الإرادة الحرة سبيل المرأة للخلاص من براثن الذهنية الذكورية

الإرادة الحرة سبيل المرأة للخلاص من براثن الذهنية الذكورية

“الشرط الأساسي للحياة النِدّية الحرة

هي الإرادة الحرة لكلا الجنسين

فمن دونها لا يمكن تحقيق حياة حرة،

 أو نموذج حقيقي عن العائلة الديمقراطية”

هيفيدار خالد

تعد العائلة بمفهومها الحالي نموذجاً مصغراً لمؤسسة الدولة القائمة منذ مئات السنين، بطابعها الذكوري البحت، الذي ترسّخ وَفق مفاهيم معقدة للغاية في المجتمع، وسيكون من الصواب إذا تطرقنا إلى هذا الموضوع عن قرب نجد إن جذور المشاكل والقضايا الاجتماعية الراسخة في العائلة ناجمة عن شكل العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، ونمط الحياة الذي أُرغما عليه، وترسخ بينهما وفق مفاهيم خاطئة، بعد أن حولت مؤسسة الدولة المرأة إلى ملكيةٍ خاصة للرجل والعائلة التي أُنشئت وتشكّلت بذهنية ذكورية ضمن منظومة أبوية، عملت على تحريف علاقة الرجل والمرأة عن مسارها الحقيقي في الحياة، بعد أن كانت قائمة على أساس الكدح والعمل والاحترام المتبادل والأخلاق في المجتمع الذي أطلق عليه المجتمع الطبيعي وطغى عليه طابع وثقافة (الآلهة – الأم) بشكل بارز.

أنشأت الدولة منظومتها الأبوية مستندةً على مؤسسة العائلة وترسخت أكثر بإيجاد الرجل أساليب نصب المصايد والحيل في الصيد بهدف البحث عن فريسة يصطادها، هذه المصايد التي استخدمها الرجل، هيأت أرضية ملائمة لتأسيس الذهنية الذكورية التي عززت الذكاء التحليلي له بشكل أكبر، وكانت السبب في لجوء الرجل إلى التكتيكات في انتقالاته آنذاك، وبالتالي نمت فيه رغبة الزعامة والسلطة منذ ذلك الوقت.

 

العائلة هي نواة المجتمع

بهذه الأساليب الرخيصة تمَّ تهميش دور المرأة في العائلة، ومن ثم المجتمع وتفوق الرجل عليها، وتحولت بشكل تدريجي إلى ملك خاص للرجل. أصبحت مؤسسة العائلة تحت هيمنة الرجل بشكل كامل، ورويداً رويداً ساهم نموذج العائلة هذا في ولادة مؤسسة الدولة الحالية، الذي يحمي نظامها المتكأ على هذه الذهنية. لذا يمكننا القول إنَّ العائلة هي النواة التي نظمت الدولة نفسها داخلها، وحاولت إنكار نضال المرأة وحقيقتها، حتى في الكثير من الأحيان يتم تعريف المرأة بتعريف الرجل (كأن يقال زوجة فلان أو ابنة فلان أو أخت فلان…)، وكأن الرجل هو الأساس، كما ساهمت الميثولوجيات، والقصص والملاحم التاريخية والكتب الدينية في ترسيخ هذه النظرة للمرأة.

حيث نجد في رواية “خلق المرأة من ضلع الرجل في قصة آدم وحواء” تعبير واضح عن هذه الحقيقة التي تفيد بأن المرأة جزء من الرجل. كل الأديان التي ظهرت نصّت في تشريعاتها وأيديولوجيتها بأن المرأة ناقصة عقل وجزء من الرجل، أو أنها تكمل الرجل ولا تساوي شيئاً من دونه، ولا تستطيع العيش لوحدها، فوجودها مرهون بوجود الرجل، وعلى هذا الأساس طوّروا نظرياتهم وأطروحاتهم الذكورية.

تلك المرأة هي نفسها التي اخترعت الأدوات الزراعية واهتمت بالطبيعة، فخلقت مقومات جديدة للحياة من حولها، أما الرجل القادم من الصيد استحوذ على اختراعات المرأة وحولها إلى مؤسسة لإعلان سلطته ضدها، وجعل من الأطفال والمرأة ملكاً خاصاً به، وهكذا مع ولادة مؤسسة العائلة تم نسب المرأة وإنجازاتها والأطفال إلى الرجل.

بعد أن عرفت المرأة الأدوات الأولية التي تحتاجها لاستمرار الحياة، وابتكرت آلات الزرعة ووسائلها أصبحت صاحبة دور بارز في تاريخ الإنسانية، إلّا أن سياسات السلطة الأبوية ذات التوجهات التمييزية والتقليدية السائدة، جعلت المرأة أسيرة سياسات الرجل وذهنيته السلطوية، فباتت مكبلة دون حول منها ولا قوة.

