الكرامة أم العار – القاصة: سوزان مصطفى البوظان

 

 

“كوباني أمي المقاومة والتي كُتبت الكثير من القصص

على ترابها وجدرانها وأبوابها وحتى شبابيكها،

اقتطفتُ هذه القصة القصيرة من زاوية كوبانية

لأم كوبانية”

 

القاصة: سوزان مصطفى البوظان

 

الكرامة أم العار

 

لطالما حلمتُ بأن يكون لدي ابنة. أنا التي فقدتُ الأمل في الإنجاب ورحتُ أحيك من الأحلام وشاحاً أدثر به روحي المزملة. كان زوجي من هذا الشرق كما كل رجالها ولا تزال أفكاره قابعة في ظلام العقائد والعادات والتقاليد يظل يطرق على مسامعي مسمعاً إياي تلك العبارات التي توارثها عن آباءه وأجداده أيام الجاهلية. أريد صبياً يحمل اسمي ويساندني في كبري من لا يملك الأولاد يظل ضعيفاً بين أبناء جنسه.

وأنا التي كنتُ اردد دوماً هذا السؤال:

وماذا عن الابنة! أليست سنداً لوالديها! ومَنْ مِنَ الصبية بقي ماكثاً هنا يرعى ذويه؟

كانت آرائي تسبب له موجة من الجنون وتخدش فيه حياء الرجولة ويظل قابعاً على رأيه ومصراً على رؤيته وتحليلاته السوداوية.

مضى من السنين ما قد مضى ونحن نسعى خلف الإنجاب. إلى أن أكرمنا الله ذات يوم بابنة يفوق جمالها ضياء القمر، إنها ذات ملامح آريه عينان بنيتان كتراب هذا الوطن المقدس وشعر أحمر ناري كذاك الجمر الذي يظل واقداً على قمم جبال ليالي نوروز. وكل هذا العطاء والنعمة لم تكن ترضي غرور هذا الرجل وإصراره وتمسكه برأيه البالي. فحسب رأيه البنات، هن لا يستطعن أن يقمن بمهام الرجال، وتبقى ضلعاً قاصراً من منظوره الشخصي. كان على الدوام ينهرنا ويقول بصوت جامح لا يخلو من القسوة وعبارات التجريح. ألا ترين كيف تأخذ هذه التنظيمات الإرهابية الفتيات ويسقن بهن إلى الأسواق وبيعهن أليس هذا هماً عليّ أن احمله!!

ابنتي الصغيرة بخلاف الأطفال البقية كانت تكبر على المشاكل والمشاجرات والعبارات الجارحة حتى أنها عانت من تعب نفسي حاد معتبرة نفسها كابوساً اجتاح البيت وسبّب كل ذاك الأذى لأمها.

ذات صباح وحينما ارخت الشمس جدائلها حتى طالت أعتاب الابواب وبينما صياح الديك تعلو في الأرجاء. انتابني شعور غريب وقفزتُ من فراشي وكأن كارثة ما قد حلت بنا! وبسرعة البرق هرعتُ إلى غرفه ابنتي لأطمئن عليها ولكن الصدمة كانت… لا تطاق… وتفقه العيون!

            لم تكن بفراشها! وبدا أنها قد وضبت غرفتها وخرجت قبل بزوغ الشمس. تاركة لي رسالة تقول فيها:

 – أمي الحبيبة، أيها المخلوق المقدس ويا أجمل ما فتحتُ عيني لأراه في هذه الحياة القاسية. أعلم أنني قررت بالنسبة لحياتي قراراً تاريخياً ولم أناقش معك هذا القرار، أتمنى أن تسامحيني. ربما أن رحيلي سيؤلمكِ، ولكنني بتلك القناعة بأنكِ سوف تكونين فخورة بي وبأنكِ يوما ما أنجبتِ فتاة عظيمة، تحمي القيم الكبيرة ولها القدرة على حماية الوطن والتراب أكثر من حماية العار الذي كان يتحدث عنه والدي.

ذاهبةٌ إلى المكان الذي يجب أن أكون فيه، وأن أكون حرة وذات شخصية قوية. واعلمي أنكِ سترفعين رأسكِ بي يوماً ما. أمي الحبيبة؛ انتبهي لنفسك ولأبي. أحبكما كثيراً.

