الأمة الديمقراطية ذو بنية أيديولوجية قوية تستطيع صد كل الذهنيات النمطية

الأمة الديمقراطية ذو بنية أيديولوجية قوية تستطيع صد كل الذهنيات النمطية

” نظام الأمة الديمقراطية يعتمد

على القانون الاجتماعي الأخلاقي بالدرجة الأولى “

 

 زليخة مصطفى

 

الشرق الأوسط، الثقافة التاريخية العريقة، حيث كانت البذرة الأولى لولادة الحياة الاجتماعية والسياسية والعلم والمعرفة والمحبة، والتعايش على هذه الجغرافية. خطت هذه الثقافة خطواتها الأولى كثقافة اجتماعية اعتمدت على النظام الأمومي، فحقيقة هذه الثقافة لم تستند إلى السلطة ولا الظلم ولا الاعتداء، وإنما كانت ثقافة استندت إلى أسس المجتمع الطبيعي، التي ساهمت في تقوية تماسك المجتمعات مع بعضها وهذا بدوره ساهم في بناء روح التشارك والتعايش، إلا أنه ومع ولادة المجتمع الطبقي الذي اعتمد على النظام الذكوري والذي اتخذ السلطة أساساً لتحقيق سيطرته على كل ثنايا المجتمعات، تم تحريف ثقافة الأم وإبعادها عن حقيقتها.

 لذلك علينا البحث عن الحقيقة الجوهرية للمجتمع الطبيعي. هنا يطرح السؤال نفسه علينا وهو؛ لماذا يتوجب علينا العودة إلى معرفة التاريخ بالشكل الصحيح؟ وجواب ذلك؛ لأن العلوم الوضعية وتحليلاتها بعيدة كل البعد عن طرح الحقيقة التاريخية للمجتمع الطبيعي، فهذه التحليلات والنظريات دفعت إلى تجزئة المجتمع وتجذّر السلطة. وبالعودة إلى التاريخ نجد بأن البشرية أمضت 98% من عمرها ضمن المجتمع الطبيعي بالاستناد إلى ثقافة الأم المستند إلى الاخوة والمحبة والسلام والعدالة والمساواة وأمضت 2% من عمرها ضمن المجتمع السلطوي.

انطلاقاً من هنا؛ إن قيّمنا التاريخ بالشكل الصحيح حينها نصل إلى أن الشرق الأوسط هو مهد الحضارة الإنسانية، ولهذا السبب ينبغي تحليل التاريخ من جديد وأن ننظر إلى المجتمع كتاريخ، وأن نعمل على إغلاق الفجوة الحاصلة بين التاريخ وعلم المجتمع. إذ يتوجب علينا تصحيح النظرة الخاطئة للتاريخ وبناء عليه ليتم إعادة تحليل المجتمع الذي تم إنكاره ضمن العلوم الاجتماعية، فالمجتمع بحد ذاته هو تاريخ الإنسانية الذي أُنكر من قبل العلم الوضعي حيث ركز على عبادة الدولة.

التسلسل التاريخي

 لأن التاريخ كنهر جار للحضارة فلا يمكننا الفصل بين الأزمان والمراحل التاريخية عن بعضها البعض، حيث تأثرت الثقافات مع بعضها وساهمت في ولادة ثقافات جديدة ولم تنكر إحداها الأخرى، ولذلك لا يمكن تحليل التاريخ ضمن مرحلة معينة منفصلة عن الأخرى؛ لان فلسفة الطرح + الطرح المضاد = الجمع بمعنى جديدة وتركيبة جديدة. فمعظم العلوم الاجتماعية التي تدرس في الدول استندت إلى روح السلطة، فهي تقوم بالتطرق إلى التاريخ كمراحل منفصلة عن بعضها البعض؛ لأن وحدة المجتمع وتماسكه وتكامله لا تخدم مصلحة السلطة. لهذا السبب تسعى على الدوام إلى فرض التجزئة والتفرقة  على المجتمع،  استناد إلى هذا ينبغي علينا تجاوز تلك التحليلات والنظريات التي فرضت على المجتمع ضمن هذا الإطار؛ لأنه من دون ذلك لن نستطيع التخلص من  التشبه بالنظام الرأسمالي في أي عمل أو نضال أو نظرية نقوم بطرحها، فخير مثال ضمن هذا الإطار هو عدم قدرة جميع حركات التحرر الوطني والاشتراكية المشيدة والحركات الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا  النجاة من خدمة مصالح النظام الرأسمالي، وذلك يعود إلى عدم صحة تحليلاتهم للتاريخ وليس لعدم سعي ومطالبة الأشخاص الذين قاموا بتلك الثورات بالحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية التي تعتبر من أسمى المطالب والحقوق الإنسانية وأقدسها.

