ينبغي إخراجَ المرأةِ من كونِها الأمَّ المقدسةَ والشرفَ الأساسيَّ والزوجةَ التي لا استغناءَ عنها ولا حياةَ بدونها
ينبغي إخراجَ المرأةِ من كونِها الأمَّ المقدسةَ والشرفَ الأساسيَّ
والزوجةَ التي لا استغناءَ عنها ولا حياةَ بدونها
“إذا كانت الوردة جمالاً (estetîk) فالشوكة تكون أخلاقها (etîk)،
وجود الجمال بدون الأخلاق،
لا معنى لوجود ذاك الجمال،
وإذا اتخذنا مفهوم الجمال بدون الأخلاق وحسب منظار الحدثة الرأسمالية،
فسيظهر لدينا معادلة عجيبة،
علينا تقيم الأخلاق والجمال من منظار اجتماعي”
المفكر عبدالله أوجلان
إنّ النظرَ إلى المرأةِ كجنسٍ بشريٍّ له فوارقُه البيولوجية، يَتَصَدَّرُ العواملَ الأساسيةَ للعَمى فيما يخصُّ الواقعَ الاجتماعي. إذ مِن المحالِ أنْ يَكُونَ الاختلافُ الجنسيُّ بمفردِه سبباً لأيةِ قضيةٍ اجتماعيةٍ كانت. فكيفما لا يتمُّ تناوُلُ ثنائيةِ كلِّ ذَرَّةٍ لأيِّ كائنٍ حيٍّ في الكون على أنها مُعضِلة، كذا الثنائيةُ في وجودِ الإنسانِ أيضاً لا يُمكِن تعاطيها كقضية. أما الجوابُ على سؤالِ “لماذا الوجودُ ثنائيّ؟”، فلا يُمكِن إلا أنْ يكون فلسفياً. قد تبحثُ التحليلاتُ الأونطولوجيةُ (علم الوجود) عن جوابٍ لهذا السؤال (وليس القضية). أما جوابي، فكالتالي: لا يُمكِن تأمينَ وجودِ الوجودِ خارجَ إطارِ الثنائية. الثنائيةُ هي النمطُ الممكن للوجود. فحتى لو لَم تَكُن المرأةُ والرجلُ بحالِهما القائمة، وكانا منفردَين (لا قرينَ لهما)؛ فلن يستطيعا الخلاصَ مِن تلك الثنائية. هذا هو الحدثُ المسمى بالجنسانيةِ المزدوجة (الخِناثة). ينبغي عدمَ الاستغراب. لكنّ الثنائياتِ مَيَّالةٌ دوماً للتَكَوُّنِ المختلف. ولدى البحثِ عن برهانٍ فيما يتعلقُ بالذكاءِ الكونيِّ المطلق Geist، بالمقدورِ البحث عنه في ميولِ هذه الثنائيةِ أساساً. كِلا طَرَفَي الثنائيةِ ليسا جيدَين أو سيئَين. بل هما مختلفان، لا غير. ويجب أنْ يَكُونا مختلفَين بالضرورة. فإذا ما تَماثَلَت الثنائيات، فمن المحالِ تَحَقُّق الوجود. وعلى سبيلِ المثال، مِن المستحيلِ عندئذٍ حلّ قضيةِ التناسلِ في الوجودِ الاجتماعيِّ مِن خلالِ امرأتَين أو رَجُلَين. تأسيساً عليه، فسؤالُ “لماذا المرأةُ أو الرجل؟” لا قيمةَ له. وإذا كان لا بُدَّ مِن جوابٍ عليه، فبالمستطاعِ إعطاءَ جوابٍ فلسفيٍّ مفادُه أنّ الكونَ يجبُ أنْ يَتَكَوَّنَ هكذا بالضرورة (مُرغَماً، مَيَّالاً، عاقلاً، راغباً)، لا غير.
