عظيمات شجرة الحرية الشهيدة جيان طولهلدان – روج خابور – بارين بوطان

عظيمات شجرة الحرية

” إن الاستشهاد غاية نبيلة لا يسمو إلى تحقيقها إلا المخلصات اللواتي

فضلن التضحية بالنفس والنفيس لينعم الوطن بالحرية،

ومن هن الشهيدات الثلاثة جيان وروج وبارين”

 

إيمان احمد

ثلاث وردات معطرات بمعاني الخلود وفلسفة الحرية، ملونات بألوان الشهادة، حمراء كـ لون الكفاح، صفراء كالسنابل الأمل، وخضراء كأشجار الحياة التي تنبت وتعطي بكل سخاء. مثل هؤلاء الشهيدات الثلاث تتزين بصورهن كل الأماكن، فهن رمز الجمال وبداية لثورة لا تنتهي، إنهن شعاعُ قناديلَ لا تنطفئ، وورودٌ لا تذبل أبداً، بل تنثر عبق شهادتهن في سماءنا، فلا حياة لأمة بدون تضحيات هؤلاء البطلات وأمثالهن، ولا ثبات على حق دون السير بطريق النضال والكفاح حتى أخر يوم في الحياة، لتخلّدنَ بأعمالهن وجهودهن العظيمة أسمائهن في سجلات التاريخ، بمثلهنّ سيفتخر الوطن، وينقش صورهنّ على صفحات المجد والشرف والخلود إلى أمد الدهر.

 القائدة العظيمة جيان طولهلدان وتعني اسمها باللغة الكردية (الحياة)، وهي حقاً منحت الحياة، وعاشته بكل تفاصيله، فامتلكت الجسارة والقوة والإرادة التي منحتها عظمةً وعزماً وعلماً. لقد تعلمت ما هي الحياة الحرة الحقيقية، وعملت بإصرار وتحدي وجابهت كل الصعاب، حتى علّمتْ الأخريات ما هي الحياة الحرة ومفهومها، فمنحتهن بفكرها وعزمها القوةَ والتحدي وحب العمل، وزرعتْ في نفوسهنّ الشجاعة والإيمان بتحقيق الطموح.

إنها رفيقة الجبال الشامخة، أخذت من الجبال القوةَ والصلابة والشموخ، واتخذت من البنادق والرصاص صديقات نضالها للحرية، وكانت تملك نظرةً ثاقبة للأمور، ملؤها التحدي والإصرار لتحقيق الأهداف، وجعلت من نفسها شجرةً متجذرة على تراب الوطن، وتمنح الأمان لرفيقات دربها بحبٍ واعتزاز.

والشهيدة المضحية روج خابور، وتعني اسمها (الشمس)، لأنها أحرقت بشعاعها ونورها كل من أساء إلى وطنها واحتله، فباتت رمزاً لمقاتلات الشمس والنار، تتجه إلها الأعين كل يوم من الإشراق حتى المغيب، فتشحن النفوس بنورها، وتسعد الأعين بالنظر إليها.

والمليئة بروح الشبيبة بارين بوطان، وتعني اسمها (هطول المطر). هي ابنة الغيوم الملبدة بمطر الخير، تتلبد السماء بالغيوم الثقيلة، فتهطل أمطارها على جميع مدن روجآفا شمال وشرق سوريا، حتى تسقي بمطرها أرض الحرية، حينها ومع إشراقة الشمس، ستتلوّن السماء بألوان الطيف السبعة.

يقال: “لكل امرئ من اسمه نصيب” كذلك فلكل مقاتلة من سيرة حياتها وشهادتها ومن ثورتها نصيب من المقاومة والنضال، فالشهيدة جيان من عفرين “أرض الزيتون وأم الخير والعطاء” اعتادت العيش في ربوع عفرين الخضراء وكبرتْ على حب الأرض والعمل بكل جد، متحمّلةً التعب والجهد، وتعلمت من طبيعتها معنى الحرية، حلمت منذ صغرها أن تحلق في سماء مدينتها من دون خوف، فأخذت من سمرة التراب اسمرار بشرتها، ومن الشمس بريق عينيها ومن الطبيعة حريتها ومن الثمر ابتسامتها ومن الأشجار سلاحاً لها.

