أهمية جهود ونضال المرأة في خلق الثورة الاجتماعية الشاملة

أهمية جهود ونضال المرأة في خلق الثورة الاجتماعية الشاملة

“لكي يتم وضع حلول جذرية للقضايا العالقة في الشرق الأوسط

نحتاج فعلياً إلى إحداث نهضة شرق أوسطية”

جيهان خليل

 

تعتبر قضية العدالة الاجتماعية من أهم القضايا التي يدور حولها النضال في الأوساط المناهضة للنظام الرأسمالي، وتشغل بالأفراد والمجموعات التي تناضل من أجل تغيير شكل الحياة التي نعيشها في عصرنا الحالي. فإن نظرنا حولنا وتأملنا في عمق الشرخ الذي لا ينفكّ يزداد بين كل من الأضداد الثنائية المتمثلة في السلطة والشعوب، البيئة والبشر، الرجل والمرأة نستطيع أن نرى حجم الخطورة التي تواجهنا، وأن نضع أيدينا على المصدر الأساسي للأزمة المتجذرة منذ آلاف السنين.

قضية العدالة الاجتماعية مرتبطة بشكل وثيق بجملة من القضايا والأزمات البنيوية التي ما زالت تفتك بالمجتمعات. فالتلوث البيئي الذي بات يدق ناقوس الخطر بانتهاء الحياة، والحروب التي تشنها الأنظمة ضد شعوبها، وقضايا التهجير والعنف الممنهج، والقضايا الاجتماعية المتأزمة، وعلى رأسها قضية المرأة أصبحت على قدر من الأهمية بحيث لا يمكن غض النظر عنها. ولا يمكن تحقيق الوعي المجتمعي إن لم يتم فهم هذه القضايا وربطها ببعضها ككل متكامل، وتحليلها بحيث تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى. هنا يمكننا التأكيد إن القضية الأم من بين هذه القضايا هي قضية المرأة حين يتم تحليلها سيمكننا حل مجمل القضايا.

مؤسسة العائلة

قضية المرأة ليست وليدة عصرنا الحالي، بل تمتد جذورها إلى ما يقارب 5000 عام. في مرحلة الانتقال من المجتمع الطبيعي البدائي القائم حول قيم المرأة الأم والإلهة إلى المجتمع الطبقي الأبوي البطرياركي، وذلك بعد حدوث الثورة الزراعية وتراكم فائض الإنتاج، وتولد الحاجة إلى حماة المخازن والرجال (الحكماء – الماكرين) الذين طوروا المنظومة إلى بناء السلطة العليا المنفصلة عن عامة الشعب والمتحكمة بمصيره، ومنها نتجت أجهزة الدولة والقمع بشكلها الحالي. من تلك النقطة فقدت المرأة مكانتها وتحولت من كونها إلهة مقدسة إلى كونها كائناً ملعوناً، وكان كل تمرد أو مقاومة من النساء على القوانين التي تتحكم بذواتهن تقابَل بعنف لا مثيل له من قتل وحرق وحرمان من كافة حقوقها الإنسانية.

الأديان التوحيدية

مع ظهور الأديان التوحيدية، أصبحت المنظومة أكثر رسمية وقداسة وغير قابلة للنقاش أو الطعن تحت مسمى المحرم إلهياً. ومنذ ذلك الحين تشكلت صيغة مؤسسة العائلة المتعارف عليها بشكلها الحالي في مجتمعاتنا، ولم تتطور أو تتحول بتحول الزمن وتشكل الحضارات وتقدم الأمم، بل بقيت مؤسسة العائلة محافظة على هرميتها وتعززت أكثر مع التقدم الزمني. وأصبحت هذه المؤسسة صورة مصغرة عن جهاز الدولة الهرمي، فتتألف من الأب الذي يمثل الحاكم ومالك العائلة والسلالة مسماة باسمه، والأم والأبناء

يمثلون القاعدة الخاضعة لقوانين الحاكم بأمر من الدولة وأعراف المجتمع وتقاليده. قد لعبت الأديان التوحيدية دوراً هاماً في وضع قوانين على التقاليد الذكورية إلى حد اعتبار المرأة كائناً ناقص عقل، فتم وضع قوانين تضعف شأن المرأة وتجعلها أسيرة المنزل وضيقة الآفاق ووعاءً لتفريغ الشهوات وآلةً لإنجاب الأولاد فقط. فحُرمت من الاستقلال الاقتصادي، وسلبت من كيانها الاجتماعي والسياسي، وأصبحت إنساناً من الدرجة الثانية في كافة مجالات الحياة. وبقيت مؤسسة العائلة محافظة على شكلها التقليدي إلى عصرنا الحالي، ففي بلدان العالم الثالث لم يطرأ أي تغيير يذكر، أما في الغرب كان دور التطور الذي أحدثه النظام الرأسمالي سلبياً أكثر، حيث جعل من المرأة مادة للتسليع تحت مسمى الحريات الفردية، وتشجيع الحركات الفامينية وغيرها من الحركات الأناركية الخارجة عن المسار الطبيعي، وانتشار الفوضى العارمة في المطالب ونشر القناعات اللامنطقية حول تشكيل مؤسسة العائلة.

