المرأة الشركسية عبق من الماضي وقوة للمستقبل
المرأة الشركسية عبق من الماضي وقوة للمستقبل
“المرأة الشركسية التي لا تعبّر سوى
عن الأصالة والصبر
والتي استطاعت أن تحمل الثقافة الشركسية على عاتقها”
هند داغستاني
عضوة الجمعية الخيرية الثقافية الشركسية
إذا تطرقنا إلى المرأة الشركسية منذ القدم نجد من دراسة النصوص القديمة المتعلقة بالمرأة الشركسية، مدى مساهمتها الإيجابية في شؤون الحياة الخاصة والعامة، ونقف على ما كان لها من الاحترام والتقدير من خلال تعاونها مع المجتمع وإصباغ صفات الحكمة والحزم والمعرفة، بالإضافة إلى الحفاظ على أديغا خابزا (العادات والتقاليد) التي تعتبره بمثابة قانونا غير مكتوب وتربية اطفالها على هذا المبدأ.
بعد أن تم تحرير المدينة (منبج) من سطوة مرتزقة داعش التي لا تختلف عن سابقيها في الهيمنة على المنطقة، حيث مارست ذات الطقوس في طمس هوية وثقافة المكونات والمرأة على وجه الخصوص. لذا كان لزاماَ على المكونات أن تعيد إحياء ثقافتها وهويتها التي تعرف بها، لا سيما في ظل وجود الإدارة الذاتية الديمقراطية، والتي أتاحت المجال بل وشجعت كل المكونات أن تعيد تاريخها وحضارتها عبر ثقافتها وخصوصية المرأة التي تمر الحضارة والثقافة والتقدم من خلالها. وانطلاقاً من هذا تم تأسيس الجمعية الشركسية في مدينة منبج بعام 2018 والتي كان للمرأة الشركسية الدور الأبرز في إنشائها، لان المرأة الشركسية تعتبر مثالاً للمرأة الحرة القوية المناضلة.
اشتهرت المرأة الشركسية بجمالها ورشاقتها وعرفت بأنها من بين أجمل النساء في العالم، إضافة إلى ذكائها وحكمتها التي تضعها في مقدمة النساء الأكثر مثالية، ومثالاً على تطورها في الحكمة والذكاء. تعتبر المرأة الشركسية من أوائل اللواتي استخدمن اللقاح ضد الجدري، حيث كانت المرأة تحدث شق في جلد الطفل في شهوره الأولى وتضع بذور للجدري من شخص اخر مصاب لكي يكون بمثابة اللقاح المضاد ويقوي مناعة الطفل لمواجهة الجدري، من هنا يظهر عمق أصالة المرأة الشركسية وارتباطها بالمجتمع الطبيعي.
إن المرأة الشركسية ليست مستثناة عن باقي النساء في ممارسة السلطة والهيمنة عليها، والمحاولات المستمرة من أجل إخفاء صوت المرأة وإبعادها عن ساحة الحياة المجتمعية والساحات الأخرى، فقد عانت الكثير وذاقت الويلات على مر التاريخ من السلطات الديكتاتورية التي تنتهج الفكر الذكوري.
إن ما عانته المرأة الشركسية في المرحلة الأصعب من التاريخ والتي تتمثل بالتهجير من الوطن الأم على يد القيصر الروسي الثاني والسلطنة العثمانية على حد سواء، إذ يعتبر ذلك التهجير الذاكرة المؤلمة للشركس في القرن الثامن عشر، وعلى الرغم من هذه المأساة كان للمرأة الشركسية رأي آخر وجعلت من هذه المعاناة نقطة تحول جديدة؛ لأنها لم تستكين أو تشعر بالضعف بل على العكس من ذلك لعبت المرأة دوراً كبيراً في المرحلة الجديدة للشركس الذين تم تهجيرهم. وساهمت بشكل فعال في إعادة بناء الأسرة والمحافظة على القيم والمبادئ للمكون لا سيما بعد التوطين في بقع جغرافية تحتوي على العديد من المكونات.
فكانت المحافظة على الثقافة والتمسك بالعادات والتقاليد من أهم التحديات للمرحلة الجديدة وكل ذلك كان بمساهمة المرأة الفعالة، وقبل ذلك كله شاركت المرأة الشركسية في حرب المئة عام المشهورة في تاريخ الشركس وكانت في ساحات القتال جنبا إلى جنب مع الرجل، وهذا يعطي الانطباع الواضح لقوتها وعزيمتها عبر التاريخ، والتي لم ترضى بالظلم والاستغلال الممارس بحقها وبحق أبناء شعبها.
