سأعود – خاتون إبراهيم

خاتون إبراهيم

 

“تلك الجُدران السوداء في الذاكرة وحريرُ الأحلامِ الورديةِ تَفوقها الجَمال جمالاً.

أصواتهم وأنينُ الأملِ في أذني سنفونية الحُزنِ، هنّ من حموّا آهات اللُقى وزرع الزيتونِ الأخضرِ.

كتبتُ نبرةً، صرخةً، همسةً، أنينُ رحيلٍ بلا عودة، ورفرفاتُ أجنحة العودةِ للأمسياتِ العفرينية.

كنتُ هناكْ، ولنْ أعود إلى هناك، أنا هنا، لأني حين كنتُ هناك كانَ القلبُ ينبضُ شوقاً لشموخِ الزيتونِ”

 

سأعود

 

تُرى ما هو تاريخ اليوم! إلى أي عام وصلنا! أسئلة تبحث عن أجوبتها!

ما الفرق! جميع الشهور بأيامها قد تساوتْ في الألم والعذاب، داخل تلك العتمة التي أنا فيها منذُ شهورٍ أو ربما دهور، وربما اعتدنا على ذاك التعذيب الجسدي الذي بات كما الطعام والشراب بشكلٍ يومي، كم أشتاق إلى رائحة الأطعمة التي كانت تطهوها والدتي، الى صوتها، أشتاق إلى أمي، إنني أشم رائحة الفول مع المرقة، وأثملُ بتلك الرائحة التي لا مثيل لها في الوجود.

وأنا أستعيدُ شريط الذاكرة سمعتُ صوت أقدام، أحدهم آتٍ ليرمي لي بحبة بطاطس مسلوقة، أو خبزٌ نال منه العفن، وبعد رميها لي، أبحث عنها كالعمياء في منتصف فوهةٍ مظلمة، حتى الرائحة لا أقوى على تمييزها في زحام الروائح المنبعثة من تلك الفوهة الجهنمية، التي أنا بها دون أن أعلم من أي شيءٍ ينبعث بالضبط.

وسط كل ذلك كنتُ أتذكر دائماً يوم كنتُ في العاشرة من عمري؛ “شممتُ رائحة كريهة، تتبعّتها حتى رأيتها. قطتنا الضائعة منذ أسبوع كانت قد ماتت، ومن شدة حرارة الشمس في صيفٍ حارق تغيرت ملامحها، ما تسبب في انبعاث تلك الرائحة “رائحة الموت”.” كما تنبعث الآن من الزنزانة التي أنا فيها منذ شهورٍ. آه… آه… لا أعلم كم الساعة؟ ليتني عرفتُ الوقت في شراسة هذه العتمة الظالمة.

سمعتُ أصوات خطواتهم تقترب أكثر فأكثر هذه المرة، فتحوا الباب بدلاً من النافذة الصغيرة الموجودة في الباب الحديدي الضخم، التي يرمون إليَّ منها بعض فُتات الخبز أو ما يسمونه (الطعام)، هذه المرة لم تكن حبة بطاطس كان شيئاً أكبر وثقيل الوزن. عندما رموه ارتطم بالأرض فأصدر صوتاً، كان كبير الحجم كأنه كيس بطاطس وليس حبة واحدة، لوهلةٍ راودتني هذه الأفكار، لم أرا ما هو من الضمور في بصري الذي أراه برؤية شبه ضبابية، ومن شدة ألم الإنتانات في جسدي، لم أقوىَ على الحركة.

مرَّ وقتٌ قصير أظنه لم يبلغ ساعة واحدة من الزمن حتى سمعتُ صوت أنينٍ يصدر من الزنزانة، اجتاحني خوف، كيف يمكن أن أسمع صوت أحدٍ آخر وأنا هنا لوحدي!! أُنْصتُ ملياً كي أتأكد، حتى صدر صوتٌ منهك ينادي:

  • ماء .. ماء ..

تأكدتُ حينها أنني لا أتخيل، وأنَّ أحداً ما، تم رميه في الزنزانة، ولم يكن كيس بطاطس كما ظننتُ، يا لغرابة تفكيري!!

بعد محاولاتٍ كثيرة في تحديد مصدر الصوت، استطعتُ الاقتراب من ذاك الكيس، تحسستُ بأدمتي المنهكة، فجأةً شعرتُ بيدي البائسة قد لمست يداً، شعرتُ حينها بعروق شخصً وكأنما أعرفه! فتسارعت دقات قلبي تماماً، فقط وفقط… تذكرتُ أمجد!! عندما قابلته لأول مرةٍ في منتصف ساحة مدينتنا المعشوقة التي هجرناها بعدما أعطاني وردةً بيضاء.