كثيراً ما يقال إن حال المجتمعات المضطهدة يشبه حال المرأة إلى حدّ كبير، وهذه المقولة الهامة تدفعنا إلى الجزم بأن عملية تحرير المجتمعات مرتبطة أساساً بعملية تحرير المرأة، لا بل تمرّ الأولى من خلال الأخيرة. ولمّا كانت القوى المهيمنة وما أنتجته من أنظمة فاشية وأوليغارشية تعرف تماماً هذه الحقيقة، وتبني أجنداتها التحكمية اعتماداً على معرفتها المسبقة بما تجهله المجتمعات.

فقد تم وضع تعزيز العنف ضد المرأة على رأس قائمة الأجندة الهادفة إلى القضاء على وعي المجتمعات، سواءً كان هذا القضاء ذهنياً بإتباع أساليب التجهيل والاستعباد المرن، أو فيزيائياً بارتكاب جرائم الإبادة والتطهير كما تفعله الآن الدول بحق الشعوب.

منذ أكثر من عشرة أعوام بدأت ثورة الشعوب في روجآفا (غربي كردستان) وشمال وشرق سوريا. وتأسس نظامٌ بديلٌ عن نظام الدولة المركزية، حيث قامت شعوب المنطقة ببناء الإدارة الذاتية التي تتخذ من الديمقراطية المباشرة والوعي البيئي وحرية المرأة ركائز أساسية لها. وتأتي هذه الإدارة تطبيقاً لنظرية الأمة الديمقراطية التي طرحها القائد والفيلسوف الكردي الأممي عبد الله أوجلان في مرافعاته خلال فترة أسره في تركيا من قبل النظام العالمي منذ خمسة وعشرون عاماً.

مشروع الإدارة الذاتية

تميّز مشروع الإدارة الذاتية بالدرجة الأولى بطريقة تناوله لموضوع تحرر المرأة وربطه بتحرر المجتمع كركيزة مهمة إلى جانب تركيزه على تحرر الطبيعة من سلطة البشر بتعزيزه للمفاهيم الإيكولوجية. والخطوات العملية التي ظهرت للعالم في هذا المجال متمثلاً في دور المرأة عسكرياً وسياسياً واجتماعياً باتت محط إعجاب العديد من الفلاسفة والمعرفيين حول العالم، بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني والحركات النسوية والشعوب التي أصبحت صديقة للشعب الكردي حول العالم. وما هذا التعاطف الكبير والشامل منقطع النظير الذي ظهر أثناء الحرب التركية على مناطق الإدارة الذاتية إلا دليلٌ جازمٌ على أن الهدف المفضوح من هذه الحرب هي طمس معالم الديمقراطية والتحررية، والحفاظ على أجهزة القمع والعنف والتحكم بالموارد الطبيعية والوعي المجتمعي على حد سواء.

ثورة روجآفا

أحدث ثورة روجآفا نقلة نوعية في تاريخ النضالات المتقطعة في الشرق الأوسط، فجددت الأمل لدى الأوساط اليسارية والتقدمية المناهضة للحداثة الرأسمالية، وأصبحت مصدر إلهام لآلاف المناضلين، ومئات الحركات التحررية والقوى الديمقراطية العالمية. فهي تعتبر ثورة ذهنية اجتماعية شاملة بطليعة المرأة والشباب، وتستمر بكفاحهم وتعتمد على طاقاتهم في إحداث التغيير والتحول المطلوب. اعتمد القائد عبد الله أوجلان على أسس متينة لبناء فلسفته، وأكد على أنه لا يمكن تحقيق حرية المجتمع إلا من خلال حرية المرأة أن مدى الوعي المجتمعي، يتناسب طرداً مع مدى وعي المرأة وإشراكها بقوة في إدارة كافة مجالات الحياة، بدءاً من مؤسسة العائلة وانتهاء بقيادة المجتمع.