مِن هنا، فالبحثُ والتمحيصُ في المرأةِ باعتبارها كثافةَ العلاقاتِ الاجتماعية، ليس ذا معنى فحسب، بل ويتسمُ بأهميةٍ قصوى مِن حيث تَخَطّي (تفكيك) العُقَدِ الاجتماعيةِ العمياءِ أيضاً. وبما أنّ الرؤيةَ الرجوليةَ السلطويةَ قد خُلِعَت عليها مِسحةٌ من المَناعةِ والحَصانة، فإنّ تحطيمَ العَمى المعنيِّ بالمرأة بمثابةِ ضربٍ من تحطيمِ الذَّرَّة، إذ يتطلبُ بذلَ جهودٍ فكريةٍ عظمى وكسرَ شوكةِ الرجولةِ السلطوية. أما في جبهةِ المرأة، فينبغي تحليلَ وتفكيكَ المرأةِ المُنشَأةِ اجتماعياً في الأصل، والتي تَكادُ تَجعلُ مِن ذلك نمطاً وجودياً لها؛ وتحطيمَها بالمثل. فالإحباطاتُ المُعاشةُ في نجاحِ أو فشلِ كلِّ كفاحاتِ الحريةِ والمساواةِ والديمقراطيةِ والنضالاتِ الأخلاقيةِ والسياسيةِ والطبقية (العجز عن تجسيد اليوتوبيات والمناهج والمبادئ في الحياة العملية)، مشحونةٌ بآثارِ شكلِ العلاقةِ الحاكمة (السلطوية) التي لَم تتحطم (فيما بين المرأة والرجل). ذلك أنّ العلاقاتِ المُغَذِّيةَ لشتى أنواعِ اللامساواةِ والعبوديةِ والاستبداد والفاشيةِ والعسكرتاريةِ تستقي مصدرَها العينَ مِن شكلِ العلاقةِ ذاك. بالتالي، إذا كُنّا نَوَدُّ إضفاءَ السَّرَيانِ الذي لا يُسَبِّبُ خيبةَ الأملِ والإحباطَ فيما يتعلقُ بالكلماتِ التي طالما يَدُورُ الحديثُ عنها، مِن قَبيلِ المساواة والحرية والديمقراطية والاشتراكية؛ فينبغي حينها تفكيكَ وتمزيقَ شبكةِ العلاقاتِ المنسوجةِ حولَ المرأة، والتي هي قديمةٌ بقدرِ قِدَمِ علاقةِ الطبيعةِ والمجتمع. وفيما خلا ذلك، ما مِن سبيلٍ آخَر يؤدي إلى الحريةِ والمساواة (الملائمة للفوارق) والديمقراطيةِ الحقيقيةِ والأخلاق غيرِ الازدواجية.
منذ ظهورِ الهرميةِ أُضفِيَ المعنى على التعصبِ الجنسويِّ كأيديولوجيةِ السلطة. إنه مرتبطٌ عن كثب بالتحولِ الطبقيِّ والسلطويّ. كلُّ البحوثِ والمشاهداتِ الأثريةِ والأنثروبولوجية والراهنةِ تدلُّ على أنه ثمة مراحلُ كانت المرأةُ فيها منبعَ الاقتدار، وأنها استمرَّت مدةً طويلةً من الزمن. هذا الاقتدارُ ليس بسيطرةِ السلطةِ المتأسسةِ على فائضِ الإنتاج، بل بالعكس، إنه اقتدارٌ ينبعُ مِن العطاءِ والإنجاب، ويُعَزِّزُ الوجودَ الاجتماعي. ذلك أنّ الذكاءَ العاطفيَّ الذي لا يَبرَحُ قويَّ التأثيرِ لدى المرأة، له أواصرُه الوطيدةُ مع ذاك الوجود. وعدمُ احتلالِ المرأةِ مكاناً ملحوظاً في حروبِ السلطةِ المتأسسةِ على فائضِ الإنتاج، وكذلك نمطُ وجودِها الاجتماعي؛ إنما مرتبطان بوضعها هذا.
تشيرُ اللُّقى التاريخيةُ والمشاهَداتُ اليوميةُ بجلاءٍ ساطع إلى أنّ الرجلَ لَعِبَ دوراً ريادياً في تَطَوُّرِ السلطةِ المتمحورةِ حول النظامِ الهرميِّ والدولتي. ولتحقيقِ ذلك كان ينبغي تَخَطّي وكَسرَ شوكةِ اقتدارِ المرأةِ المتنامي حتى آخِرِ مرحلةٍ مِن المجتمعِ النيوليتي. هذا وتُؤكِّدُ اللُّقى التاريخيةُ والمشاهَداتُ اليوميةُ مرةً أخرى أنه تَمَّ خوضُ صراعاتٍ ضاريةٍ متنوعةِ الأشكالِ وطويلةِ المدى ضمن هذا السياق. والميثولوجيا السومريةُ بالأخص مُنيرةٌ للغاية، وكأنها تكادُ تَكُونُ ذاكرةَ التاريخِ والطبيعة الاجتماعية.