 

السلطة الأبوية

المرأة في حقيقتها صاحبة قوة وطاقة كبيرة لا تنفد، إلا أن الحدود التي حددتها ورسمتها مؤسسة العائلة والرجل لها جعلت شخصيتها في قوقعة قالب واحد يصعب الخروج منه، أي كونت شخصيتها وصاغت كيانها بذهنية النظام الذكوري. المقاربات التي تبدى لطفلين أي لفتى وفتاة في المجتمع مختلفة، فما يتم رسمه من حدود وقوالب للفتاة منذ طفولتها يتم تجاوزها بل نسفها في بعض الأحيان. إذا ما كان الأمر نفسه متعلقاً بالفتى ما ساهم في حدوث التمييز بين الجنسين.

حتى من خلال اللعب أو الدمى التي يتم تخصيصها للجنسين هناك تمييز متعمد، وخاصة إذا ما كانت فتاة فيتم تربيتها وتعليمها ضمن ما يخططون له، وما يجب أن تكون عليه ما يضمن عدم خروجها عن ذلك الإطار. مع فرض هذه الثقافة منذ الطفولة تصبح الفتاة على قناعة بأن وجودها مرتبط بوجود الرجل، فينشأ بذلك جميع أفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً بثقافة وذهنية الرجل، أي إضفاء طابع الذهنية الذكورية للجنسين معاً. لا يمكننا القول بأنها خطيئة العائلة فقط، بل هي نتاج ذهنية النظام السلطوي والدولة المركزية.

النظام السلطوي يغفل متعمداً ما يدور في فلك العائلة من هيمنة طاغية للذهنية الذكورية التي هي بالأساس من إنتاجه، متجاهلاً إن من شروط الحياة الحرة إحياءَ العلاقة فيما بين الرجل والمرأة بالشكل الصحيح. ذلك من خلال لعب المرأة دورها الأساسي والطليعي في بناء مجتمع ديمقراطي وأخلاقي وسياسي. قادر على تلبية كافة حقوق المرأة ومطالبها في الحياة بعيداً عن التحيز للرجل وأيديولوجيات النظام الذكوري.

يتناسى النظام الذكوري حقيقة أن الحياة الندّيّة المشتركة بين المرأة والرجل، هي السبيل الوحيد لخلق مجتمع أخلاقي ديمقراطي تسوده العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، أي يشترك كل من الرجل والمرأة في جعل هذه القضية ضمن أولوياتهما. لكن الرجل الذي جُبِلَ عل التملص من هذه الحقيقية الواضحة كوضوح الشمس دائماً وأبداً. لا يدرك حجم العبودية الغارق فيها والتي تعادل حكم السلطة التي يتحلى بها، فخلق حياة حرة يقع على عاتق الجميع. إلا إن المرأة هي السباقة إلى ذلك فلطالما حملت على عاتقها خلق حياة حرة يسودها العدل والمساواة، لأن قضية الحرية مرتبطة بالمرأة، فبقدر إدراكها لعبوديتها وبقدر نضالها الدؤوب من أجل نيل حقوقها الأساسية في الحياة، ستساهم في تطوير وتقدم المجتمع، فالمرأة تمثل الحياة بذاتها وتمثل المجتمع بأكمله.

وإذا أراد الرجل فهم ما يدور حوله من حقائق غيِّبت عنه طوال هذه الأزمان، يجب أن يطرح على نفسه بعض الأسئلة، وليواجه ذاته ويتساءل ما طبيعة الحياة التي يريدها وكيف يريد أن يعيش؟ اللامبالاة هذه ناتجة عن شخصيته التي اعتادت على السلطوية منذ الطفولة، إذ اعتاد على كيفية فرض سلطته كونه صاحب القرار الأول والأخير في العائلة. بدافع من الوالدين وعلى من حوله الرضوخ للقرارات التي يتخذها، لذلك فهو يسعى أن يكون على هذا الشكل الذي اعتاد عليه في جميع ميادين الحياة، وليس فقط ضمن العائلة.

إلا أن هذه الذهنية الذكورية المعتادة لا يمكن للرجل التخلي عنها بسهولة، طالما بقي يرزح تحت أوهام السلطة والتملك وحب الذات، ولا مناص من ذلك ما لم يدرك مدى عبوديته ويستوعب النتائج التي تفرزها السلطة الذكورية من الدمار، ويفهم بأن المرأة عانت آلام السلطة بأقسى أشكالها منذ آلاف السنين. وبأنَّ وضع الاستسلام واللاإرادية التي تعيشها اليوم هي نتاج سياساته وذهنيته ومخططاته حينها بالتأكيد يستطيع إجراء التغيير. وهذا يتطلب نضالاً حقيقياً، ومعرفةً وقراءةً صحيحة للتاريخ من كلا الجنسين. من خلال إبداء المسؤولية بهذا الخصوص والإيمان بضرورة تحقيق حرية المرأة، هذا الإيمان والثقة سيساهمان في إجراء تطورات كبيرة تصب في خدمة المجتمع وتطويره، وبالتالي تخليصه من براثن الرجعية والهيمنة الذكورية السلطوية.