بهذه العبارات الثقيلة المعاني جعلتني أحزن لوهلة، ولكنها قوية وتشبه أمها، لأنها انضمت إلى مسيرة الحرية. لأنها كانت ابنتي الوحيدة حزنتُ عليها ولكنني بنفس الوقت كنت فخورة لأنها اتخذت قراراً تاريخياً.

مضت الأيام ثقيلة كئيبة وأنا جالسة بالقرب من نافذتي وأترقب أن أراها بملابسها العسكرية وكيف سيكون شكلها. أما زوجي فقد هجرني معتقداً بأن ابنتي هربت وأن العار لحق بنا وظل يبحث عنها ليقتلها. وكان يقول دوماً: ألم أقل بأن الابنة عار وهّم!

في أحد الأيام وبينما كانت الحرب على الأبواب وقد حوصرت الكثير من القرى والمدن في كوباني، من قبل تلك التنظيمات الإرهابية، حيث خُطف من النساء ما خُطف، وقُتل من الرجال ما قُتل وكان لقريتنا نصيبها من الحصار. فلم نستطع أن نخرج وبقينا محاصرين نقتات ما بقي لنا من مؤونة نعد أيامنا ونصيبنا من القتل والتعذيب والبيع في الأسواق.

وفجأةً وبينما أنا أصارع خوفي ببعض الأمنيات الخفية، علت الأصوات في الخارج وأطلق الرصاص كما لو فتحت جبهة قتالية، وبدأ القصف الجوي من الطيران الحربي. هرع التنظيم إلى سّوقنا وإجبارنا على أن نكون دروع بشرية للطيران، والقصف كان شديداً، الرجال مكبّلون بسلاسل حديدية والأسلحة على رأسهم لتنفذ فيهم الإعدامات الميدانية، بقيتُ أصرخ للسماء!

وحينما كنتُ ألطم وجهي وأصرخ وكأنني في فيلم سينمائي للحرب العالمية الأولى، أمسكتني يدان رقيقتان، وهدأت من روعي:

  • أمي لا تخافي أنا معكِ!

جحظت عيناي كما لو استيقظتُ من كابوس مرعب.

– ابنتي ما لشين!

قالت لي ليس الآن يا أمي لا تتفوهي بشيء، فقط ابقي هنا ولا تتحركي سنحرر القرية.

كانت تحمل جهازا لاسلكياً وتنفذ العمليات كما لو كانت قائدة حرب عظيمه! وخلال أقل من نصف ساعة كانت قريتنا وكل القرى المجاورة قد تحررت من التنظيم وبينما كنتُ جالسة في مكاني أنا وبقية النسوة أتت ابنتي وهي تحضر والدها الذي كان مكبلا بالسلاسل ويبدو عليه آثار التعذيب. فكت قيوده وقبلت رأسه:

  • والآن يا أبي أما زلتُ عاراً في عينك!

لم يرفع والدها رأسه خجلا ً وندماً مما فعله وظلت الدموع تنهمر من عينيه كما لو أن العواصف قد حلت على مقلتيه. مجيباً إياها:

  • أنا العار ولا استحق أن أكون أباً لابنة عظيمه مثلكِ ابنة بألف رجل. اذهبي يا ابنتي فهذا الوطن بحاجه لأمثالكِ إن تراب الوطن يرخص له الغالي والنفيس وترخص له أرواحنا وأبناؤنا.

 قبّلت رأسيّنا وصعدت مع أصدقاءها السيارة العسكرية، وكانت مبتسمة، ورحلت.

حينها أدركتُ أنني لما أنجب لنفسي ابنه فقط، ولكنني أنجبت الخلاص لهذا الوطن.

العار ليس أن نملك الأبناء أو لا نملك، أن نملك البيوت أو لا نملك، أن نملك المال أو لا نملك، بل العار أن نحيا في وطن محتل ونحن قادرون على تحريره بعزمنا وإرادتنا وتكاتفنا وتخلينا عن الأنانية وحب الذات. جسد المرأة ليس عاراً، العار الاكبر هو التخلي عن الكرامة والقيم الوطنية.

 

القاصة سوزان مصطفى البوظان/ مدرسة وملمة بالأمور الثقافية وتمارس موهبة الكتابة من الشعر والقصة القصيرة والمسرح والمقالة/ ولها العديد من المشاركات في المهرجانات الثقافية والأدبية/