منظور الجنولوجيا والحركات النسوية
منظور الجنولوجيا والحركات النسوية
” للجنولوجيا الدور البارز في إيصال الحركات النسوية
أينما كانت إلى سيرورة النضال الصحيح،
التدريبات المكثفة والحملات التوعوية أيضاً”
زهيدة معمو
للثورات النسائية بصمات تركتها على جدران تاريخ عريق ومازالت تزين تلك البصمات في أعالي الجبال والساحات، في المدن وفي قلب كل حضارة تركتها على حواف البلوط والسنديان، رسمت ونقشت ملاحمها على كل غصن زيتونة وعلى كل سنبلة زرعتها بأناملها وحصدت منها الإنسانية والسلام.
نعم عاشت البشرية بأكملها عصوراً من السلام والمحبة من الحياة التشاركية، من ألوهية النساء، فهن كن القائدات والرائدات في الساحات المجتمعية وإلا جانب المعارك التي تخوضها بصفة قيادية نابعة من إصرارها أن تكون متواجدة في جميع المجالات، لم تتقبل النساء أن يكن خلف الستار يوماً، بل كن دائماً جنباً إلى جنب مع الرجل، كانت أم، رفيقة، أخت وشريكة الحياة ومقاتلة مع رفاقها المقاتلين، اعتادت أن تكون ذات إرادة قوية ولها كينونتها الخاصة بها، ليست معبودة ولم تكن تابعة بل دائماً في المقدمة بفكرها وقوتها الروحية والجسدية معاً وبقيادتها في المعارك في كافة المجتمعات.
هؤلاء النسوة صنعن أيديولوجيتهن وقاومن ضد الظلم والفاشية ولم يقبلن القهر ولا الطغيان، وقفن في وجه كل محتل أراد أن يقضي على كل ما اكتسبته، على كل ما زرعته في روح الكون، لكن مع ظهور القوى الحاكمة التي سيطرت على عقول المجتمعات وخاصة على النساء؛ أبت أن تكون المعبودة للرجل وللسلطات التي باتت تحكم تلك المجتمعات حيث أرادت تلك الذهنية أن تفرض ما ليس للمرأة عليها.
فرض عليها الابتعاد عن كينونتها، والخوف والرعب، مع رفض في ذاتها للخنوع والرضوخ، وفرض عليها حياة التملك البعيدة كل البعد عما عاشتها في السابق.
إلا أنها أبت أن تستسلم بكل ما لديها، ففي كل مرحلة كانت النساء في المقدمة وقفن في وجه السلطة والقمع قاومن بشتى الوسائل، انتشرن في الساحات، تعالت الأصوات أمام من سرق منها مكتسباتها على مدار التاريخ وكأنها صرخة تيامات، لكن كان حصاد هذا كله أن تعاني النساء وتقابل أشد الممارسات فقُتلت واغتُصبت وعُذبت بكافة الأشكال الوحشية التي لا يستطيع العقل البشري تحملها. مستخدمين في ذلك كل السبل والوسائل التي لا يمكن تخيلها وتقبلها بدءاً من المقصلة وإلى الإعدام والتنكيل الجسدي وغيره فالتاريخ شاهد على ذلك.
وهنا؛ أيضاً أخفوا الحقائق ودفنوا آثار ما فعلت أيديهم وعقولهم بحق النساء. وأستطيع هنا ذكر بعض الحركات والثورات النسائية التي كان لها دوراً مهماً في استرداد جزء من حقوقها، فالنساء لم تقفن مكتوفات الأيدي على الرغم مما فعلته أيادي وعقول الاستبداد والهيمنة بهن.
ثورات الحركات النسوية
وهنا يجب تسليط الضوء على التاريخ مجدداً؛ لأن ما خفي كان جوهر الحقيقة بذاتها، وهذا ما يعمل عليه المستبدون ألا وهو إخفاء الجزء الحقيقي من التاريخ، وجعل المجتمع في حالة من الضياع عن ذاته وحقيقته. ففي العصور الوسطى ظهر ما سمي بصيد المشعوذات أو الساحرات، وتمثّلت تلك الصورة في أذهاننا وظننا أنها الحقيقة فقاموا بتشويه المعنى الحقيقي لتلك النساء اللاتي قُتلن بشكل وحشي على يد الأنظمة الحاكمة آنذاك، شوهت أجسادهن، اغتصبن … الخ فقط لأنهن نساء سخروا أنفسهن لخدمة ومنفعة المجتمع، لكن وكما نعلم أن صوت النساء وصداهن تثير الرعب في جوف المستبد والحكام، فنرى إلى يومنا الحالي هذه الصورة مشوهة وتظهر المرأة متمثلة بالمشعوذة والساحرة التي تدمر العلاقات الاجتماعية والمجتمع.