بنادق ورصاص من الزيتون. تدرّبت كثيراً وناضلت حتى أصبحت قائدة وحدات مكافحة الإرهاب، فاسمها الحقيقي (سلوى يوسف) ولدتْ في عفرين عام 1980، فهي رمز للمقاتلات اللواتي حاربن تنظيم داعش الإرهابي، ووقفن في وجه الاحتلال، ودافعن عن شعبهن وناضلن وكافحن وشاركن في جميع الحروب والحملات، واتحدن بكل قوتهن للخلاص من التنظيم الإرهابي، حتى حصلت الشهيدة جيان على شهادة تقدير من مدينة السليمانية نتيجة نضالها ضد هذا التنظيم الوحشي.

منذ اليوم الأول لانطلاقة ثورة روجآفا، شاركت في تنظيم صفوف الشعب، ومن ثم انضمَّت إلى نضال تأسيس وحدات حماية المرأة (YPJ قوات حماية المرأة)، لتصبح القيادية في وحدات مكافحة الإرهاب، وناضلت بلا هوادة في تلك المواقع وتركت بصماتها عليها. ناضلت بجرأة وشجاعة فائقتين في جميع ساحات شمال وشرق سوريا، لبناء مشروع الأمة الديمقراطية ولتحقيق حرّية المرأة، وسيرت الفعاليات ضمن صفوف الثورة، فتعاظمت الثورة بنضال القيادية “جيان”. كما قادت حملات التحرير ضد تنظيم داعش الإرهابي بالتعاون مع قوات التحالف الدولي.

 القيادية في وحدات حماية الشعب “روج خابور” كانت قدوة في حملات التحرير، واسمها الحقيقي (جوانا حسو) تولد عام 1992من الدربيسية، مدينة تلف من حولها السنابل الذهبية وتزينها من كل الجهات، ودبت الحياة في هذه المدينة الجميلة بوجود مناضلات ومقاتلات عظيمات من أمثال الشهيدة روج إذ تنتمي إلى عائلة وطنية، أثبتت ذاتها في وقت قصير لتصبح صاحبة تجربة في ثورة 19تموز، وتصبح ثورية بفلسفة حرية المرأة وصاحبة إرادة وقوة. وشاركت مع قوات التحالف في حملات تحرير مناطق الشمال السوري.

امتلكت حماسة وجرأة عالية مع انطلاق ثورة روجآفا، وتلك الروح والمعنويات العالية الموجودة في شخصيتها انضمت إلى صفوف الثورة. بإيمان عميق منها بالحياة الندِّية، حيث ناضلت ضمن صفوف المرأة الحرة، وأسبغت بروحها المقاومة جميع الجبهات التي قاتلت فيها. وقادت حملات التحرير ضد تنظيم “داعش” بقتالها بين صفوف المرأة بين قوات سوريا الديمقراطية.

أما رفيقة دربنا، المقاتلة في وحدات مكافحة الإرهاب” بارين بوطان”، هذه الشابة الطموحة المندفعة إلى عالم الحرية والحياة السامية، واسمها الحقيقي (روها بشار) تولد عام 2003 من الشهباء، مدينة معروفة بتاريخها العريق، وأوابدها الأثرية الخالدة، وتدعى بالمدينة البيضاء لوجود القطن الأبيض الذي ينصع بالبياض ليس فقط نسبة للقطن بل لوجود مقاتلات جميلات من أمثال الشهيدة بارين. حيث ترعرعت ضمن عائلة وطنية، وحينما غمرتها آمال الحياة الحرة؛ انضمت إلى صفوف الثورة، وبحماسة منقطعة النظير، أخذت مكانتها ضمن صفوف القتال. وبقرار لا رجعة فيه، ناضلت بكل قوة ضد كل القوى السلطوية.

فهنيئاً لكنّ أيتها المناضلات، وهنيئاً لكنّ أيتها الشهيدات الخالدات، لولا ثورتكنّ ومقاومتكنّ وتضحياتكنّ، لما تخلصنا نحن من الذهنية المتطرفة والسلطة الأبوية، ولما خطينا بخطوات واثقة نحو الحرية والحياة الأبية.

اليوم نعترف جميعاً بما قدمنَ هؤلاء البطلات اللواتي استحققنَ كل التقدير والاحترام والامتنان لكل واحدة منهنّ، ولكل شهيدة كانت لها الدور البارز في مسيرة حياتها النضالية، ولهن الفضل في عيشنا اليوم بأمان، فهنّ القدوة والشعلة التي نقتدي بها على مر الزمان، لأنهن ضحين بأنفسهن كي نعيش حياة كريمة.