إنما أبدوا نضالات وقدموا بدائل كبيرة وعظيمة وسطروا أروع ملاحم البطولة، حيث استشهد الملايين من الأشخاص في سبيل تلك المطالب السامية. إذاً فالنظرة الخاطئة للتاريخ أظهرت تحليلات خاطئة وأفرزت نظريات خاطئة؛ وبالتالي أدت القيام بالممارسة العملية بالشكل الخاطئ، لذا علينا تصحيح تلك التحليلات الخاطئة بحق المجتمع، بالأخذ بفلسفة تُؤكد على الحقيقة التي كانت سائدة في المجتمع، الطبيعي والتي اتسمت بروح المرأة وبعدالتها وجعلت من المجتمع يتعايش مع بعضه بشكل جماعي، وساهمت في إغناء واكتساب المجتمع التنوع والاختلاف وحالة التآخي والسلم والتشارك في الحياة معاً، ولم تكن قادرة على العيش منفصلة عن بعضها كعدو للآخر. أما اليوم عندما ننظر إلى وضعنا الراهن المعاش؛ نجد بأن الدولة سعت إلى ممارسة السياسة التي تخدم وجودها لفرض سلطتها وهيمنتها على المجتمع وخلق التفرقة والتمييز والصراعات فيما بين المجتمعات، لأن أي نظام سلطوي دولتي لا يستطيع صون سيرورته دون اختلاق الأزمات والصراعات. 

وعليه شهدت البشرية الحروب والمجازر والإبادات بحق الإنسانية وصولاً بها إلى النظام الرأسمالي والدولة القومية. لماذا نؤكد عدم الوقوع في فخ السلطة، لأنها تستند إلى سرقة قيّم المجتمع والعمل على تجريده من الأخلاق، فالدولة فرضت نفسها كالإله على وجه الأرض، حيث وصفها المفكر أوجلان بقوله: “إن كانت الدولة تمثل الإله فالقومية هي ديانتها”. وعليه جعلت دوماً حاجة المجتمعات لذاتها؛ حيث مارست سياسة الترهيب والتجويع وعملت لتفسخ العلاقات الاجتماعية وبالأخص فرضت هيمنتها على قيم المرأة وفتحت دور الدعارة، ولم تتوقف فقط عند استغلال جسد المرأة بيولوجياً، بل عمدت من خلال هذه الممارسات بحق المرأة إلى تفسخ الأخلاق وإنهاء روح العلاقات المجتمعية، إذ في شخصية المرأة تم القضاء كلياً على أية روابط أخلاقية مجتمعية متماسكة متحابة، وقضت على التنوع الثقافي المبني على روح التآخي والعدالة والمساواة فيما بين الشعوب.

المقاومة المجتمعية

هنا السؤال الذي يطرح نفسه؛ هو لماذا تحطمت كل القيم المجتمعية مع ولادة الدولة القومية؟ بعد كل ما تم ذكره بأن نموذج الدولة القومية ليست وليدة ثقافة شعوب منطقة الشرق الأوسط بل ولادة غربية بعيدة كل البعد عن ثقافتها. فمنطقة الشرق الأوسط صاحبة غنى ثقافي كبير متكون من ثقافتين أساسيتين هما؛ الثقافة السامية والثقافة الآرية حيث اهتمت الآرية بالزراعة والسامية بالرعي والتجارة فتوحدت هاتين الثقافتين مع بعضها البعض، حيث كان لهما دور كبير في تطور الحضارة في المنطقة بسبب تأثيرهما على بعضهما. حيث كانت تتعايش في حالة سلم اجتماعي فيما بينهم بالرغم من التناقضات التي كانت تظهر فيما بينهم، أي أن تلك التناقضات بين تلك الثقافتين لم تصل إلى حالة من العداء كما هو الحال عليه الآن.  حيث بذلت الدولة القومية كل الجهود لخلق الصراعات وتحطيم العلاقات الاجتماعية ومحاربة الإثنيات بعضها البعض كحالات الصراع المفتعلة في راهننا. لكل ما سبق ينبغي علينا التركيز على موضوع أخوة الشعوب، والعمل على إعادة روح التعايش والتشارك بين كافة الإثنيات والمجتمعات.

