أم ماجد – سولين إبراهيم
أم ماجد
“ربما أم ماجد واحدة من بين تلك الأمهات اللواتي يحملن الكثير
من التضحيات بين جوارحهم، ولكن مئات من أم ماجد موجودات،
لا نحتاج لأي شيء سوى أن نكون أوفياء في كتابة قصصهم
كي يبقون للتاريخ وثورتنا العظيمة”
سولين ابراهيم
أحببت أن أزور صديقتي سوسن، التي تعمل في قسم الإعلأم. وفي كل زيارة نتحدث عن المقالات والكتابات الأخيرة للكاتبات والروائيات. زيارتي هذه كانت مختلفة ولها نكه نادرة. أم سوسن انسانة اجتماعية وحنونة بنفس الوقت. تحب الخير وكريمة وتساعد جاراتها إذا كانت لديهم صعوبات في حياتهم العائلية. الصدفة الجميلة لهذه المرة أننا لم نتحدث عن القصص الخيالية أو حكايات الأمهات في الثورات التي مرت على مرور التاريخ.
استقبلتني سوسن بلهفة واندفاع كبير. قالت لي أنكِ محظوظة جداً لأن أمي وضيفتها ستجعل جمعتنا راقية وجميلة. ابتسمتُ وتعجّبت! بالعادة أنا وسوسن نذهب الى غرفتها ومع فنجانين من القهوة اللذيذة نبدأ النقاش على الأمهات والحكايات والقصص والمناطق التي تشتهر بالقصص ولكن هذه المرة الجلسة كانت مختلفة. ضيفة أم سوسن هي أم ماجد من ديرك، وهي تعيش في الشام منذ سنوات عديدة.
ما أجمل الأمهات وهن يتحدثن عن التراث والعادات والتقاليد وثقافات الملابس. الجلوس مع الأمهات وكأنه الجلوس مع صفحات التاريخ المخفي. أم ماجد حنونة ومبتسمة وراقية في تعاملها رغم تقدمها في العمر. وتملك حساً مرهفاً. اسمها غزالة عمر، وتُكنّى بأم ماجد، ولدت في قرية Kelê – قلعة، عام 1962على الحدود السورية العراقية، وتنتمي لعشيرة ميران الكوجرية، عاشت طفولتها المعذبة بين أحضان قريتها التي لم تمنحها إلا المعاناة، فهي الوحيدة لأمها، أمها التي رأت الويل وعاشت نفس المعاناة من قبل العادات والتقاليد الظالمة على المرأة.
أم ماجد كانت تتحدث لأم سوسن وكلانا آذان صاغية لهما، الكلمات كانت تخترق وتحط بين أفكاري.
عندما أصبحت غزالة في الخامسة عشر من عمرها، أجبرها أخوها وزوجته أن تتزوج بابن خالتها، وهو رجل فقير وينتمي لعائلة متوسطة الحال، وافقت من دون إرادتها، حيث قالت والدتها لها: “كيفما شربتُ من كأس السمّ، وتعرضت للعذاب عندما تزوجت، ومررت بتجربة زواج قاسية أنتِ أيضاً ستشربين من الكأس نفسه“. تذكرت غزالة ماضي أمها حين كانت طفلة، ورأت كيف أن أمها عانت الكثير من قبل عائلتها وتحملت الكثير كي تربيهم.
أم ماجد رغم ذلك صبرت وأكملت مسيرة حياتها، تحملت ودموع الحسرة تبلل عينيها الخضراوين وقالت لأمها:
- لست نادمة على زواجي من ابن خالتي يا أمي ولكنني حزينة، فقيود المعاناة ستكبلني وسأكرر معاناتكِ إلى الأبد.
في عام 1981 انتقلت غزالة مع زوجها إلى العاصمة دمشق، بسبب ضيق الحال وسوء المعيشة والفقر والبطالة، ارتحلت العائلة بحثاً عن مصدر رزقٍ آخر، وطلباً لحياة كريمة. في الأيام الأولى لارتحالهم أحسّت بالغربة تلتهم قلبها المعلق بقريتها وبأمها التي ماتت ولم تراها.
