لنتعلم بلغتنا الأم ولنصل لثقافة مجتمعية غنية

 

لنتعلم بلغتنا الأم ولنصل لثقافة مجتمعية غنية

“يجب علينا جميعاً رؤية القوة المتواجدة في اللغات الأم،

فهي التي تصنع المستقبل الأكثر عدلاً واستدامة للجميع”

 

ديلبر يوسف

مستشارة هيئة التربية والتعليم لإقليم شمال وشرق سوريا

ليس بخافي عن كل من يهتم بالشؤون الاجتماعية مدى أهمية دور التعليم في تحقيق التغييرات الاجتماعية التي ترتقي بتلك المجتمعات، إضافةً للتسريع من تلك الخطوات لتصبح ثوابت اجتماعية تعتمد عليها شخصية الفرد ضمن مجتمعه. وما دمنا نتحدث عن الفرد والمجتمع فلا بد لنا من التوقف عن موضوع أن النسيج الاجتماعي وغِناه الأثني يلعب دوراً رئيساً في تكوين شخصية متنوعة الجوانب وذات توجهات إنسانية عميقة نابعة من بيئتها الاجتماعية. فكل شخص يعتبر ابناً لبيئته. وشخصيته هي نتاج لثقافة تلك البيئة.

حافظت سوريا اجتماعياً على كل هذا الغِنى الثقافي. ولكن ما كانت تحياه المكونات بين بعضها البعض لم ينعكس على مفاصل الحياة والتي سيطر نظام عنصري لأبعد الحدود عليها، بدءاً من أولويات الحياة والصعود إلى كل المجالات سواءً اقتصادية أم ثقافية أم سياسية …الخ. لذا بقيت المكونات في حالة انغلاق على ذاتها من دون أن يمنح كل مكون جمالية ثقافته للمكونات الأخرى التي بالأساس تتعايش معاً.

كان الجانب السلبي البارز أكثر لسيطرة النظام البعثي العنصري هو احتكاره للمناهج التربوية، فالذهنية التي شكلها هذا النظام ضمن المناهج التعليمية كانت بعيدة كل البعد عن الحقيقة الاجتماعية. وبالتالي كان التطرف في كل المناحي، هو الطاغي سواءً الديني وغيره. وبات المجتمع في حالة اغتراب عن ذاته وكينونته الأساسية.

إن أي نظام تعليمي يمثل حجر الأساس في بناء المجتمع وشخصية فرده، فهو من يحدد خصائص الفرد منذ نعومة أظافره وحتى مرحلة النضوج والإنتاج. وإن كان هذا النظام مبني على التشجيع والتحفيز على نشر كل مكون لثقافته الخاصة به من خلال نشره إياها بلغته الأم، حينها ستبحث كل المكونات عن لغة خطابة وموروث مشترك أيضاً، وبذلك تكون أبواب العنصرية قد أغلقت نهائياً وتحولت الوحدة ضمن الاختلاف أو التنوع لنمط حياة ذلك المجتمع وبالتالي نمط لحياة فردها أيضاً.

برجوعنا إلى موضوعنا الأساسي ألا وهو تأثير التعليم باللغة الأم على التكون الثقافي للمجتمعات ومدى توسع النشاطات الثقافية لتلك المجتمعات، فلابد لنا من التوقف وإن كان للحظة عند موضوع “لغة الأم” وارتباطها بالمرأة. فلعل مصطلح اللغة الأم لم يكن كاختيار لوصف لغة الإنسان بناء على مكونه وانتمائه ولم يأت اعتباطاً أو بشكل غير مدروس. ففي هذا المصطلح تم نسب اكتساب اللغة إلى الأم (المرأة)، وبهذا المفهوم تعتبر المرأة الخلية الأولى للمجتمع، وهي الأسرة الحافظة والأساسية للثقافة والعادات والتقاليد واللغة، كما هي المسؤولة عن التمايز والاختلاف الذي يعطي المجتمع تنوعه واختلافه.

فالطفل وإن كان في أصله ونسبه يعود للأب فهو في صفاته وتمايزه وعاداته وتقاليده وثقافته ينسب للأم، وبذلك تكون الأم هي المسؤولة الأولى عن حفظ تراث المجتمع وحفظ اللغات المختلفة لمكونات أي مجتمع، وبالتالي فإن ما تعانيه المجتمعات من الصبغة الواحدة واللغة الواحدة ومحاولة صهر الجميع في بوتقة واحدة ما هي إلا نيته لمصادرة حق المرأة وسلبها الدور الأساسي لها. هذا يعني أن معادلة” التعليم بلغة الأم، الثقافة المبنية على جذورها، هي التنوع والغِنى.