كل هذا وأنا أقتربُ رويداً رويداً من هذا الشخص الغريب، كان يتأوه ويطلب ماءً، اقتربتُ أكثر، فشعرتُ بقشعريرة في جلدي، كاد قلبي يسقط أمامي تماماً عندما قابلتُ أمجد، لم تحملني ركبتاي من فرط الشوق واللهفة، هذه المرة ما هذا، أهي رعشة الخوف أم الموتِ؟!

  • من أنت؟

بحرف جرٍ مرهق متعب مصحوبٍ بألف سؤال وضميرٍ امتلأ بالتعجب، هكذا سألته:

  • من أنت؟

بنبرات كأنها اللحظة الأخيرة أجاب وبصوت متعب:

  • آه … نعم.. أنتِ شمس!

عاصفةً قوية في صوتي الذي لم يخرج منذ عقود، صرخت باسمه وصدى حُطام عظام صدري هزّتْ جدران الزنزانة القبيحة، بدأتُ أبحث عن وجهه وأتحسس بشرته بأدمتي الميتة وأصابعي المتقرحة:

  • أمجد… آه … أمجد… أنت أمجد!

كالمجنونة صرختُ وصدى صوتي كان يكسر جمجمتي، لا أصدق إنه كابوس!!

بعدها لم أشعر بشيء، ربما نال مني الصراخ فأغمي علي، استيقظتُ ويدي على وجهه البارد، كان قد فارق الحياة والموت التهم روحه بل روحي، بين الصدمة والمصيبة كان الواقع المرّ يعلن وجوده، وما كان عليَ سوى توديعه.

اقترب صوت الأقدام مجدداً، كان معهم ضوء تسللت أشعته إلى الزنزانة عبر نافذة الباب، فُتح الباب وسُلّط الضوء على وجهي مباشرةً، ومن شدة ألم رأسي وعيناي شعرتُ أنها نيران جهنم تُضرم في أعصابي، رغم ذلك لكني تمكنت من رؤية ما رأيته بين يديّ، رغم آثار الضرب لا زالت ملامحه جميلة، كانت آثار السوط محفورةً على صدره العاري. تقدم اثنان وسحبا غيمة الكوثر من بين يديّ لتكون لحظة الوداع الأخيرة، انتزعوا قلبي بقبضتهم الوحشية.

إلى أي منفى أخذوه، لا أدري؟

بقي ثلاثة منهم، فأمرهم أحدهم بأخذ جثةٍ أخرى كانت موجودة في الزنزانة، أعتقد أنها كانت سبب تلك الروائح، والآخر الذي كان يأمرهم أظن أنه كان الأعلى مرتبةً، سحبني من شعري كما ال…. إلى خارج الزنزانة، وعظامي ترتطم بالدرج، حتى أنَّ قدرتي على التأوه انعدمت، ميتة لا تزال على قيد حياةٍ مدفونة.

رموني في حجرةٍ أخرى بها فتيات أخريات، سارعتُ إلى إحداهن كي تساعدني في النهوض، كانت حجرة الحمام وكان الطقس بارداً، علمتُ من ذلك أننا في الشتاء.

نادت تلك المرأة التي كانت تساعدني كي أنهض:

  • هيا نستحم وإن كانت مياه باردة، إن لم نستحم الآن، ذهبت فرصة الاستحمام إلى السنة القادمة.

نهضتُ فلمَحت تلك المرأة الإنتانات في جسدي، فسألتُ بعينين تدمعان:

  • ما الذي جرى لكِ وكم هي المدة التي لم يرا بها جسدكِ الماء؟!

  • لا أعلم! لا أعلم سوى أنني هنا منذ زمنٍ عاهر.

حتى لحظة سؤال تلك المرأة عن الجروح في جسدي، لم أكن أعلم ما الذي بي، نظرتُ إلى نفسي لأول مرةٍ بعد عدة شهورٍ قاربت السنة، رأيت الدود الصغير كيف يخرج من التقرحات في جلدي، تلك الروائح المنبعثة لم تكن من الجثث بل كانت من جسدي أيضاً، هذا ما أثار شفقة الأخريات عليّ، كل واحدة تُشفق على الأخرى وحال كل واحدةٍ أسوء من الأخرى.

كانت تلك المرأة في الأربعين من عمرها أو ربما أكثر، قامت بقص شعري الطويل، الذي تشابك مع الدم الأحمر المتراكم بين خصلاتي التي كانت شاهدة على كل المأساة التي عانيتها.

ارتديْنَ جميعاً أثواباً بيضاء تشبه الأكفان، ومقارنة بثيابنا القديمة كانت نظيفة، ألبسوني واحدةً أيضاً، حمامٌ بارد ثم أثواباً بيضاء والاصطفاف جنباً إلى جنب كأنها القيامة، كنا نعرف بأننا الآن على حافة الموت دون جدوى لا سبيل للخلاص.