وبعد بحثٍ طويل عن منزلٍ يأوي عائلتها الصغيرة، وجدت في حي (زور آفا) بيتاً صغيراً، وعملاً يؤمن لهم قوت يومهم، وقد شاركت أم ماجد زوجها في العمل، ولم ترضى أن تكون ربّة منزل، بل أرادت أن يكون لها دور في تأسيس العائلة وتأمين احتياجاتهم.
في هذه اللحظة التي لم أرد أن يتحدث أحد، أتت أم سوسن بصحن من الكوليجة فأطفت بأجواء من المحبة والرفاقية على المكان. وانا وسوسن كنا سعداء جداً بهذه اللمة الجميلة. وأم ماجد تأكل الكوليجة مع الشاي، لم تتوقف عن الحديث، قالت: أينما أذهب أتحدث عن فرحتي، وأنني أم محظوظة حيث التقيتُ برفيق المرأة القائد عبد الله أوجلان في الشام، في زيارة لم تكن متوقعة، إلا أن تلك الزيارة المفاجئة زرعت في قلبي نبتة الأمل، وشعرت منذ اللحظة الأولى أنني ابنة الحزب، وأم كل المقاتلين ورفيقة الجميع، فقلبي الكبير يتسع للجميع.
ورغم أنها أم لستة بنات وولدين، ولكنها كانت تتحدث عن روحها البريئة ووفائها للوطن والتراب. بدأت تتحدث بطلاقة عن ذكرياتها مع القائد عبد الله أوجلان. وهي أنها حين التقت به لأول مرة تحدثت عن حبها للوطن من خلال إجبار أولادها للانضمام للفعاليات والنشاطات الحزبية. فرد عليها القائد: لا تستطيعين أن تجبري أولادك على الانضمام، لأن من ينضم بقناعة سوف يكون ناجحاً وقويا يتحمل الصعوبات ولكن الذين ينضمون بشكل قسري لن يكون ناجحاً. بالطبع هذه هي فلسفتي.
بعد ذلك استطاعت أن تقنع زوجها أن يعمل ابنها البكر (ماجد) في قسم الثقافة والفن منذ أن كان عمره خمسة عشر عاماً، وكان يعزف على آلة موسيقية ويشارك في جميع الأعياد الوطنية مثل عيد نوروز والحفلات الخاصة.
في عام 1978 عملت لأول مرة في صفوف الحزب، حيث أنها تعرّفتْ على الرفيق هوشنك، وهو من ديريك. كانا يذهبان إلى الاجتماعات السرية، لتتعرف على فكر الحزب عن قرب، فكانت تشعر ببعض الرهبة من الحزب لأنها سمعت من الناس أنهم ينظرون إلى الحزب نظرة خاطئة ويدعونه بالظلم والإرهاب، ولكن كل تلك الادعاءات كاذبة وملفقة فلا أحد يشك بأن كردياً واحداً على وجه الأرض يستطيع أن يؤذي نملة.
أم ماجد تتحدث لأم سوسن عن بدايات عملها وقبل التقائها مع القائد وكيف أنها لم تكن على معرفة بـ حركة المرأة التحررية وأنها كانت بعيدة عن الفكرة. قالت إنه كان هناك رفيق اسمه هوشنك. هفال هوشنك طرح لأم ماجد بأن تبدأ وتنضم للعمل مع الرفيقات لأجل قضية المرأة. ولكنها رفضت وقالت: لا أستطيع يا بني، أخشى العمل لأنني لست واثقة من نفسي.
قال هوشنك: أنتِ أم عظيمةٌ، ومجتمعنا يحتاج لأمثالكِ. أنتِ واعية وذكية. أم ماجد فكرت بكلام الرفيق هوشنك. وبعد حضورها لبعض الاجتماعات تغيرت وجهة نظرها كلياً، وأدركت أن العمل معهم صعب للغالية.
يبدو أنه (الرفيق هوشنك) أثّر في شخصيتها. حين كانت تتحدث عن شخصيته القوية والمتواضعة وصاحب الفكر والأيديولوجية العميقة. إن هفال هوشنك أصر على مساعدتها وأن تكون واثقة من نفسها، وتحول هذه الطاقة الفكرية الشخصية لديها الى طاقة تخدم جميع النساء والمجتمع.