تاريخُ المدنيةِ هو تاريخُ خُسرانِ وضياعِ المرأةِ في الوقتِ نفسه. هذا التاريخُ بآلهته وعباده، بحُكامه وأتباعه، باقتصادِه وعلمه وفنه؛ هو تاريخُ رسوخِ شخصيةِ الرجلِ المسيطر. بالتالي، فخُسرانُ وضياعُ المرأةِ يعني التهاويَ والضياعَ الكبيرَ باسمِ المجتمع. والمجتمعُ المتعصبُ جنسوياً هو ثمرةُ هذا السقوطِ والخُسران. فالرجلُ المتعصبُ جنسوياً يتميزُ بِنَهَمٍ كبيرٍ لدى بسطِه نفوذَه الاجتماعيَّ على المرأة، لدرجةِ أنه يُحَوِّلُ أيَّ تَماسٍّ معها إلى استعراضٍ للسيطرة. إذ بُسِطَت علاقةُ السلطةِ باستمرار على ظاهرةٍ بيولوجيةٍ كالعلاقةِ الجنسية. فلا يَنسى الرجلُ بتاتاً أنه يُضاجِعُ المرأةَ جنسياً بنشوةِ الانتصارِ عليها. لقد كَوَّنَ عادةً جِدَّ وطيدةٍ على هذا الصعيد، وابتَدَع الكثيرَ من العباراتِ مثل: “تَمَكَّنتُ منها”، “أَنهَيتُ أمرَها”، “العاهرة”، “لا تُنقِصْ المَنيَ من رَحمِها، ولا العصا عن ظهرِها!”، “الفاحشة، المومِس”، “إنه صبيٌّ كالبنت”، “إذ ما أَطلَقتَ عِنانَ ابنتِكَ، فستَهربُ إلى الطَّبَّالِ أو الزَّمَّار”، و”اعقِلْها فوراً” وغيرها مِن القصصِ غيرِ المعدودةِ التي يُضرَبُ بها المَثَل. ساطعٌ سطوعَ الشمسِ كيف تُؤَثِّرُ العلاقةُ بين الجنسويةِ والسلطةِ ضمن المجتمع. فحتى في يومنا الراهنِ يَتَمَتَّعُ الرجلُ بحقوقٍ لامَعدودةٍ على المرأة، بما فيها “حقُّ القتل”؛ كواقعٍ سوسيولوجيٍّ قائم. وتُمارَسُ تلك الحقوقُ يومياً. بالتالي، فالعلاقاتُ تتسمُ بطابعِ الاعتداءِ والاغتصابِ بنسبةٍ ساحقة.
نشِئَت الأسرةُ كدولةِ الرجلِ الصغيرةِ بموجبِ هذا المنظورِ الاجتماعي. وما الرسوخُ المستمرُّ للمؤسسةِ المسماةِ بالأسرة بنمطها الحاليِّ على مَرِّ تاريخِ المدنية، إلا بسببِ القوةِ التي تُزَوِّد بها أجهزةَ السلطةِ والدولة. أولاً؛ يتمُّ فرض التَحَوُّلِ السلطويِّ على الأسرةِ بالتمحورِ حول الرجل، لِتغدوَ خليةَ مجتمعِ الدولة. ثانياً؛ يتمُّ ضمان عملِ المرأةِ فيها بلا حدود أو مقابل. ثالثاً؛ تُنشِئُ الأولادَ بغرضِ تأمينِ الحاجةِ السكانيةِ اللازمة. رابعاً؛ تؤدي دورَ النموذجِ في نَشرِ السقوطِ والتَّرَدِّي والعبوديةِ بين صفوفِ المجتمعِ بأكمله. في الحقيقة، الأسرةُ بمضمونِها هذا تُعَدُّ أيديولوجيا. إنها المؤسسةُ التي نَشَطَت فيها الأيديولوجيةُ السلالاتية. فكلُّ رجلٍ في الأسرةِ ينظرُ إلى نفسه وكأنه صاحبُ مَملَكة. للأيديولوجيةِ السلالاتيةِ تلك تأثيرُها البليغُ المُتَسَتِّرُ وراء النظرِ إلى الأسرةِ كواقعٍ جدِّ هام. وبقدرِ ما يزدادُ عددُ النساءِ والأطفالِ في الأسرة، يَتَمَتَّعُ الرجلُ بالضمانِ والشرفِ بالمثل. مِن المهمِّ أيضاً تقييمَ الأسرةِ بوضعها الحاليِّ كمؤسسةٍ أيديولوجية. فإذ ما سَحَبتُم المرأةَ والأسرةَ بوضعهما القائمِ مِن تحتِ نظامِ المدنية، أي السلطة والدولة؛ فلن يتبقى إلا النذرُ القليلُ باسمِ النظام. إلا أنّ ثمنَ هذا الطرازِ هو نمطُ وجودِ المرأةِ المؤلمِ والبائسِ والمقهورِ والمتردي والمهزومِ في ظلِّ حربٍ دائمةٍ منخفضةِ الشدةِ ولا هوادةَ فيها. وكأنه “احتكارُ الرجل” المُسَلَّطُ على عالَمِ المرأةِ كسلسلةٍ احتكاريةٍ ثانيةٍ موازيةٍ ومشابهةٍ لِما فَرَضَته احتكاراتُ رأسِ المالِ على المجتمعِ طيلةَ تاريخِ المدنية. بل وهو الاحتكارُ الأعتى والأقدم عمراً. مِن هنا، فتقييمُ وجودِ المرأة بِعالَمِ المستَعمَرةِ الأقدم، سيؤدي إلى نتائجَ أكثر واقعية. وربما من الأصحِّ نَعتَ النساءِ بأقدمِ شعبٍ مستعمَرٍ لَمْ يصبح أُمّة.
أما الحداثةُ الرأسمالية، ومثلما لَم تُصَيِّرْ الوضعَ المتوارَثَ حراً تَسُودُه المساواةُ رغمَ كلِّ التزييناتِ الليبراليةِ البراقة، فقد أضافت إليه وظائفَ جديدةً على عبءِ المرأة، فأَقحَمَتها في وضعٍ أشدّ وطأةً مِن سابقه. فالأوضاعُ مِن قبيل: العاملة الأرخص، عامِلة المنزل، العاملة المجانية، العاملة المرنة، والخادمة؛ تشير إلى وضعٍ أَشَدَّ وطأة. وفوق هذا، تَجَذَّرَ استغلالُها أكثر فأكثر ككائنٍ أو كأداةٍ مُفَضَّلَةٍ في الإعلامِ المُصَوَّرِ والدردشةِ والدعايات. فحتى جَسَدُها يُبقى عليه ضمن مستوى السلعةِ التي لا غِنى لرأسِ المالِ عنها، كونَها أداةَ الاستغلالِ الأكثر تنوعاً. إنها أداةُ الدعايةِ المُثيرة على الدوام. وباقتضاب، هي أكثرُ ممثلي العبوديةِ العصريةِ عطاءً. فهل يُمكِن تَصَوُّرَ سلعةٍ أفضلُ وأثمنُ مِن العبدِ الذي يَدُرَّ الأرباحَ الطائلة، ويَكُونُ أداةَ متعةٍ لامحدودةٍ في آنٍ معاً؟
ينبغي إخراجَ المرأةِ من كونِها الأمَّ المقدسةَ والشرفَ الأساسيَّ والزوجةَ التي لا استغناءَ عنها ولا حياةَ بدونها، والبحثَ فيها بوصفِها مجموعاً كلياً من الذات والموضوع. بالطبع، يتوجبُ أولاً صونَ هذه البحوثِ من مَهزَلَةِ العشق. بل وينبغي أنْ يَستَعرِضَ البُعدُ الأهمُّ في البحوث تلك السفالاتِ الكبرى التي يتم حجبُها باسم العشق (وعلى رأسها الاغتصاب، الجريمة، الضرب، وآلاف الشتائم البذيئة التي لا تُساوي قرشاً). ومَقُولَةُ “كلُّ حروبِ الشرقِ – الغربِ قد نَشَبَت بسببِ المرأة” على حدِّ تعبيرِ هيرودوت، إنما توضِّحُ هذه الحقيقة. ألا وهي أنها باتت قَيِّمَةً كمُستعمَرة، ولأجلِ ذلك أصبَحَت موضوعَ الحروبِ الهامة. ومثلما أن تاريخَ المدنيةِ كذلك، فالحداثةُ الرأسماليةُ أيضاً تُمَثَّلُ استعمارَ المرأة الأشدَ وطأةً والأشملَ بأبعادِه ألفَ مرة. فهي تَنقُشُ ذلك على هويتها. إنها أمُّ جميعِ أنواعِ الكدح، وصاحبةُ الجهدِ المجانيّ، والعامِلَةُ بأبخسِ الأجور، والأكثر بطالةً، وهي مصدرُ الشهوةِ والقمعِ اللامحدودَين للزوج، وآلةُ إنجابِ الأطفالِ للنظام، والحاضِنَةُ المُرَبِّية، وأداةُ الدعاية، وأداةُ الجنسِ والإباحية. وهكذا دواليك تَطُولُ لائحةُ أَوجُهِ استعمارِها واستغلالِها. لقد طَوَّرَت الرأسماليةُ آليةَ استغلالِ المرأةِ بما لا مثيلَ له في آليةِ أيِّ استغلالٍ آخَر. إن العودةَ مِراراً وتكراراً إلى وضعِ المرأة، ولو لم نَشَأْ ذلك، إنما تَبعَثُ على الألم. لكنْ، ما مِن لغةٍ أخرى للحقائقِ بالنسبةِ للمستَغَلّين المسحوقين.