كانت لكل واحدة منهم حياتها الخاصة الهادئة والمستقرة مع عائلتها، ولكنهنّ بحثن عن حياة أفضل، وأكثر جرأة وتحدي، بحثن عن ذاتهنّ وشخصيتهن الثورية، فهنّ التواقات إلى حياة أخرى إلى الحرية، لذلك استمدّت كل واحدة منهنّ هذا الفكر والميل الوطني من عائلاتهنّ، وأعلنّ عن انفجار البركان الذي بداخلهنّ يوم انضمامهنّ إلى الحركة الثورية، لأنهنّ ومنذ اليوم الأول للثورة في روجآفا، يحملنَ أعباء المنزل والمسؤولية على عاتقهنّ، وهكذا عرّفنَ المرأة الكردستانية بجبروتهنّ وعظمة مجهودهنّ، بإيمانٍ لا يتزعزع رغم الصعوبات والعقبات التي تتعرض لهنّ. إنه ذلك الإيمان بروح المقاومة الذي يدفعهنّ للحركة الإعلان عن الثورة، ثورة ضد المفاهيم الرجعية في العائلة، وثورة لإخراج ذاتها عن العادات والتقاليد والحياة الاعتيادية التي تنتمي إليها.

منذ اليوم الأول وفي بداية ثورة روجآفا صدّ شعبنا بكامل قواه وبكل شجاعة وروح عالية هجمات الجماعات المسلحة، ووقفوا في وجهه، وكانت “جيان وروج وبارين” في الصفوف الأولى للقتال، وكنّ الدروع الحامية للوطن، والوجوه المفعمات بالثورة والمواجهات والمتحديات للمصاعب، والحاملات للسلاح والمستعدات لقيادة الثورة بنفسهنّ، وبكل قوتهن وعظمتهن دون خوف أو تردد.

لقد كنّ طليعيات لهذه الحركة كتيار فعال، بوعيهن للمسار السلمي وترسخه في كافة الفعاليات التي كانت تتم من مظاهرات ومسيرات شعبية، حيث تأهلن لإعلان ثورة 19 تموز من قبل المرأة التي خلدت تاريخ الثورة وضمنت انتصارها، فتوّجت النساء بهذا النضال بتحويل ثورة روجآفا إلى ثورة المرأة.

إن المرأة المقاتلة والثورية هي القادرة على تحدي ظروف الحياة القاسية، كي تبقى صامدة طول الأيام، هنّ ثلاث مقاتلات شرسات تمتلكن سجلاً قتالياً حافلاً عبر التاريخ، وتذكر أسمائهن كأيقونات وطنية عظيمة تستحق الاحتفاء. وبذلك نجحت ثورة المرأة في شمال وشرق سوريا، وحققت مكاسب كثيرة بنضال وقيادة المرأة الثورية، ولازالت مستمرة لتحقيق ثورتها والوصول لهدفها بالأمان والسلام والتآخي بين الشعوب، كل قطرة من دمائهن الطاهر أصبحت سقياً ترتوي به كل الأرضي لتشمل بثورتها كل زمان ومكان.

إننا نتعهد ونقسم على مواصلة النضال والكفاح لنأخذ بثأر جميع الشهيدات اللواتي اخترن الشهادة والتضحية لتعبرن عن مدى تمسكهم بالقضية، وحلمهن كان الوصول إلى مستقبل أفضل للمرأة الحرة، والعيش بسلام. نتعهد بأن نواصل طريقهم الذي استلهمنا قوتنا منهن، وسنسير بخطى ثابتة، دون تهاون على الخطى العظيمة لهؤلاء الشهيدات، ولن نقبل ونهاب أي أحد مادام لدينا مقاتلات عظيمات من أمثال: (جيان وروج وبارين) تواجهن الموت بكل إرادة وقوة.

إن عظمة نظام الأمة الديمقراطية كانت ولا تزال تخضع إلى مقدار ما تدفعه وتجود به من تضحيات وبطولات زمن الحرب، وإلى مقدار رفعها التحدي والصمود في زمن السلم، لتكون بذلك وقود تقدّمها وتطورها في ظلّ عالم سريع التحوّل. وتعتبر سورية في طليعة هذه الدول، وخاصة تضحية الشهيدات في شمال وشرق سوريا اللواتي كن في الخط الأول لأية مواجهة جسيمة لتخليص الوطن من براثن الاحتلال والاستعمار.