عندما كانت أم ماجد تتحدث عن ذكرياتها والبدايات الجميلة التي بدأتها للعمل بين صفوف الشعب، جميعنا كنا نستمتع بحديثها وابتسامتها الجميلة. كانت تتحدث وكأنها ما زالت في عمر الخامسة عشر. وأم سوسن تهز برأسها وتضحك أحياناً.
أحببت أن أسال أم ماجد التقيتِ الرفيقات أيضا في تلك الفترة؟
أم ماجد: بالطبع بعد ثلاثة أيام من لقائي مع هفال هوشنك، بعض الرفيقات أتين لزيارتي: واحدة اسمها شرفين والثانية كلناز من ديرك. وبدأتا بالحديث عن الوطن والقضية الكردية وعن المرأة التي تحتاج للحرية.
الرفيقات حاولوا إصلاح مفاهيم أم ماجد الخاطئة على الحزب. أم ماجد تأثرت كثيرا بتلك الرفيقات وكيف أنهم تركوا عوائلهم ودراستهم والعمل لأجل القضية والوطن. وخاصة في تلك السنوات كيف للفتاة ان تكون بتلك الثقة وتخرج من البيت وتكون مستقلة في شخصيتها واتخاذ قراراتها الحرة. الرفيقات تحدثن لأم ماجد على الحاجة الماسة لوجود الهيكلية التنظيمية للنساء في زورآفا. وهكذا بدأت أم ماجد بالعمل مع الرفيقات.
كانت هناك رفيقة تدعى بريتان حيث استضافتها في بيتها، وبقيت تلك الليلة في ضيافتها، وكانت مندمجة ومندفعة جداً.
حتى وصلت أم ماجد إلى جبهة القتال مع الرفيقة أم مسعود والدة الشهيدة نجبير، والرفيقة أم خليل. وفي ذلك الوقت لم يكن لدى الرفاق في الجبل أحد يسندهم ويساعدهم، فقررت أم ماجد أن تساعد الرفاق الذين تعرضوا للإصابات أثناء القتال. ومنذ ذلك الوقت ندرت نفسها لخدمة الوطن والشعب.
حيث أخبرت زوجها بأن يساعدها ويهتم بابنتها حين غيابها عن البيت وتنضم للعمل التنظيمي. ففي يوم من الأيام قامت الرفيقات بدعوتها في الذهاب معهم إلى مكان ما. وهنا؛ أم ماجد تتفاجأ بأنها في مقابلة وزيارة لدى القائد عبد الله أوجلان. وكانت هذه أول مرة تلتقي بالقائد وجهاً لوجه.
نظر إليها القائد وأبتسم، وقال إنني على معرفة بجميع الفعاليات التي تقومين بها، ولهو فخر للشعب الكردي بوجود أمثالك. أنت إنسانة وفية ومخلصة لقضية المرأة والشعب، ومتواضعة في عملك، الرفيقات أخبروني عنك كثيرا.
أم ماجد تتحدث عن هذه اللحظات وكأنها تعيش تلك اللحظات التاريخية: يا قائدي كل النضالات التي أقوم بها تكون لأجل فلسفة الحرية. إنك أهديت للمرأة أجمل شيء ألا وهو منحها القيمة التي تستحقها. قبل أن تنضم المرأة لفعاليات الحزب، لم يكن للمرأة الكردية وجود. صحيح أنها قوية ومضحية، ولكن الذهنية الذكورية جعلت من المرأة عبيدة تركن في زاوية المنزل فقط، ولكنك أعطيتنا فرصة تاريخية وهي أن نقوم بإدارة شؤون البيت والقرية والبلد والعمل لأجل الوطن. وذلك تبعاً للواقع الذي نعيش كشعب مضطهد، المئات من شعبنا الكردي تعرضوا للنفي والظلم، ونحن مجبرون على النضال والقيام بالثورة لتغيير الواقع الموجود.