على مر التاريخ الإنساني ظهرت ثورات اجتماعية أخلاقية عُظمى. نتساءل هنا؛ لماذا ظهرت هذه الثورات الأخلاقية والاجتماعية؟ فإحدى أسباب ظهورها هي تفسخ الأخلاق ضمن المجتمع؛ لأنه تم تحطيم العلاقات الاجتماعية التي كانت تساهم في تماسك المجتمع ومتانته، وذلك من خلال القضاء على القيم الديمقراطية الطبيعية المتواجدة بين المجتمع، لذا ظهرت تلك الثورات حيث أبرزت نفسها بشكل ميثولوجي فلسفي وأبرزت ذاتها في يومنا الراهن بالشكل العلمي، وأبرزت نفسها في مرحلة الديانات عن طريق الأنبياء، وكما برزت كمقاومة المرأة والأحرار في الجبال والسهول ضد السلطة المفروضة عليها. فهذه القيم مرتبطة ببعضها البعض؛ لأنها قيم كونية وليست عائدة لمجتمع ما فقط.

وإن قمنا بتحليل الفلسفة التي طرحها المفكر أوجلان سنرى؛ بأنها تمثل إرث كل المقاومات المجتمعية والمُتمثلة بمقاومة المجتمع الطبيعي والتي احتوتها كل مقاومات الأنبياء والقديسين والثوار…الخ. ومن هذه المقاومات مقاومة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ضد الجهالة، وسيدنا عيسى ضد ظلم روما، وسيدنا موسى ضد ظلم فرعون، وسيدنا إبراهيم ضد ظلم نمرود. والمقاومة التي يبديها شعبنا الآن هي مقاومة ضد الفراعنة والنماردة الجدد، وهو نضال ضد السلطات التي جعلت من أنفسها آلهة على وجه الأرض. ولهذا يجب المعرفة بأن النظام الذي كان يفرض ذاته وما يزال يرغب بفرض ذاته كنظام كوني مزيف، فإن المقاومة التي كانت وماتزال تبدى ضده كونية ولكن بحقيقة اجتماعية عميقة غائرة العمق.

 تحليل العلوم الاجتماعية التي تطرقت إلى أن الدولة ظهرت في العصر الرأسمالي هي مغالطة تاريخية، حيث أنُشئت أول دولة هي مدينة أوروك المعروفة اليوم بالعراق، فإن لم نقم بتحليل دولة أوروك بالشكل الصحيح لا يمكن تحليل القطبين المختلفين (ناتو – وارسو)، في يومنا الراهن بالشكل الصحيح. الشيء الواجب تطويره في هذه المرحلة هو تطوير الثقافة التي كانت موجودة سابقاً ضمن المجتمع البعيدة عن روح السلطة التي اتخذت من أخوة الشعوب أساساً لها. ولذلك من أجل إعادة روح هذا المجتمع هناك عوائق تعيق تحقيق هذا المسار؛ وهو الذهنية القومية والدينية والأيدولوجيات والأفكار الداعية إلى تقديس السلطة، التي أعاقت تطور ذهنية وثقافة أخوة الشعوب ضمن المجتمع. لذا؛ علينا تحرير أنفسنا من هذه الذهنيات التي تكونت ضمن إطار الدولة والسلطة التي لا ترتبط أي ارتباط بالطبيعة الحقيقية للإنسان، لأنها تأسست بيد السلطة والحكام والتي جعلت المجتمعات ضمن إطار تأدية واجباته من خلال إقناع الشعوب بالوطن المقدس والعلم المقدس. فكل هذه السياسات التي فُرضت خدمت مصالح الفئات الحاكمة لخلق التناقض الدائم بين فئات المجتمع، وعملت على إبراز ذاتها كـ إله مقدس على الشعوب الطاعة، وتهميش دور المكونات الاجتماعية التي تشكل النسيج الاجتماعي، فنحن بصدد مرحلة تاريخية لتحطيم هذا الوضع القائم والعودة إلى إحياء العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة قبل نشوء الدولة القومية، والعمل على تحرير الذهنية من النظريات الشائعة؛ بأن السلطة تعني الحرية حيث بات المجتمع يقتنع بأنه يجب أن يكون سلطويا أو عبداً ليكون حراً.