للتعلم بلغة الأم دوراً كبيراً في تنشيط الذاكرة الثقافية للمجتمع، وأيضاً تحرير فردها من كل مخلفات العنصرية والتعصب. لذا نرى في الكثير من المجتمعات التي تسعى دائماً نحو الرقي والسمو بثقافتها، بأنها تتجه صوب تكوين فردها بناءً على اللغة الأم. وتركز تلك المجتمعات على ألا تبقى تلك اللغة فقط محصورة ضمن نطاق الأسرة؛ بل تشمل مراحل التعليم الأولية من رياض الأطفال والمراحل التحضيرية قبل دخول الحياة المدرسية للطفل، ومن ثم الأعوام الأولى من المرحلة الابتدائية. لتكون كل الجوانب التعليمية مبنية على ذلك الأساس ومن ثم لتدخل اللغات والثقافات الأخرى في مراحل تعليمية لاحقة. وبالتالي ليطّلع الطفل على الثقافات الأخرى أيضاً ولكن بعدما أن يشرب من ثقافته الأم.

يجب علينا جميعاً رؤية القوة المتواجدة في اللغات الأم، فهي التي تصنع المستقبل الأكثر عدلاً واستدامة للجميع. كما أنها الأدوات الأقوى التي تحافظ وتطور من تراثنا سواء المادي أو اللامادي منه، هذه الخطوات لن تساعد فقط الجهود المبذولة على نشر الألسن الأم على تشجيع التعدد اللغوي أو الثقافي، إنما ستساعد على تطوير الوعي أكثر تجاه التقاليد الثقافية واللغوية في كل أرجاء المجتمع المعني به. وستلهم في تحقيق التسامح والتفاهم والحوار. فاللغات هي الركيزة الأساسية في التواصل والاندماج المجتمعي والتنمية والاستدامة. لذا يُجسد تعدد اللغات مصدر قوة وفرصة للبشرية، فهو تنوعنا الثقافي ويشجع على تبادل وجهات النظر، وتجديد الأفكار وتوسيع قدرتنا على التصور.

لنتوقف قليلاً عند صلة وصل اللغة الأم مع اللغات والثقافات الأخرى وماهية تأثيرها على الطفل وتحديد مستقبله وشخصيته. في الكثير من الدراسات التي أجريت في القرن الماضي؛ أُثبت أن التدريس بغير اللغة الأم ولا سيما في المرحلة الابتدائية منه يظهر نتائج سلبية على نمو الطالب سواءً العاطفي منه أو اللغوي أو العلمي، وليصل إلى الضعف في ولائهم للغتهم وثقافتهم. والتجربة الماليزية خير مثال على ذلك.  لذا رُكز على التعليم القائم على اللغة الأم وخاصة في البيئة الأُسرية وفي المدرسة ـ وإيلاء الأهمية لاكتساب المعارف والكفاءات اللغوية وتعلم القراءة والكتابة باللغة الأم.

اعتمد التعليم في إقليم شمال وشرق سوريا على نمط التعليم المتعدد اللغات والقائم على اللغة الأم. فهذا يُمثل عاملاً مهماً لتحسين جودة التعليم ونتائجه، وبناء شخصية فرد مرن التفكير قوي الإرادة منفتح على كل التطورات العلمية… الخ. فمن منا وخاصة في بلدنا سوريا قد ينسى ما حدث له حينما دخل أولى الصفوف والصدمة التي تلقاها حيث أُجبر على تعلم لغة لا يفقه منها شيء! ليصبح كالشخص المُنفصم الشخصية، وليحيا في المدرسة حياة تختلف تماماً عن حياته الاجتماعية فيغترب عن ذاته وكيانه في المدرسة.

 تأكيداً على كلامنا هذا ولمعرفة أهمية التعلم القائم على اللغة الأم نستشهد بأقوال عالم اللغويات جون تشومسكي الذي قال: “إن البرامج التعليمية التي تتبنى أسلوب التعليم باللغة الأم ثم بلغة ثانية أجنبية فيما بعد قد أثبتت نجاحاً ملحوظاً في كثير من مناطق العالم، كما أنها حققت نتائج إيجابية مهمة سواء على الصعيد النفسي والاجتماعي والتربوي، وذلك لأنها تقلل من آثار الصدمة الثقافية التي يتعرض لها الطفل عند دخوله المدرسة، وتقوي إحساسه بقيمته الذاتية وشعوره بهويته، وترفع من إحساسه بإنجازه على المستوى الأكاديمي، كما أنها تساعده في توظيف القدرات والمهارات التي اكتسبها باللغة الأم في تعلم اللغة الثانية.