في ظل السلطات التي تعاقبت على مدينة منبج بدءاً من نظام حكم حزب البعث وصولاً إلى مرتزقة داعش، كانت قد عانت المرأة الكثير وحرمت من غالبية حقوقها الاجتماعية والسياسية وحتى الفكرية، إلا أن المجتمع الشركسي وبفضل المرأة كما أسلفنا استطاعت الحفاظ على القيم التشاركية بين الرجل والمرأة، والمحافظة على وجودها ضمن العائلة بحفاظها على الموروث الثقافي ومجموعة القيم التي بنيت عليها الأسرة الشركسية وأورثتها للأجيال المتعاقبة. بعد تحرير المدينة وإنشاء النظام الديمقراطي استطاعت أن تأخذ دورها في المجتمع بدخولها في كافة الميادين، وإظهار ما لديها من قوة وتنظيم ذاتي في كافة مجالات الحياة، والثمرة الأولى كانت افتتاح الجمعية الشركسية.
إن عام 2023 كان عاماً مليئاً بالتحديات وعلى كافة الأصعدة ولكن بقوة وعزيمة المرأة ووعيها جعلته عاماً للإنجازات والانتصارات. إن ما أحدثته ثورة المرأة في إقليم شمال وشرق سوريا يعتبر إنجازاً غير مسبوق في التاريخ بالنسبة لها لما عانته على مر العصور. ومن هذا المنطلق وكون أن المرأة الشركسية أصبحت موجودة وبشكل فعال في كافة مجا لات الحياة وبطبيعة الحال القفزة النوعية التي حققتها المرأة في التخلص من الممارسات التي كانت تمارس بحقها، أثبتت وجودها في كافة الميادين السياسية والعسكرية وغيرها، والتي جعلتها في المقدمة في طريق مستقيم وثابت نحو التطور الذاتي والتقدم على مستوى الحقوق ووصول المرأة إلى مكانها الصحيح بعد سنين عجاف، ومشاركتها في نظام الرئاسة المشتركة وإحداث المؤسسات الخاصة بها، يعتبر من أعظم إنجازاتها.
إن ميدان العمل السياسي والعسكري الذي كان حكراً على الرجل، استطاعت المرأة أن تغير هذا المفهوم بإثبات قوتها ونشاطها الملحوظ فيه. كان دور المرأة الشركسية وبصمتها واضحة في المجال السياسي من خلال حضورها في المؤتمرات والندوات وطرحها للكثير من القضايا السياسية بمنظور المرأة، إضافة إلى إقامة ندوات ومحاضرات خاصة بها وتقديم الأطروحات والحلول للعديد من الأزمات السياسية والاجتماعية.
المرأة منذ بداية التاريخ كان اسمها الواهبة للحياة، إلا أن التسلط الذكوري جعل من المرأة أداة وسلعة يحتكرها ويقلبها كما يقلب الفران العجينة بين يديه، وعلى الرغم من مرور آلاف السنين على انكسار المرأة ومحاولة العديد من الحركات لاسترداد حرية وجوهر المرأة؛ إلا أنها لم تأخذ سوى الشكل الصوري حتى ظهر الفكر العصراني المنير لدرب المرأة المتمثل برفيق المرأة المفكر عبد الله أوجلان والتي استطاعت المرأة وخصوصاً الشركسية من خلال أطروحاته وأفكاره أن تنفض غبار التاريخ المزيف عنها، وتقف شامخة مرة أخرى لتسير على درب واضحة المعالم، بداية من التعمق في جوهرها وثقافتها وصولاً إلى حقيقة قوتها واسترداد حريتها وشخصيتها الطبيعية المستنبطة من جمال الجبال وصلابتها. فإن أيديولوجية تحرر المرأة تعتبر بداية جديدة من أجل الوصول إلى أيديولوجية مجتمعية قائمة على أسس ومبادئ التشاركية وضمان الحقوق الثقافية والسياسية والاجتماعية.
ساهمت الجمعية الشركسية بإحياء الثقافة الشركسية التي عملت السلطات المتعاقبة على دثرها، حيث سعت الجمعية إلى إعادة إحياء ونشر الثقافة الشركسية والعودة إلى العادات والتقاليد لإيصالها للأجيال القادمة. وذلك من خلال كافة فعاليات الجمعية للمرأة الشركسية. هذه حقيقة علينا كتابتها وهي؛ أن الكثير من نساء المكونات الأخرى تم طمس كافة حقوقهن المشروعة.