الآن ستتعالى أصوات الفتيات خاصةً العذريات، فقد تم اختيار فتاةٍ أظنها لم تبلغ الثامنة عشر من عمرها، بيضاء بعيونٍ بنية وشعرٌ مموجٌ كستنائي يغطي جسدها الرقيق، كانت خائفة جداً لأنها جديدة، لا تعرف شيئاً عما يحدث وما الذي سيحدث، انتهاك قدسية أنوثتها ومن ثم تشويه أثدائها الرخوة، بقبضةٍ محكمة من رقبتها وإلى حجرة الذئاب المتوحشة، أخذوها وهي تصرخ:

  • اتركوني… أرجوكم… دعوني.. لأجل من تعبِدون.. دعوني!

تترجاهم وهي لا تعلم بأن هؤلاء لا دين لهم، ولا عبادة ولا معبود، وتم أخذ اثنتين من الفتيات بالطريقة ذاتها، ولقد أنقذني من أنياب الذئاب جسدي المليء بالإنتانات المتقرحة، فهم يشمئزون وهذا ما أنقذني بالفعل، حتى أنَّ إحداهنّ قالت:

  • أتمنى لو تنتقل الإنتانات إلى كل فتاةٍ هنا.
  • كيف علينا أن نتحمل ألماً للنجاةٍ من ألمٍ آخر؟!

تعالت أصوات الفتيات، كنا في زنزانةٍ جماعية، أربعة عشر اِمرأة، بيننا واحدة تبدو عليها علامات الحمل كأنها في شهرها الأخير، أخذتُ أفكر بها ملياً حتى اقتربتُ منها، فسألتها:

  • لمَ أنتِ هنا؟

  • بتهمة “إنسان”

  • جميعاً هنا ربما لهذا الأمر، لكن الجنين في أحشائك ما مصيره؟

  • كيف لي أن أعرف مصيره! ونحن في جهنم أساساً، خرجتُ مع زوجي إلى السوق لجلب بعض الحاجيات، سمعنا أصوات إطلاق النيران، أُصيب زوجي برصاصة في رأسه ومات، أما أنا فأتوا بي إلى هنا منذ ستة أشهرٍ.

استندتُ الجدار، وبدأتُ أفكر برائحة الفول النابت ووردة أمجد البيضاء وأخيراً في مصير ذاك الطفل، كأنه طفلي من أمجد الذي لطالما حلمنا معاً به، لكن كيف آتوا به إلى هنا، لقد أخبروني قبل دخولي إلى هنا بأنه لم يتبقى الكثير حتى تأتي الموافقة على سفره إلى خارج البلاد؟!

انقطعت أصوات الفتيات، بعد برهةٍ، فتحوا الباب علينا ورموا بهنّ إلى داخل الزنزانة، كان الألم واليأس كبيراً واضحاً على ملامح الفتيات يخترق صمتُ الأنين السماء، لكن كل شيء كان صامتاً، نحن وكذلك هنّ، لا شيء سوى دموع باردة تتدلى على سفوح أجفانهن المنهكة.

صاحبة الشعر الكستنائي كانت في حالة جداً سيئة، حرارتها مرتفعة وآثار الخنق واضحة عليها، اقتربتُ منها بهدوء رأيتها تفتحُ عينيها بصعوبة، كأنها تود قول شيء، بدأت بتحريك شفاهها الكرزية:

  • أرجوكِ.. اسمعيني، أريد منكِ خدمة، فأنا أشعر بأنها لحظاتي الأخيرة..

  • قولي، أسمعكِ.

  • اسمي إيمان، لا أظن بأني سأخرج من هنا حيَّة أو ربما حتى ميتة، إن خرجتِ من هنا أرجوكِ اوصلي هذه القلادة إلى أمي، منطقة قا… شارع 16 البناية رقم 4 …

لم تكمل حديثها، حتى شهقت الشهقة الأخيرة من الحياة، أغمضت عينيها الواسعتين كملاكٍ نائم، سقطتْ دمعتين، أما بقية الفتيات فتجمدن كالأصنام بلا أرواح، وذات الشعر الكستنائي كانت رائعة جداً في نومها الأبدي، راقبت وجهها الأبيض حتى مطلع الفجر.

جاء الأوغاد، فتحوا الباب ومعهم خبزٌ طري وبعض اللبن في إناء صغير كان بالكاد لا يكفي ليشبّع طفلاً، وأخبرتنا إحدى النسوة من اللواتي معنا:

  • هذا الخبز واللبن، لنا، لأننا التزمنا الهدوء ليلة البارحة.

أخذو إيمان معهم بعدما لفوا جسدها بلحافٍ، لاحظتُ مكتوب عليه شعار لـ منظمة أو جمعيةٍ ما.

