوضع الحالي؟ المرأة اليوم بحاجة لثورة فكرية أكثر من أي وقت مضى، فرغم الجهود الجبارة من قبل العديد من النساء والمنظمات النسوية المدافعة عن قضية المرأة، والتي تسعى جاهدةً لخلاصها، وتحريرها من كلّ ما تتعرض له، إلّا إنّ قضيتها حتى الآن بانتظار إيجاد الحلول الجذرية، والوصف والتحليل الدقيق الذي يُمكِّنُها التحرر من ممارسات النظام الرأسمالي وانتهاكاته بعد أن باتت بين فكي كماشته… فالنساء ومن خلال نضالهن المشترك، وحدهن اللواتي يستطعن رسم طريق خلاصهن من هذا النظام الذي يتربَّص بهن الدوائر.
فلسفة المرأة، الحياة، الحرية
تكمن المهمة الأساسية والتاريخية للمرأة بذاتها ألا وهي: أن تعطي المعنى الحقيقي لفلسفة المرأة – الحياة – الحرية. تبدأ الحياة مع المرأة المتحررة فكرياً وسيكولوجياً وعليماً. هنا الدور الرئيسي لا يكمن في قضية المرأة كفرد، بل الجوهر الحقيقي يكمن في المرأة، التي تمثل الحياة والحرية بمعناها الحقيقي، فالمرأة هي المجتمع، وبدون المرأة المتحررة فكريا لا معنى للحياة الحقيقية، ولا وجود للحرية المجتمعية.
وعلى هذا الأساس: يتطلب تحليل ذهنية الحداثة الرأسمالية، والغوص في أعماقها على أنّها العدو اللدود للإنسانية كافة، وللمرأة بشكلها الخاص، واسترجاع ثقافة الحياة العظيمة، التي قادتها المرأة منذ بداية التاريخ للمجتمع قبل أن تجردها الحداثة الرأسمالية من معناها وجوهرها بأيديولوجية رجعية.
فذهنية الرأسمالية التي تغذي ذاتها بآلات الحرب الخاصة، التي تديرها وتحاول من خلالها قمع الشعوب من جذورها، وبالتالي القضاء على حياة المرأة، ونضالها التحرري الذي تخوضه. وهي تهدفُ إلى إنهاء ميراث، وثقافة المقاومة التي كانت ذات مكانة تاريخية لدى الجماعات الأهلية، والشعوب الأصلية في المنطقة.
من هذا المنطلق فإن الدور الأول والأخير يتطلب من المرأة بذاتها لأنها الحياة والحرية ومنبع المجتمعية الصحيحة. بدونها لن نستطيعَ التحدّث عن المرأة الشرق الأوسطية الحرة. المرأة، الحياة، الحرية تكمن في جوهر تلك المرأة المتحررة من مقصلة الحداثة الرأسمالية.