بدأت أم ماجد بإخراج قهقهة عالية
مازحت القائد وأخبرته أن الرفاق أجبروني على الانضمام.
ابتسم القائد وأجابها قائلاً: لا يا أمي نحن بحاجة إلى أمهات من أمثالكِ.
قالت أم ماجد بأنها كانت مرتاحة وطليقة في طرح أفكارها بحرية. قالت بأنني قلت له: قبل أن التقي بك كان الشعب يتحدث عنك كثيراً، كان ينتابني بعض الخوف، ولكن بعد تعرفي عليك اختلف الأمر تماماً، فلست كما كانوا يقولون.
بعد رؤيتها للقائد والحديث معه، وعرفت كيف يتعامل مع الشعب بكل تواضع، غيّرت وجهة نظرها الخاطئة. وأدركت أن كلام الناس عن القائد ليس صحيحاً، فلم ترى قائداً مثله في العالم أجمع. وبعد معرفتها تأثرت بشخصية القائد كثيراً.
قال القائد: لن نتحدث الآن إلا بعد العشاء.
وبعد الانتهاء من العشاء بدأ القائد بالحديث معها وقال: أيها الرفاق من منكم يعرف هذه الأم التي تدعى أم ماجد.
أجاب الرفاق: إنها أم ماجد، تلك الأم التي ربتنا جميعاً قائدي. فهي أمنا ورفيقتنا بنفس الوقت.
قاطع أحد الرفاق حديثهم، وقال: أم ماجد هي أمي التي علمتني وربتني، وأنا مدين لها طوال عمري.
ثم قال الرفيق سيبان: أتذكر مرة كنت جائعاً جداً وأخذني أحد الرفاق إلى بيت أم ماجد، هي أم عظيمة وكريمة وتحب جميع الرفاق بكل معنى الكلمة.
بعدها، رفع الرفاق أيديهم أمام القائد. فتعجب القائد كثيراً وقال لأم ماجد: هل من المعقول! وأنت بهذا العمر الصغير، قمتي بمنح الرعاية والاهتمام بجميع الرفاق فلك كل الشكر والتقدير.
قال القائد: هل تريدين الذهاب للجبل، هل لديك أولاد.
أجابت أم ماجد: نعم.
ثم قال الرفيق شرفان: صحيح أنها صغيرة بالعمر، ولكنها واعية ونشيطة في عملها وتفكيرها الحر، وهي إنسانة وطنية بكل معنى الكلمة.
صحيح أن لديها خمسة بنات وولدين. والصغرى تسمى هيف، وهي ذو شهرين. وابنها الآخر انضم إلى الفرقة الموسيقية في هيئة الثقافة والفن، إلا أنها جدية ومنضبطة في عملها والجميع يحترمونها ويحبونها ويكنون لها التقدير.
قال القائد: لن أقول لك أمي، بل سأقول رفيقتي.
ردت أم ماجد على القائد: ناديني كيفما شئت.
وفي أثناء الاجتماع، وبينما كانت أم ماجد تتحدث مع القائد لمحت الأمهات الجالسات في الاجتماع كيف كن يتأملن وينظرن لأم ماجد بكل دهشة وتعجب. ومن بينهن من سألت أم ماجد قائلةً: إلى أي عشيرة تنتمين؟ ومن أية عائلة؟ فكثيرة هي الكلمات التي تتحدثين عنها، ونحن لا نفهمك؟
أجابت أم ماجد: أنا أنتمي إلى عشيرة تدعى (ميرا) عندما سمعها القائد ابتسم وقال: أنتم أصبحتن مير.
- فسألها القائد بعض الأسئلة، كم عمرك؟
عمري 27 عاماً.
- متى تزوجتِ؟
تزوجت وأنا في عمر الخامسة عشر.
- لماذا بهذا العمر، وأنت لا زلت قاصرة؟
- قائدي: العادات القديمة كانت هكذا. ونحن كنا صغاراً، أمهاتنا كن يضعن في مهدنا ألعاباً صغيرة، ويعلمننا كيف نكن زوجات وأمهات. ولكن لأجل الفتيان كانوا يضعون بحوزتهم الأسلحة والمسدسات. لماذا؟ لأنهم كانوا يستصغرون البنات وهم بعمر الطفولة. ولكن يا قائدي بعد ظهور (فلسفة حرية المرأة)، كانت ولادة جديدة بالنسبة ليّ، فأتذكر ذات مرة بينما كنت في الاجتماع عندما قلت لا ثقة لي بأية امرأة إذا لم تناضل وتقاتل مثل مقاتلات الكَريلا.
