أرسم بريشتي أمنيات نساء وطني اللواتي تم قتلهن ظلماً
أرسم بريشتي أمنيات نساء وطني اللواتي تم قتلهن ظلماً
” إن لم تستطع الكلمات أن تكتب قصص نساء وطني،
فإن ريشتي كتبت ورسمت وعبرت عنه
بجميع الألوان والخطوط على لوحاتي،
بها أرسم الماضي والحاضر والمستقبل المزهر”
الفنانة التشكيلية: رسمية محمد العرس
“أنا” هذه الكلمة الصغيرة والتي تحمل الكثير من المعاني المعبرة عن الحياة وأحلام كل امرأة. حين أقول “أنا” أتذكر نهر الفرات الدفاق، وحوافها الجارحة. أنا من مواليد مدينة الطبقة، مدينة الفرات، وقلعة جعبر الشامخة، وسد الفرات العظيم، مدينة الجمال والفن. على ضفاف نهرها، نرسم أجمل لوحات العشق، وفي نسائمها العليلة نستوحي كل صور الجمال، وفيها تتلاقى جميع المكونات. ويعيش أهلها حياة البساطة والطيبة والمحبة. من مياه الفرات تبتل العروق وتنتعش الأحلام، وهي مدينتي، وحلمي، وحبي الأبدي. هي مكان تنشئة فني ولوحاتي، ومكان رسم المستقبل الجميل.
مدينتي الجميلة الطبقة، والتي اسمها حسناء الفرات. مدينتي التي تتكحل كل صباح بنسائم أمواج الفرات. جريانها أبدع في رسم لوحاتها الفنية والطبيعية، بموزاييكها المتنوع من جميع الثقافات واللهجات العربية والسريانية والكردية والأرمنية. كم أنا سعيدة جداً لأنني أرى روحي برعمة ربيع من بين مزارع حواف نهرها المهيب.
نحن فتيات ونساء الطبقة؛ حينما نلبس ملابسنا التراثية والثقافية ونتجمل بها، بنفس الوقت نبدع بهذا الجمال بريشتنا كفنانات ونزركشها على لوحات الحياة الواقعية. بدأتُ بموهبة الرسم وكأن الفن اختار روحي المليئة بحبه وعشقه للفرات. أنا لا أرسم لكي أكون فنانة تشكيلية، بل أرسم لأجل تحقيق آمال نساء وطني المجروحات، وترابها التي سُقيت بدماء آلاف الشهداء. تألمنا، وتعذبنا، ولكن الريشة والألوان تجعلني أخوض ثورة فنية لا تعرف التوقف ولا الهوادة.
أسمي رسمية العرسان، من مواليد مدينة الطبقة، عروس الفرات، تولد عام 1977. ولدتُ في أسرة مؤلفة من عشرة أشخاص، أسرة تعيش حياة المحبة والتعاون والتفاهم في ما بينها، والاعتماد على الذات. لم تكن والدتي متعلمة ولكنها كانت مدرسة من الحب والحنان، والاهتمام والطيبة والقلب الرقيق والحنون. وكرّس والدي معظم وقته بالعمل لتلبية حاجاتنا، ولإتمام مسيرتنا الدراسية. فقد كان منا؛ المدرس والفنان والمهندس والمرشدة، والدي ووالدتي كانا اليد التي وصلنا بفضلها للنجاح.
منذ طفولتي ولدَ معي حب الرسم والفنون وكان يحتل جزءً كبيراً من حياتي. فقد رسمتُ العديد من اللوحات الصغيرة والملونة التي كانت تحكي عن طفولتي ومدرستي وأمي وعن الأمل، وكان لي مشاركات كثيرة بمسابقات الروّاد ومعارض المدرسة ونلتُ مراتب متقدمة بالعديد منها. أكملت دراستي إلى أن دخلتُ مدرسة الفنون النسوية. المكان الذي كان المرحلة الاولى بالنسبة لي في مسيرة الفن، هو مكان التدريب والتطور والتعلم، وبداية موهبتي، ومن خلاله اكتسبتُ العديد من المهارات الفنية غير الرسم، كـ الخياطة والتطريز وشغل السنارة وعمل السجاد اليدوي.