وفي هذا السياق طرحت الإدارة الذاتية التي كانت النتاج الأبرز لثورة روجآفا – شمال وشرق سوريا جملة من القوانين المدنية التي من شأنها أن تكون بديلة للقوانين المستمدة من الشريعة والمعتمدة لدى النظام الحاكم لترويض العائلة، وجعلها النواة التي تبدأ منها منظومة الاستعباد. من جملة القوانين تلك؛ هي القوانين المنظمة للأسرة وإعادة تقييم مكانة المرأة فيها، وضمان كيانها الخاص في بناء ما سماه القائد عبد الله أوجلان بـ “الحياة الندّية الحرة”. حيث تتم إعادة صياغة قانون الأحوال الشخصية، وأزيلت منها بعض المواد الجائرة بحق المرأة مثل منع زواج القاصرات ومنع الطلاق من طرف الرجل، وفرض المساواة في الميراث وتجريم العنف الزوجي، ومنح المرأة حق حضانة أطفالها، ومنع تعدد الزوجات أسوةً بالدول التقدمية التي تعتمد الأصول المدنية، وفتح المجال أمام المرأة للمطالبة بحقوقها في مجالس العدالة المستقلة الخاصة بالنساء، وإنشاء دور للنساء المعنفات ومراكز لحمايتهن، حتى وصل بهن الحال إلى بناء قرية نسائية بيئية نموذجية، لاستقبال حاجة النساء بالابتعاد فترة مؤقتة عن محيطها، لإعادة ترتيب حياتها واكتساب مهنة لتحقيق استقلالها الاقتصادي.

إلى جانب ذلك شجعت الإدارة الذاتية الحركات النسوية في تنظيم نفسها في المدن والقرى كشبكة عنكبوتية تستهدف جميع شرائح المجتمع، وتلعب دوراً توعوياً بالدرجة الأولى. أما في المجالات السياسية والعسكرية والثقافية، فقد كان للمرأة دوراً فعالاً لا بل طليعياً في حمل السلاح والدفاع عن الجغرافيا المجتمع، وكسر شوكة أعتى تنظيم إرهابي عرفه التاريخ الحديث المتمثل بتنظيم داعش الإرهابي.

كما فتحت القوانين التي تسمح للنساء بأخذ مكانهن في المجالس المحلية، والبرلمانات والبلديات بنسبة تمثيل تصل إلى 50%، وممارسة حقها في إدارة المؤسسات وفق نظام الرئاسة المشتركة، لكسر الأعراف التي تمنح هذا الحق للرجل وحده في تولي مناصب الإدارة والأحزاب السياسية.

القضايا العالقة في الشرق الأوسط

بالتأكيد عملية التحول البنيوي لن تكون سهلة في خلق مجتمع سياسي أخلاقي متحرر، ويتطلب من الجميع بذل الجهود، ومراكمة النضالات عبر السنين للعمل على خلق جيل ثوري جديد يترعرع على القيم الجديدة والمتجددة، وينبذ كافة المفاهيم الخاطئة التي أودت بالمجتمع إلى الانحطاط والتخلف. فإذا نظرنا إلى مكتسبات ثورة روجآفا نرى أنها قد خطت خطوات تقدمية عظيمة، ولكنها لم تصل إلى المستوى الذي يحدث التحول البنيوي بعد، فكما أشرنا ذلك يتطلب عملاً مستمراً متجدداً، وكفاحاً عملياً ضد كافة أشكال العنف والسلطوية.

وقد تم وضع حلول جذرية للقضايا العالقة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الحروب الوجودية التي ستحدد فيما يأتي شكل العالم الجديد، نحتاج فعلياً إلى إحداث نهضة شرق أوسطية. حيث لن يكون العمل على هذه النهضة بالأمر السهل، وتقع المسؤولية التاريخية بالدرجة الأولى على عاتق الشعوب المضطهدة، والدور الطليعي يقع على عاتق كتلة النساء في تلك الشعوب. وذلك لأن التعصب الجنسوي يأتي كركيزة أساسية لإيديولوجية الأنظمة الحاكمة، ومن خلالها يتم تطبيق جميع أنواع التحكم السياسي والاقتصادي والاجتماعي على الشعب. وعندما يتم مناهضة التعصب الجنسوي يُفتح المجال أمام التخلص من جميع أنواع التعصب الأخرى كالتعصب الديني والتعصب القومي والطائفي وغيرها من المشاكل المتجذّرة.

وفي هذه النقطة بالذات يجب أن تكون القضية عابرة للحدود والقارات، ويتحقق اتحاد النساء حول العالم، ويتعزز ذلك الشعور بأن جميع نساء العالم هنّ كامرأة واحدة، ويتركز العمل الجادّ حول تحويل العصر إلى عصر المرأة من خلال مناهضة المؤامرات الخبيثة التي تُحاك من قبل القوى المهيمنة بهدف تعميق الذكورية وتجذير السلطة الأبوية في الشرق الأوسط. وكذلك مناهضة الحركات النسائية المنحرفة عن مسارها بفعل المؤامرة لتشويهها تحت مسميات الفامينية المزيفة.