من كل هذا نستنتج أن مجتمعنا إن رغب بأن يحذو حذو تلك المجتمعات التي ترتقي بذاته، فعليه ألا يُهمل التعليم باللغة الأم وخاصة في المراحل العمرية التي تصل إلى اثنا عشر عاماً. وتؤمن بأن ما يتم بنائه في شخصية الطفل بمراحله الأولى هو الضمانة الأهم لحياة حرة وغنية بكل الثقافات. ولهذا نرى في العديد من الأنشطة المدرسية سواءً كانت الصفية أو اللاصفية يجري التركيز على أن يظهر الطفل الكثير من المواهب بلغته الأم والتي تجذب كل مشاهد ومستمع لها.

هذا الفهم في حقيقته ينعكس على الكثير من جوانب الحياة ولا سيما الثقافية منه. فتطور المهرجانات الثقافية والفنية والمسرح والغناء وإلقاء الشعر سواءً المنمط منه أم الشعبي كل هذا لم يكن ليتم إن لم يكن التراكم الثقافي قد وصل لمرحلة لابد له من أن ينعكس على كامل المجتمع وبكل فئاته ومكوناته.

ولكن ما يلفت الانتباه؛ هو الانخراط النسوي في كل المجالات التي ذكرناها آنفاً. فما من مهرجان وليس للمرأة حضور فيه وما من أمسية شعرية لم يكن للمرأة بصمة فيها، وهلم جرا إن استمرينا باستذكار كل تلك الأنشطة والفعاليات. ولكن البارز هو أن المرأة هي أكثر من تعكس كل ذلك النتاج على المحيط ولكن بلغتها الأم. علنا إن سمينا هذه الحالة فلربما لن تتواجد تسمية أجمل من أن نسميها الالتقاء التاريخي للمرأة مع كيانها الاجتماعي. وكمن يخلق ذاته مرة أخرى من رماده. لكم هو جميل هذا الالتقاء. ولكم هو أجمل حينما تأتي الكلمات من أفواه أنثوية. وهذا يعني أن لا وجود للثقافة، إن لم يكن للمرأة بصمة فيها.

لا يمكنني المرور من دون ذكر شيء هام برز في كل الأنشطة التي تُقام في إقليم شمال وشرق سوريا؛ ألا وهو تطور وتوسع انتشار الثقافة الشعبية بكل جوانبها وأفرعها وخاصة الشفهي منها والمعتمد على اللغة الأم. حيث سابقاً كانت الأهازيج الشعبية أو الشعر أو النتاج الثقافي المادي، الذي تقوم به المرأة يبقى فقط ضمن نطاق منزلها ومحيطها الأسري. ولم يُنظر له على أنه استمرار لثقافة مئات لا بل آلاف السنين. فمن كان يولي سابقاً الأهمية للأغاني التي كانت تغنيها الأمهات في الأعراس أو في الرثاء التي كانت ترثي فيه من افتقدتهم. ومن كان يتلمس العمق الأدبي والعاطفي فيما كانت تغنيه المرأة الأم لأطفالها وهي تهز أسرّتهم، ومن كان يرى كل هذا الإبداع فيما تقدمه أيادي النساء من نتاج.

إن تطور هذا الكم من الأنشطة الثقافية اليوم وبكل جوانبها والمشاركة الواسعة للمرأة فيها، هو تأكيد على أن الثقافة لن تنتعش في أي مجتمع كان إلا بتواجد بصمة المرأة فيها، وأيضاً بالارتكاز على مجتمع متعلم بلغته الأم وباني لثقافته على تلك الأسس.

وبالختام فاللغة هي؛ حافظت الحضارات وهي الكروموزوم الوراثي الذي يضمن استمرار ثقافة الشعوب والحفاظ على خصوصية كل شعب مع الحرص على تضافر جهود كل المكونات، وتوجيه كل هذه الجهود على اختلاف مصادرها ومنبعها لخدمة المجتمع، وتحقيق العدالة والمساواة والتنمية والاستدامة والنهوض بواقع كل الفئات المجتمعية من نساء ورجال كانوا.