ثم انتقلتُ بعد المرحلة الثانوية وبتفوق الى معهد الفنون النسوية، لاستكمال دراستي عام 1995 وفي هذا المكان كانت انطلاقتي في مجال الرسم، فقد كان لدي كالنافذة المفتوحة التي يمر منها الضوء وتنتشر فيها أشعة الشمس في حياتي لتبعث النور، وتزرع الأمل.
ومن خلال التدريب المستمر ودعم المدربين لي تطورت مهاراتي، والفضل الأول والأكبر بالنسبة لي للفنان القدير والكبير (حسين اللايذ)، مدرس مادة الرسم في معهد الفنون النسوية، الذي أعطى وأغنى وتفوّق وتميزَ في طريقة تدريسه واسلوبه الرائع في إيصال المعلومة وصقل الموهبة والتطوير المستمر. وكانت دائما له لمسة فنية رائعة بتقييم كل عمل فني، وبفضله أنجزتُ أول لوحة فنية زيتية على القماش وبفضل التوجيهات المستمرة منه.
ومن بعدها كان لي مشاركات عديدة في معارض المعهد والمنطقة بلوحات متنوعة بقلم الرصاص والفحم والزياتي. وفي هذا المكان تعلّمتُ تصميم لوحات العجمي الدمشقي، الذي اشتهرت به مدينة دمشق العريقة، حيث كانت البيوت والمتاحف والمطاعم مزينة بلوحات العجمي الأثرية .
تخرجتُ من المعهد سنة 1975، وعملتُ مدرسةَ لمادة الرسم لسنين عدة إلى أن تزوجت وأنجبت 7 أطفال وعملت جاهدة لأمنحهم الحب والأمان والعطاء المستمر رغم كل الظروف الصعبة والقاهرة. فلم يكن في حلمي سوى أولادي، وبيتي الصغير المتواضع، الذي كانت لي لمسة فنية جميلة في كل زاوية فيه، وعلى جدرانه رسمتُ لوحات من الألوان والنور، ونشرتُ فيه حبي للفن والرسم، والعديد من الأعمال اليدوية الجميلة، لأنني أحببتُ أن يكون فيه معرضي الذي حلمت فيه وعالمي الفني الجميل الملون.
لكن ما إن انطفأ النور في هذا العالم الجميل وأصبحت الألوان رمادية وباهتة، في أول سنين الحرب، سنين التشرد والضياع، وذلك بفقدان زوجي ووفاته، أي قتله، ليرتمي أمامي جثة هامدة باردة نُزعت منه الحياة بالدماء الطاهرة التي سقت الأرض والمكان.
وفي هذه اللحظة تحولت حياتي من النور إلى العتمة، ومن الأمل إلى اليأس، ومن الاستقرار إلى الحيرة، وبنفس الوقت، وعندما وقفت أمام جثته الباردة، أحسست بأني أزلتُ الضعف الذي ملأ قلبي، لأضع فيه القوة التي استمدتني بالعزم والإرادة لاستكمال حياتي وتربية أولادي واستمراري بالطريق الذي قدّر لي. فعدّت سنوات طويلة، قاومتُ من خلالها أصعب الظروف وعشت بسنين الحرب وتحت أصوات المدافع والطيران والقصف المخيف، وتحمّلت المسؤولية بكل عزم، وقفت أمام أكبر المخاوف والعراقيل، كنخلة شامخة تتحمل العطش وحرارة الصحراء وتعطي الحياة.
وبعد هذه السنين، أتى النور مرة ثانية، وعدتُ إلى عالمي، إلى ريشتي، إلى هوايتي، وعشقي لها، في مكاني الذي أتواجد فيه في المركز الثقافي في الطبقة. في مدينتي، مدينة الفرات العظيم، وقلعة جعبر الشامخة. الطبقة التي ضمّت واحتوت جميع المكونات والأديان، التي يغمر أهلها حياة البساطة والطيبة والمحبة والتعاون. وبنظرة إلى حديقتها نرى آية من الجمال، حيث تجتمع على ضفافها سد الثورة العظيم، وعلى الضفة المقابلة تتربع قلعة جعبر في وسط مياه النهر الصافية، بسورها الكبير والشامخ الممتد على أطراف القلعة، وبمأذنة القلعة التي تصف عراقة وقِدم المكان. تتربع مطمئنة وساكنة، وأمواج النهر تزور شاطئها وتعود، ووصفت بعروس الفرات، لسكينتها وشموخها وجمالها.