لذلك تم تخصيص يوم للشهداء وهو يوم الخالدات في وجدان الأمة الكردية. في هذا اليوم من كل عام لحظات مجيدة نستذكر فيها بطولاتهن في ميادين الشرف والعز منذ أول شهيدة جادت بروحها الطاهرة دفاعاً عن تراب الوطن، مروراً بشهداء الوطن في ميادين القتال المختلفة.

قبل الخوض في تفاصيل معاني ورمزية اليوم التاريخي والوطني للشهيدات يجدر بنا أولاً أن نذكر فضلهن علينا، ونفتخر بهن وبما قدمن ونتخذ طريقهن عقيدة لنا، وأن يكون مبدأنا في الحياة الدفاع عن الوطن وعدم الخنوع والرضوخ والاستسلام حتى ننال الحرية والحياة الندّية.

الشعب الذي عانى أبشع ألوان وأشكال الظلم والهوان مالم تعرفه شعوب أخرى، بالرغم من المقاومات والنضالات في أشكالها العديدة إلا أن النصر على العدو لم يأتِ إلا بعد خوض الثورة في روجآفا مع بداية عام 2011، والتي امتدت على مدار ثلاثة عشر سنة حققت فيها الانتصارات تلو الانتصارات عسكرياً وسياسياً، كما قابلها من جانب آخر قوافل تلو القوافل من الشهداء والشهيدات نالوا شرف الشهادة في ساحات المعارك، وفي غيابات السجون والمعتقلات، تحت ضربات الطائرات وعبر الخطوط المكهربة، وفي المظاهرات العامة فكان عددهن يربو عن المئات من الشهيدات اللواتي حققن الحرية لأنفسهن والوطن.

إن هذا الجيل من الشابات أوقدن شرارة الثورة، وستظل تلك الشرارة متقدة بعد ما ضحين ونلن الشهادة، وكن السباقات إلى الموت بقلب صادق وإيمان وعقيدة راسخة ليرفع الوطن رأسه بكل عزة وشموخ. فذكراهن تستوقفنا عند الملحمة التاريخية التي صنعنها بالإصرار، ونلن الشهادة في الدفاع عن قضيتهن الوطنية.

إن ذكراهن تستوقفنا لنتذكر تضحيات اللواتي اتخذن شعار لا للصمت لا للحرب لا للاستسلام مبدأ لهن في الحياة، بل سنقاوم ونقاوم حتى ننال الحرية، وذكراهن تستوقفنا لأخذ العبر والسير في طريق الكفاح والنضال لتحقيق الحياة الكريمة وصون الوطن.

إن الاستشهاد غاية نبيلة لا يسمو إلى تحقيها إلا المخلصات اللواتي فضلن التضحية بالنفس والنفيس لينعم الوطن بالحرية، ومن هن شهيدات الثلاثة جيان وروج وبارين، ولا بدّ أن نذكر مقولة الشهيدة جيان قبل استشهادها في ملتقى ثورة المرأة في روجآفا في مدينة قامشلو، حيث هنأت جميع نساء وشهيدات الحرية بإقامة الملتقى. وقالت:” جميع المجتمعات أصحاب تاريخ مليء بشخصيات نسائية مناضلة وقيادية وإحداها مقاومة ثورة روجآفا، والتي بدأت بقيادة الشهيدات سارا، ارشين، روكسان وتولهلدان وروهمان. لقد ضحت المناضلات بأرواحهن من أجل تخليص المجتمع من الذهنية المتطرفة والسلطة الأبوية”.

ليست هناك كلمات معبرة توفي حق الشهيدات الثلاثة في الوصف لأنهن تستحققن الكثير ومهما تحدثنا سنكون مقصرين بحقهن أنهن الشموع المضيئة التي تشعشع بضوئها على كل مكان معتم، والزهور التي تبعث الحياة لكل بيت ولكل رقعة من الكون. فكل الفخر والاعتزاز والتقدير للشهيدات العظيمات اللواتي وصلنَ للمكانة الرفيعة بجهودهن الجبارة، وأياديهن الصلبة التي تقوى على حمل أثقل الأسلحة، وجباههن الممرغة بعرق الإرهاق، وعلى الشابات السير في هذا النهج والانضمام إلى الفكر الثوري الذي يمثل القوة الحقيقة والحياة الصحيحة السامية الحرة.