ديناميكية المجتمع

 إن هذه الذهنيات أفقدت المجتمع قدراته وطاقاته كي لا يتمكن من رؤية ولو جزءٍ من حقيقته التي تم إبعادها عنه، فجميع مرافعات المفكر أوجلان تتمحور حول كيفية تحطيم هذه الثنائية لذا؛ في يومنا الراهن وجدنا بأن المؤامرة الدولية وكل الهجمات التي يتعرض لها القائد، نابعة من خلال قيامه بكشف تلك الحلقة والفخ الذي كانت تقع فيها جميع الحركات الثورية، لأنه أكد بأن الإنسان لا يتحرر بالسلطة ولا بالعبودية، إنما يتحرر بالاستناد إلى ديناميكية المجتمع وعنده يستطيع المجتمع من إدارة نفسه بنفسه. فمثلاً في إقليم شمال وشرق سوريا ومع انطلاقة ثورة 19 تموز التي عملت على خلق روح الأخوة بين الشعوب، وتنوع الثقافات وتشكيل إدارة اجتماعية تضمن حقوق جميع المكونات المتعايشة في المنطقة المبنية على احترام عقيدة وثقافة الآخر والتشارك في الإدارة.

 ولعبت المرأة دوراً كبيراً في هذه الثورة من خلال دورها التاريخي المبني على العدالة والمساواة، والمشاركة الحقيقة في الإدارة والدفاع عن مناطقها جنباً إلى جنب مع زميلاتها من كافة المكونات السورية، ووضعت بصمتها الحقيقية لرفض التمييز والعنصرية التي فرضتها الدولة، وساهمت في ولادة الصراعات وارتكاب المجازر بحق الشعوب، فكان صوتها ضمن الثورة السورية عالياً بمناداة مبدأ أخوة الشعوب، وتحقيق نظام ديمقراطي يحقق بناء سورية المستقبل، على الرغم من تحريف مسار الثورة عن مسارها الحقيقي وتعميق الأزمة وخلق حروب طائفية مذهبية، والوصول إلى السلطة دون النظر إلى الأهداف التي انطلقت منها الثورة لإعادة النسيج الاجتماعي الحقيقي للمجتمع السوري.

 هنا؛ ندرك بأن الثورة السورية أخطأت بحق الشعب السوري ولم تمثل أملها في تحقيق ثورة التغيير، ولذلك نجد بأن مشروع الأمة الديمقراطية الذي طرحه المفكر أوجلان، من خلال مبدأ أخوة الشعوب الذي يعتمد العدالة والمساواة وإشراك المرأة، لتفادي الوقوع في نفس الأخطاء التي وقعت فيها الثورة السورية والثورات العالمية على مر التاريخ، واستنبطت الدروس من تجاربهم، منها الثورة الفرنسية التي قام بها الكادحين والفلاحين في عام 1789  والتي عرفت بالثورة البرجوازية، وتم إعدام قادة تلك الثورة بالمقصلة لأنها؛ أنكرت دور المرأة الحقيقي في تلك الثورة والمساعي التي حاولت بإعادة التكاتف والتسامح بين فئات المجتمع.

وكذلك الثورة الروسية لم تستطع الخلاص من مفهوم السلطة وإنكار لدور المرأة الذي لعبته في إيصال الثورة الروسية إلى تحقيق النجاح، ولأن السلطة كانت هي أهدافها، فبعد مضي عدة أعوام انهار الاتحاد السوفييتي. إذاً علينا أن نعلم بأن السلطة لا تجلب الحرية، وعلى المجتمع أن يدرك الحقيقة بأن السعي لتحقيق الأهداف السامية لا تتواجد مع وجود السلطة؛ لأن الديمقراطية والحرية تستند إلى الاحترام الاجتماعي وبناء العلاقات الاجتماعية، والتعايش فيما بين الثقافات والشعوب على مبدأ أخوة الشعوب على نقيض السلطة والدولة، وما الصراع الموجود الآن في قلب غزة دليل واضح بأن الحل في المنطقة؛ هو مشروع أخوة الشعوب المؤمنة بأن التعايش المشترك هو السبيل لبناء أمة ديمقراطية ووطنٍ مشترك يحتضن الجميع وكل يتقبل الآخر.