أيضاً في هولندا في العصر الحادي عشر والاثنا عشر ظهرت حركة باسم Beginanالتي طالبت بحق المساواة في المجال الاقتصادي وقتلوا هؤلاء النساء لأنهن طالبن بحقهن وأن المرأة ليست للإنجاب فقط. وفي بريطانيا حركة سوفراجت Sofracet ومنها إحدى الرائدات Olymp de Guoges التي طالبت في المساواة بالحقوق وأيضاً طالبت بأن يكون للمرأة دور في السياسة كما للرجل.
أما في روسيا وثورة أكتوبر التي كانت إحدى الرائدات فيها (ألكساندرا – كولونتوي)، طالبن بالحرية والاشتراكية معاً وأكدن على أنه لن تكون هناك حرية طالما لم تطبق الاشتراكية إلى جانبها. والشخصية الثورية (ناد يجدا) التي ناضلت وكانت امرأة ذات شأن وقائدة، فلم يذكر التاريخ أسماء هؤلاء النساء يوماً؛ بأنهن ناضلن لتحقيق العدالة والمساواة في المجتمعات وعلى وجه الخصوص بين الرجل والمرأة. لن ننسى الرائدات في الثورة الاشتراكية اللاتي عملن على تأسيس حركات نسوية وبالأخص كلارا زيتكن وروزا لوكسمبورغ اللاتي تركن بصمات نضالهن في كتب التاريخ وسارت الكثير من النساء على دربهن.
في دومينيكا الأخوات ميرابال وفي بوليفيا (جامايكا) الثائرة نانني، وفي مكسيك بيترا هيريرا، والنساء (zapatisata ) اللواتي ما زلن تقدن الثورة التي أطلقوها منذ ثلاثون عاما وإلى الآن تقدن وتنظمن المجتمع كنوع من تحقيق العدالة الاجتماعية وجعل المرأة قيادية في جميع مناحي الحياة …الخ
وفي جميع أنحاء العالم من آسيا، أوروبا، الشرق الأوسط والعديد من مكونات المجتمع والثقافات واللغات المختلفة نرى أصداء النساء قد تحولت إلى ثورة وحققت العديد من مطالبهن. يتوجب علينا ذكر الحركة الفامينية أيضاً التي تناضل ضد الأنظمة الفاشية والسلطة وجميع الذهنيات التي تحاول التجذر في عقول المجتمعات، هذه الحركة التي لها تاريخ ممتد عبر التاريخ وبدأت في العصر ما بين السابع والثامن عشر وبدأت من فرنسا إلى أن امتدت إلى كافة أنحاء العالم. وشكلت تيارات طالبت فيها الحقوق الجسدية والفكرية والعدالة الحقوقية والمساواة في الناحية الاقتصادية والقضاء على التعصب الجنسوي، إلى أن ظهرت وتفرعت منها أشكال عديدة كالفامينية الليبرالية، وفامينية النساء ذوات البشرة السوداء، والفامينية الراديكالية، الثقافية، الوجودية والكثير من التفرعات انتشرت بشكل أو بآخر.
فهذه الحركات النسائية مازالت إلى هذه اللحظة لها تأثير كبير في كل مجالات الحياة وحتى في الحفاظ على المكتسبات التي حققتها سواء بالنضال والكفاح أو بالسلم، حيث أننا نرى اليوم أن المئات من الحركات النسوية حول العالم تكدح بقوة لتحقيق مطالبها من الحرية والديمقراطية والسلام. إلا أن هناك بعض الأخطاء أيضاً علينا أن نسلط الضوء عليها بالأخص كـ جنولوجيا أي علم المرأة والحياة.