فقد اجتمع الشركس والشركسيات في مقاطعة منبج في هذه الجمعية. فالجمعية هي الحاضنة والملتقى لهم ولهن، إضافة إلى إقامة الدورات التثقيفية التي من شأنها أن تعلم الأطفال اللغة والعادات والتقاليد الأصيلة. وكل هذا بجهود المرأة التي لا تفوت فرصة للمحافظة على الثقافة، وتعتبر تلك الثقافة مقدسة وقيمة. ومن أهمها على سبيل المثال؛ طقوساتها في الرقصات الفلكلورية، والأكلات الشعبية، واحترام المرأة (الأم)، وإقامة الملتقيات بين أبناء المكون واحترام تقاليد وأصول الزواج.
يعتبر الشركس شعبا محبا للحياة، نابضا بالبهجة، لذلك هناك مثل شركسي معروف يقول: “إن من لا يجيد الرقص لا يجيد الحرب”. وهذا يعني أن الرقص هو تدريب على القتال وتمرين للرشاقة أكثر مما هو مجرد ترفيه. لذلك يعتبر الرقص الشركسي بالنسبة لمجتمعه هو تجسيد للكثير من الصفات والطقوسات الثقافية. وهو فن رفيع المستوى، وذلك أن الشعب الشركسي من الشعوب التي تعنى بتحضير وتجهيز المقاتلين نظراً لكثرة الأعداء والجرائم التي كانت تمارس بحقهم/بحقهن من قبل القياصرة الروس، فهم أجبروا أن يكونوا مقاتلين أشداء وحماة للوطن.
أيضاً الأكلات التراثية تعتبر موروث ثقافي هام في الذاكرة الشركسية. ومن الأكلات (الشبسه باستا) ومن المشروبات (النوغا شاي)، والزي أو اللباس الشركسي الذي يميز المكون عن باقي المكونات ويعتبر الزي من الثوابت في العادات والتقاليد ويعبر عن التاريخ المتمثل بالقتال والحروب التي خاضها. وأيضاً هناك لباس خاص للأفراح ويسمى (التسي الشركسي)، ويتصف بالحشمة والأناقة والأصالة.
ومن التقاليد الشركسية إقامة ملتقى سنوي لكل أبناء المكون في السابع عشر من نسيان يتم الاجتماع وإقامة الاحتفالات، وذلك ابتهاجاً بمجيئ الربيع وبهدف تعميق رابط العلاقة بين أبناء المكون وتعرف بعضهم على بعض ويسمى (التيلي ماتش).
الجمعية الشركسية تقوم بكل واجباتها تجاه أبناء المكون، من أجل المحافظة على الهوية الشركسية ونظام الرئاسة المشتركة للجمعية. يعبر عن الدور الذي تلعبه المرأة في المحافظة على ثقافة المكون، حيث تم إنشاء فرق لتعليم الرقصات للأطفال والمشاركة في الاحتفالات العامة بهدف إظهار الثقافة الشركسية وأيضاً إقامة المعارض التراثية وإعطاء المحاضرات التعريفية بالمكون، وكل ذلك يتم بطليعة المرأة التي لها ما لها من التقديس في المجتمع الشركسي.
إن المرأة الشركسية الآن باتت موجودة في الأحزاب السياسية وميدان التعليم والقوات العسكرية وجميع مراكز صنع القرار؛ بل وتساهم بشكل فعال في صناعة القرار وإدارة المجتمع وهي تعبر في كل مكان تتواجد فيه عن ثقافتها وأصالتها الشركسية ويعبر ذلك عن مدى عمق التعايش المشترك بين جميع المكونات.
ويمكننا أن نلخص كل ما سبق بإيجاز عن جوهر المرأة الشركسية وما وصلت إليه من تطور وتقدم على هذه الشاكلة.
تلك المرأة القوية الحازمة، والرقيقة الجميلة الآتية من عبق التاريخ، تلك المرأة الشركسية التي لا تعبر سوى عن الأصالة والقوى التي استطاعت أن تحمل المجتمع الشركسي على عاتقها وتعالج انكساراته بفكرها المنير، وتمنح القوة والعزيمة لمواصلة المسير في رحلة الحياة لكل المكون الشركسي.
المرأة التي اتخذت قضية تحرير المرأة وأطروحات المفكر ورفيق المرأة القائد عبد الله أوجلان منهجا لها، جسدته من خلال مشاركتها الفعالة في مشروع الأمة الديمقراطية واضعة نصب عينيها أن تصل المرأة إلى مكانتها الذي تستحقه من المساواة وأخذها للحقوق المشروعة.
تلك الأصالة المنثور عبيرها قادمةً من تلك الجبال حيث أرض الأجداد امتدت جذورهم لتصل إلى حاضر يرسم خطوط المستقبل حاملاً شعلة الحرية الوضاءة لتنير للأجيال دروب الحرية.