عملتُ في المركز الثقافي لسنتين بمكتب الرسم. وكانت بداية الطريق لعودتي إلى تحقيق حلمي. وبدأت فيه أول مشاريعي وإنجازاتي الفنية بمشروعي الأول (الرسم على الجدران) في أنحاء متنوعة بالمدينة. رسمتُ خلالها لوحات عديدة عن التراث والفنون والأم والمرأة. وأقمنا معرضنا الأول للرسم والعمل اليدوي بعنوان (من لا شيء أبدعنا) برسومات عديدة وأعمال من الخشب وتوالف البيئة ومن بقايا الطبيعة. وشاركتُ بالعديد من لوحات الرسم على الزجاج والخشب ولوحات العجمي الدمشقي، وأعمال من السيراميك كالورود وبعض الأعمال اليدوية، ثم تعددت مشاركتي بالعديد من المناطق في شمال وشرق سوريا، ومنبج وكوباني والرقة وقامشلو، وتعددت المعارض وتنوعت بأهدافها.
ومن بعدها ترفّعتُ لإدارة المركز الثقافي لسنتين على التوالي. خلالها كان تأسيس مهرجان السلام الأول للطفولة. وكانت فيه مشاركات للأطفال بمعرض فني منوّع. حيث كان رسالة من أطفال الطبقة تنادي بالسلام، ومهرجان الأصالة والتراث الذي ضم العديد من الفرق الموسيقية والغناء التي نشرت من خلال الفن تراث المنطقة وعراقتها، بجميع مكوناتها، وبعد سنتين من الإدارة عدتُ إلى الرسم، وحياتي الفنية التي لم أستطع أن أبتعد عنها.
عدتُ الى ريشتي التي أعشقها، التي كانت معي بكل حالاتي وكل أيامي وبكل حلم، والتي رسمتُ من خلالها الأمل، ورسمت الحرية للمرأة، ورسمت الكلمات التي لم تستطع روحي أن تنطقها، التي انتشرت بألوان تزين كل لوحة أرسمها، ورسمتُ ذكرياتي. ريشتي التي كانت عندي كالفراشة التي وصفت بالجمال والرقة، والحرية، والتي نشرت النور في أي مكان تخطت قدماي فيها.
وبدأتُ بتطوير موهبتي بالرسم، بالتدريب المستمر والعمل ومتابعة أعمال الفنانين وحضور العديد من المعارض والمشاركات العديدة بالملتقيات الفنية، وأقوى مشاركة كانت بالملتقى الفن التشكيلي الثاني الذي أقيم بالطبقة وكنت في اللجنة التحضيرية للملتقى. وبنهاية الملتقى، شاركتُ بلوحة زيتية في معرض روجآفا في مدينة قامشلو. في تلك اللوحة وصفتُ العنف المستمر على المرأة، والقيود التي قيّدت بها، والقضبان التي حجبت عنها النور، وفي زاوية اللوحة كان هناك الأمل بالحرية والمستقبل وكسر القيد والقضبان لتتحول إلى طيور تزيل الظلام، وتحلّق في سماء صافية وحرة.
واستمرت مشاركاتي بلوحاتٍ وصفتُ فيها التعب، والماضي، وبنفس الوقت الإرادة والأمل بحياة أجمل، وكل لوحة كانت رسالة، أكتب فيها كلمات لتزيل القيود عن المرأة، لتسندها وتقف معها لتحقيق هدفها ولتصل إلى حلمها، لتكون يد العون في حياتها، لتمضي في طريق الحرية.
فإن لم تستطع الكلمات أن تكتبه… رسمَتهُ ريشتي وعبرتُ عنه بجميع الألوان والخطوط فيها…
وكما قال الفنان بيكاسوا: “الرسم طريقة أخرى لكتابة الذكريات”.
وأنا أيضا أقول: “بريشتي سأرسم الماضي والحاضر والمستقبل المزهر”.