 

الحياة النِدية

التكاثر، والدفاع، والعيش، العناصر الثلاثة الأساسية التي تناولها القائد عبد الله أوجلان في مرافعاته الأخيرة لاستمرار الحياة ضمن إطار الحق في الحياة والحق في المساواة والحق في عدم التعرض للتمييز. إلا إن الرجل حلل موضوع التكاثر بشكل خاطئ، وحوّله من وسيلة لاستمرارية الحياة، إلى هدف لتعميق عبودية المرأة، حيث إن الكثير من القضايا الاجتماعية المتفاقمة في المجتمع اليوم، إنما تستمد مصدرها من هذه الفرضية.

الحياة الندية الحرة والتكاثر والدفاع هي أمور فطرية لدى الإنسان. إلا إن كل هذه الأمور تحولت من قبل النظام الرأسمالي إلى وسيلة من أجل إشباع الغريزة وإبعاد الإنسان من جوهره، وربط كل فكره وإرادته بالإثارة الجنسية من خلال استخدام المرأة كوسيلة للترويج للبضائع، وإبراز الجانب الغريزي والحث على ممارسته بشكل يومي، وفي حال عدم القيام بذلك ترتكب الجرائم، وحالات العنف ليبقى المجتمع في إطار ما رُسِم له، فخروجه من بوتقة هذه الممارسات قد يفقد تلك الأنظمة السيطرة عليه.

انعدام الثقة بين الرجل والمرأة يعود لطبيعة العلاقة التي رسمت لهما، والتي وجدا نفسيهما عليها بهذا الشكل. كل الشبهات والشكوك التي تتولد لدى الطرفين مصدرها القضية الجنسية التي تحولت إلى عقدة عمياء بعيداً عن هدف ضمان الوجود وعدم الانقراض كما هو الحال لدى كل الكائنات الحية الأخرى. ذلك نتيجة سياسة النظام الرأسمالي التي حولت تلك القضية إلى ممارسة يومية، تماماً كما خُطط له، لكن الإنسان عبارة عن وجود وفكر وإرادة وإحساس وشعور، وهناك جوانب في الحياة يمكنه من خلالها الإحساس بوجوده لتجاوز هذه العقدة، وتحقيق حياة ندية حرة بين الرجل والمرأة.

لذا؛ على المرأة قبل دخولها مؤسسة الزواج تقوية إرادتها، وتوعية ذاتها والاطلاع على حقيقة الرجل بشكل جيد حينها تستطيع عقد علاقة معه، فإذا ما شاركت الرجل بغفلة ومن دون اطلاع وبجهل والاستسلام للأمر الواقع. عليها أن تدرك أنها ستكون وجهاً لوجه أمام سياسات وانتهاكات النظام السلطوي فكيفما تقوم الدولة بفرض هيمنتها على المجتمع بأكمله، فالرجل أيضاً سيقوم بالشيء ذاته في مؤسسة العائلة.

 

النضال ضد العبودية

لتحرير المجتمع من كل هذه السياسيات والممارسات السلطوية. يتطلب من المرأة لعب دور بارز ومؤثر وإثبات وجودها بإرادتها الذاتية في هذا الخصوص، وخوض نضال حقيقي وأيديولوجي في وجه فِكر الدولة التي تهدف دائماً وأبداً إلى ترسيخ التخلف والرجعية والعبودية في شخص المرأة، وأن تكون في حالة نضال ذاتي دائم مع ذاتها، للتخلص من تداعيات سياسات النظام السلطوي الذكوري وذهنيته. بالمقابل على الرجل أيضاً أن يحرر نفسه من الشخصية السلطوية، فالنضال ضد السلطوية يعني النضال ضد العبودية. إذ إن على المرأة والرجل كليهما خلق حياة توافقية مشتركة تساهم في خلق الإرادة الحرة، أي ألا تقوم إرادة بغصب الإرادة الأخرى، ليتم بذلك تجاوز نظام العائلة المتشكلة على أساس الملكية، وإحلال مكانها حق الاختيار الحر والجمع بين إرادتين حرتين معاً.

إذاً الشرط الأساسي للحياة الندية الحرة هي الإرادة الحرة لكلا الجنسين. فمن دونها لا يمكن تحقيق حياة حرة أو نموذج حقيقي عن العائلة الديمقراطية التي نسعى لتحقيقها في المجتمع، لأن شكل العائلة الحالي هو البؤرة الوحيدة التي من خلالها يتم استغلال المرأة ونضالها وكيانها ويتم اغتصاب حريتها وحياتها. لذلك فإن تحقيق العائلة الديمقراطية الحرة يمر من خلق فرد حر، ومن ثم خلق امرأة حرة قادرة على إدارة نفسها بنفسها. وبالتالي إدارة المجتمع وضرب كل ما من شأنه الحد من خلق حياة حرة كريمة، حياة ندية تشاركية بين الرجل والمرأة والتخلص من مفهوم الذهنية الذكورية والنظم السلطوية.