حيث للجنولوجيا منظار آخر في هذا الموضوع؛ لأنه علم يخص النساء وتنظيمهن وتدريبهن أيديولوجياً كما يخص المجتمع بشكل عام وبما أن الجنولوجيا لا تختص بنضال النساء والمجتمع الكردي فقط؛ بل ولجميع النساء من كافة المجتمعات والمكونات والثقافات فإنها تسير على خطى تلك الثورات التي أقامتها النساء. بل وتعتبر أنها الداعم الأساسي لهن في تطوير المجتمع وتصحيح المسار والوصول إلى الأهداف المرجوة.
سيسيولوجيا الحرية
وبشأن هذا الموضوع بحد ذاته يقيم ويحلل المفكر الكردي عبد الله أوجلان في المجلد الثالث من مرافعته “سوسيولوجيا الحرية” حول الفامينية والحركات النسائية إلى يومنا هذا وماهيتها بطريقة النقد البناء وكيف علينا الاستفادة من الأخطاء التي ارتكبت في تلك المراحل السابقة وما هو مترتب علينا كـ جنولوجيا أن نقوم به إزاء ما حدث من تجارب وأخطاء.
إننا اليوم نريد أن نتعمق أكثر في جوهر هذه الحركات والتنظيمات النسوية فهن كن في البداية وخضن الكثير من التجارب الحياتية والعملية فيقول: “لا ريب أنه ينبغي على الحركة الفامينية أن تكون الحركة الأكثر راديكالية في مناهضة النظام على ضوء هذه الحقائق. فالحركة النسائية التي يمكن غزو أصولها بحالتها العصرية إلى الثورة الفرنسية قد وصلت إلى يومنا بعد مرورها بعدة مراحل، حيث اندفعت في المرحلة الأولى وراء المساواة القانونية، وكادت هذه المساواة التي لا تعني الكثير تتحقق بزواج شائع في يومنا، ولكن ينبغي الإدراك جيداً أنها خاوية المضمون. إذ ثمة تطورات شكلية في حقوق الإنسان، مثلما الأمر في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوق الأخرى. فالمرأة حرة ومتساوية مع الرجل ظاهرياً، بينما أهم الأشكال الضلال مخفي في هذا النمط من المساواة والحرية، فالمرأة التي تعرضت ذهناً وجسداً إلى الأسر والاستغلال، وحكم عليها بأقصى درجات العبودية والكدح اللامحدودين، ليس في عهد الحداثة الرأسمالية، بل وفي ظل جميع أنظمة المدنية الهرمية والدولتية السائدة على مر العصور والتي تغلغلت إلى كافة الأنسجة الاجتماعية، إن حرية هذه المرأة ومساواتها وديمقراطيتها تقتضي الأنشطة النظرية الشاملة والصراعات الأيديولوجية والنشاطات المعنية بالمنهاج والتنظيم. والأهم من ذلك أنها تتطلب الممارسات الوطيدة، فمن دون كل ذلك، لن تذهب الفامينية والنشاطات النسائية في معناها أبعد من كونها فعاليات ليبرالية تسعى إلى الترويح عن النظام القائم”.
واستمرارا لثورات النساء حول العالم، كان ومازالت للنساء الكرديات الدور البارز في تنظيم أنفسهن وكانت الشهيدة ساكينة جانسز إحدى المناضلات التي سارت على درب النساء الكرديات في الثورات والانتفاضات في كردستان بأكملها، كانتفاضة الشيخ سعيد في جنوب كردستان، ومقاومة النساء في قلعة دمدم وغيرها من الثورات والانتفاضات التاريخية التي أبدت النساء فيها بطولات ملحمية إلى جانب الرجال. واليوم أيضاً في جبال كردستان نرى قوات الكريلا أي قوات الدفاع عن الشعب وYJA STAR تبدي ملاحم ثورية في حماية المكتسبات التاريخية للمجتمع الكردي ومكتسبات المرأة.
فالرائدات كـ الشهيدة ساكينة جانسيز وزيلان، وبريتان كن الرائدات في تشكيل أرضية للتنظيم الخاص بالمرأة؛ لتكون الدرع الحامي لهن ولمكتسباتهن. وكان تأسيس التنظيم النسائي الذاتي الأول تحت مسمى اتحاد النساء الوطنيات الكردستانيات في أوروبا YJWK) – (YAJK أي اتحاد حرية المرأة الكردستانية ووصولاً لتشكيل منظومة المرأة (KJK) الآن.