لا ريب أنه ينبغي على الحركةِ الفامينيةِ أنْ تَكُونَ الحركةَ الأكثر راديكاليةً في مناهَضةِ النظامِ على ضوءِ هذه الحقائق. فالحركةُ النسائيةُ، التي يمكننا عَزوَ أصولِها بحالتِها العصريةِ إلى الثورةِ الفرنسيةِ، قد وَصَلَت يومَنا الراهنَ بعد مرورِها بعدةِ مراحل. حيث تم الهَرَعُ وراءَ المساواةِ القانونيةِ في المرحلةِ الأولى. هذه المساواةُ التي لا تعني الكثير، كادت تتحقَّقُ بِرَواجٍ شائعٍ في يومنا الحاضر. ولكن، ينبغي الإدراكَ جيداً أنها خاويةُ المضمون. إذ ثمةَ مستجداتٌ شكليةٌ في حقوقِ الإنسان، مثلما الأمرُ في الحقوقِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والسياسيةِ والحقوقِ الأخرى. فالمرأةُ حرةٌ ومتساويةٌ مع الرجلِ ظاهرياً. بينما أهمُّ
أشكالِ الضلالِ والخداعِ مخفيٌّ في ذاك النمطِ من المساواةِ والحرية. فحريةُ المرأةِ ومساواتُها وديمقراطيتُها الأسيرةُ والمُستَثمَرَةُ بعبوديةٍ قصوى ذهنياً وجسدياً في جميعِ الأنسجةِ الاجتماعيةِ على مرِّ مراحلِ الهرميةِ والمدنيةِ برمتِها، وليس في غضونِ الحداثةِ الرسميةِ فحسب؛ إنما تقتضي الأنشطةَ النظريةَ الشاملةَ للغاية، والصراعاتِ الأيديولوجية، والنشاطاتِ النظاميةَ والتنظيمية، والأهم من ذلك أنها تتطلبُ الممارساتِ الوطيدة. ومن دونِ كلِّ ذلك، فالفامينيةُ والنشاطاتُ النسائيةُ لن تَذهبَ في معناها أبعدَ من كونها فعالياتٍ نسائيةً ليبراليةً تسعى إلى الترويحِ عن النظامِ القائم.
في حالِ تَطَوُّرِ عِلمِ المرأة، سيَكُونُ توضيحُ حلِّ قضاياها بمثالٍ مفيداً إلى حدٍّ بعيد. ألا وهو ضرورة فهمِ أنّ غريزةَ الجنسِ تتصدرُ أشكالِ المعرفةِ الأسحق قِدَماً. فهي تلبيةٌ لحاجةِ الحياةِ في الاستمرارِ بوجودها. فاستحالةُ خلودِ الفردِ قد حَثَّته على الحلِّ بتطويرِ طاقةِ إعادةِ إنتاجِ ذاته ضمن شخصٍ آخر. والشيءُ المسمى بالغريزةِ الجنسيةِ يُشيرُ إلى تأمينِ هذه الطاقةِ لسيرورةِ الحياةِ من خلالِ التوالُدِ ضمن الظروفِ المناسِبة. إنها شكلٌ من الحلِّ إزاءَ الموتِ وخطرِ انقراضِ النسل. فانشطارُ الخليةِ الأولُ يعني تخليدَ الخليةِ الأولى المُنفَرِدَةِ بإكثارِها لذاتِها بالتكاثر.