- أنتِ محط الثقة والقوة، وبإمكانك الاعتماد على نفسكِ. ماذا تريدين وما هو طموحك؟
- أريد الانضمام ومتابعة مسيرة حياتي بالنضال والكفاح حتى أنال حريتي، والسير في الطريق الذي اخترته بإرادتي وقناعتي. وسأكون ممنونة لك أيها القائد إذا حققت لي طلبي.
- أنت أم عظيمة ومكانتك موقفك مهم لنا.
- وبعد ساعة من النقاش قال القائد: أسرعي وهيئي نفسك للذهاب الى بيتك.
- هل جميع الأمهات سيعدن إلى بيوتهنّ؟
- كلا جميع الأمهات لن يعدن للبيت، لأنهن سينضممن إلى أكاديمية التدريب.
- لن أذهب بل سأبقى معهن.
- اذهبي فأولادك بحاجة ماسة لك.
- المحاولة معي لن تجدي فلن أغير رأيي وتفكيري.
بعد كل محاولاتها، لم يرضَى القائد ببقائها في الأكاديمية، ثم دعا سائق السيارة وودعها أمام الباب.
وضع القائد يده على كتفها وقال: أريد أن توعديني.
- لا تحملني حملاً ثقيلاً أيها القائد.
- هل تعرفين ماذا سأخبرك؟
- لدي إحساس قوي عما ستقوله.
- استمري في عملك.
- سأعدك أن أكون عند حسن ظنك.
- أريد منك أن تلتزم بوعدك لي وتستمري في عملك. أنا أبني فلسفتي على أساس المرأة الحرة التي هي أساس الحياة. بدون المرأة’ الحرة لا معنى لوجود هيكلية المجتمع. أنا أطمح أن أخلق المرأة الحرة ذات الإرادة الحرة. أنتم أيضاً أمهات تعذبتم طوال حياتكم، في البيت والقرية وكل الأماكن. أنتم تستحقون الاحترام والتقدير والحياة الحرة.
- فأقسمت له وبدم جميع الشهداء أن تكون على عهدها ووعدها وستكون فخورة جداً بهذا العمل.
في تلك اللحظة شعرت أنها ولدت من جديد، وعندما كانت واقفة أمام القائد شعرت بشعور لا يوصف، ولا يمكن التعبير عنه، وكأنها أنعمت بنعيم أبدي (الجنة). ستقاوم وتناضل مهما كان الدرب صعباً، وتستمر في هذا النهج وستكون قوية تتحدى جميع الصعوبات.
– هذا النهج يحتاج لجهد مضاعف، ولكن تحملك كل هذه المسؤولية ليست لأجلي بل من أجلك.
– أعلم هذا جيدا، ففي البداية أخبرتك بذلك.
كانت هناك امرأة من عفرين تنظر إليها بشغفٍ، وذهبت لتخبر القائد: (هذه الأم تستحق أعلى مكانة وأعلى المراتب).
فضحك القائد وقال: ليس مهماً المكانة العالية بل المهم الفكر والفلسفة والوعي الذي يصل إليه الشخص.
هذه الأم لديها عقل راجح وحكمة بليغة.
قالت له: لن أنسى هذا اليوم في حياتي إنها لحظة مهمة وغير اعتيادية. لن أتخلى عن وعدي حتى أخر يوم في حياتي. ففي عائلتنا الكثير من الشهداء الذين هم قدوة لنا.
من بين الحاضرين كان ابن أخيها جمعة حاضراً، حيث قال: سأدعمكِ يا عمتي.
قالت له: لم أقاتل ولم أحارب يا جمعة.
أجاب جمعة: أنت تسلكين الطريق الصحيح يا عمتي.
قالت: المسؤولية صعبة يا جمعة.