أما الشهيدة بريتان أبدت مقاومة لا مثيل لها والتي برهنت بهذه المقاومة على عزم المرأة على التحرر وتحديها لكل العقبات والعراقيل، وبرهنت أيضاً على قدراتها القتالية كمحاربة في الجيش. وقد تطورت فعاليات وتأسيس الجيش الخاص بالمرأة عام ١٩٩٣ وكانت أول تجربة محققة أسفرت عن تجارب وخبرات هامة للغاية بالنسبة لتاريخ المرأة.
وفي ٣٠ حزيران من عام ١٩٩٦ أضيفت معاني سامية على تأسيس اتحاد حرية المرأة الكردستانية في ١٩٩٨ من خلال الإعلان عن مشروع أيديولوجية تحرير المرأة المبنية على خمسة مبادئ أساسية لتنظيم وتقوية المرأة وهي (الوطنية، الإرادة الحرة والفكر الحر، بلوغ المرأة لتنظيم معتمد على الفكر والإرادة الحرة، تطوير النضال على أساس الجمالية والأخلاق).
وكلهن بتضحياتهن كن الرائدات ولهن الدور الأساسي في تأسيس تحليلات الجنولوجيا في مرحلة الثورة حيث كان مهماً للغاية ضمن الميدان الاجتماعي من ناحية التنظيم واكتساب النساء التجارب، فهي خطوة استراتيجية وتاريخية لا يمكن الاستخفاف بها، وكانت الشرط الأساسي للانتقام من تاريخ عبودية المرأة والتوجه نحو حرية المرأة بكل ما للكلمة من معنى.
الدور البارز للجنولوجيا
لذا نرى أن للجنولوجيا الدور البارز في احتضان تلك الحركات النسائية وشكلت اللبنة المجتمعية لها، حيث أنها قامت بالتشبيك مع تلك الحركات والمنظمات التي تعنى بالمرأة وحقوقها، وتعرفت إلى الكثير من النساء اللاتي يطالبن بالمساواة بين الرجل والمرأة. لذا كان من المهم جداً أن يكن شاهدات على المكتسبات التي أسستها النساء، بدءاً من حركة تحرر المرأة في الجبال والسجون، واستمراراً إلى المناطق والبلدان التي هي اليوم تحتضن النساء من كافة مكونات المجتمع في كردستان بشكل عام، وفي شمال وشرق سوريا بشكل خاص.
فهناك العديد من النساء الأمميات من كافة الدول الأوروبية؛ ينجذبن إلى الأفكار المتشابهة والمترابطة بيننا نحن النساء في جميع أنحاء العالم، فأكاديمية الجنولوجيا كثّفت ووسّعت أعمالها ونشاطاتها بشكل منظم في بعض الدول الأوروبية التي نستفيد اليوم من تجاربهن أيضاً. فهناك العديد من النساء الأوروبيات اللاتي يعملن بفلسفة الجنولوجيا، ولم تكتف بذلك فقط بل توسعت إلى الشرق الأوسط فهي تحتضن في ثناياها كل امرأة بحاجة إلى ارتشاف الحرية؛ لتستعيد أجنحتها وتحلق في سماء الحرية، وهنا؛ أيضاً للمفكر عبد الله أوجلان رأي في تقديم سبل الحل للوصول إلى الأهداف المرجوة.
أستطيع القول؛ بأن للجنولوجيا الدور البارز والهام والتاريخي في إيصال المرأة أينما كانت إلى المرأة الحرة والواعية أي الحياة الصحيحة. التدريبات مكثفة والحملات التوعوية أيضاً مكثفة. حتى هنا في لبنان وعلى مستوى دول الشرق الأوسط نحاول من خلال عقد الكثير من الندوات والملتقيات وبجمع الاتحادات النسائية، خلق تلك الطاقة التنظيمية المجتمعية ووضعها في المسار الصحيح. من المعيب أن نتحدث عن المرأة الموجودة جسدياً والميتة فكرياً. فمن أهدافنا الأساسية؛ هي تحويل المرأة البعيدة عن حقائقها إلى تلك التي ترجع للأصل الإنساني الألوهي وتلعب دورها الريادي كما هي في المجتمع.