جمعة: لا تهتمي فأنا معك.
بعد شهر سمعت أم ماجد بخبر استشهاده(جمعة)، حيث استشهد في رأس العين، كان متزوجاً ولديه أولاد، كان محباً بين رفاقه المقاتلين، ولا أحد يستطيع أن ينافسه في العمل. وأم ماجد تقول بأنه حين كان يتحدث معي: يا عمتي لقد تعلمت منك الجرأة والإصرار.
لا أعرف ماذا أكتب! حين كانت أم ماجد تتحدث بتلك البراءة والعفة، كنت أتحدث مع نفسي وأقول، ألهذه الدرجة أثّر القائد على تلك الأمهات، وحتى هذه اللحظة لم ينسوا أي ذكرى من الذكريات الماضية، رغم مرور كل هذه السنوات. استمرت أم ماجد بحدثيها عن القائد وبدا على وجهها الحزن، وهي تذرف الدموع:
- قال لي القائد: لا أريد أن أراكِ تذرفين هذه الدموع، لأن الأمهات القويات اللواتي أعرفهن من أمثالكِ لسنا ضعيفات أو مستسلمات للبكاء.
- قائدي، إذا لم يكن هناك ثورة وبالأخص ثورة المرأة فلن نتقدم ونحصل على التغيير ونحقق حريتنا.
- من أين تأتين بكل هذا الكلام؟
- قائدي، من كثرة سماعي للقنوات الإخبارية والإذاعات.
توقفت أم ماجد عن الحديث، وعادت بذاكرتها للماضي مرة أخرى. وفجأةً عم الحزن على وجهها وهزت رأسها وهي تنظر لي وسوسن وقالت:
- بعد ولادتي لابنتي الأخيرة في الساعة الرابعة صباحاً، علمت بخبر اعتقال القائد، ويا ليتني لم اسمع بذلك الخبر السيء. وفي تلك اللحظة سمعت صوت قرع الباب، فأخبرت أبو ماجد أن أحدا ما يقرع الباب ثم هرعت لأفتح الباب، وعندما فتحتُ الباب رأيت بعض الرفاق حيث أخبروني بأن القائد تم اعتقاله.
في تلك اللحظة لم تستطع أم ماجد تمالك نفسها، وبدأت بالبكاء بحرقة وصريخ عالي.
في صباح اليوم التالي استيقظت أم ماجد باكرا وركبت بسيارة واتجهت هي وبعض الرفاق والطنين إلى السفارة اليونانية الموجودة في دمشق. قاموا بتكسير جميع الأغراض الموجودة هناك، لكن السلطات السورية لم تفعل أي شيء، ولم يستطع أحد من الموظفين التكلم ولو بكلمة واحدة معهم من الخوف. حتى أن بعض الرفاق الثوار أرادوا أن يحرقوا أنفسهم.
كنا نستمع لقصة حية من قصص أمهاتنا المناضلات. سررنا كثيراً بهذه الجلسة الراقية والمليئة بالذكريات المؤلمة والمقاومة.
احتضنتها أم سوسن وقالت لها:
- أم ماجد، يا غاليتي وعزيزتي وصديقتي الملهمة؛ أنتِ عزيزة جداً على قلبي، أتمنى أن تكوني بصحة وعافية. أنت اليوم أطفأتِ نور ذكرياتكِ علينا وكأنه الماء ونحن العطشى. سعدنا جداً.
نعم؛ انا وسوسن أيضاً احتضناها وبكل سعادة وترحيب. وبعدها عدنا الى غرفة سوسن، قلت لها: أرأيتِ إن قصص أمهاتنا وحكاياتهم وتضحياتهم لأجل الوطن ما زالت حية لم تدفن؟ سوسن هزت رأسها: ما أجمل هذا اليوم.
ربما أم ماجد واحدة من بين تلك الأمهات اللواتي يحملن الكثير من التضحيات بين جوارحهم، ولكن مئات من أم ماجد موجودات، لا نحتاج لأي شيء سوى أن نكون أوفياء في كتابة قصصهم كي يبقون للتاريخ وثورتنا العظيمة.