إنسانيون ما شاء الله، يمارسون الإجرام، واللحاف هنا كان يتوجب أن يكون من حقوق المهجرين في مخيمات القهر!! وبدأتُ أفكر!! يا ترى، إلى أين أخذو إيمان؟! هل إلى القبو الذي كنتُ به أو إلى حفرةٍ ما يرمونها بها كما فعلوا بأمجد؟

بينما كانت الفتيات تأكلن الخبز واللبن، كأنهن يحتفلن بمولد أرواحهن من جديد، كنتُ أراقب شروق الشمس من نافذة عرفتُ للتو أنها تقعُ في جهة الشرق، بالرغم من الرؤية الضبابية، كنتُ أرى نور الشمس يتسللُ في زوايا الزنزانة اللعينة، قاطعتني إحداهن:

  • ما اسمكِ؟

  • شمس…

  • كيف وصلتِ إلى هنا، ما الذي حصل لكِ؟!

  • كنا في مبنى عملي كمذيعة أخبار، أنا وزملائي في استراحة الغداء، ننتظر لتنتهي العشرين الدقيقة كي نواصل عملنا في البث، قبل أن تنتهي العشرون دقيقة، تمَّ اقتحام المكان ولم أرَ نفسي إلا وأنا هنا، بحجة التحقيق في أمرٍ لا أعلم عنه شيء.

  • هل حققوا معكِ؟

  • بالتعذيب وصعقات الكهرباء والاغتصاب، وها أنا، أمام عينيكِ، ترين حالتي.

  • لا تحزني، جميعنا، أكلنا من ذاك الطبق، طبق الجحيم نفسه…

عمَّ الصمت بيننا قليلاً، سألتها:

  • هل تعلمين في أي يومٍ نحن! أو أي شهرٍ؟

  • أظنه السادس والعشرين من كانون، أي كانونٍ لا أعلم، سمعت الأوغاد يقولون شيئاً ما، لم أسمعهم جيداً، لكنني سمعت في رأس هذا الشهر يوم الاثنين القادم.

فكرتُ في التاريخ، إن كنا الآن في كانون، فحينما أتيتُ إلى هنا كان ذلك في شهر شباط، وقد مرّ على وجودي هنا قرابة سنة، بدأتُ أفكر في رأس الشهر ماذا ينتظرنا يا تُرى؟!

مرت خمسة أيام، وهم يرمون حبات البطاطس المسلوقة التي نصفّها في بطوننا، ومجدداً دخل اثنان منهم ذو أشكال مقززة وبدأ بضربنا بالسوط كأنهما يُروضُوننا كما الحيوانات.

تم تقييدنا بسلاسل حديدية وشكّلنا صفاً واحداً، مشينا حتى قطعنا ثلاثة أبواب في ممرٍ يمثّلُ كافة أشكال الموت، بقع وآثار الأيدي في كل مكانٍ على الجدران، التي لا تعرف سوى صوت الصراخ والألمِ، ثم وصلوا بنا إلى الخارج وكان هناك صفٌ أخر من النسوة والفتيات.

لفت انتباهي طفلين لم يتجاوزا سن العاشرة، كان هناك ساحة واسعة ومكانٌ ترابي صغير بعض الشيء مع أدواتٍ للحفر، وقفتُ أنظر إلى المكان، أبحث عن شيء لا أعلم ما هو، كان المبنى ذو طابقين تغلفهما وحوش سوداء، لكنني كنتُ حتماً أبحث عن أمجد، هل يا تُرى دفنوه هنا! وإيمان أيضاً؟!

سرعان ما ركض اثنان لفتح بوابة هذا المكان ودخلت شاحنتان كبيرتان، وغطوا أعيننا بأقمشة سوداء، أخذتُ أبحث بسرعة عن أي لافتة تدل على المكان الذي نتواجد به، وبسرعة أدخلونا إلى الشاحنات كان عددها ما يقارب الأربعين أو أكثر.

كان الطفلين فتى وفتاة معنا أيضاً في الشاحنة، مع انطلاقنا بدأ الحديث بينهما، لوهلةٍ شعرت بشيء جميل:

  • ميرا، هل أنتِ خائفة؟

  • لا، ليمار، ألستَ معي لتحميني!

بتلك الكلمات البريئة كان الأخ وأخته يتكلمان، دخلا هذا الجهنم مع أمهما التي أصبحت أيضاً ضحية هذه الفوهة المظلمة، كم كان الطريق طويلاً، أظن أن الطريق كان غير معبّد، طريق جبلي ربما لا أعلم، كلما ارتطمت العجلات بالأرض كاد الألم يأكل عظامي المنهكة وجسدي المليء بالجروح.

توقفت العربتان وبدأ العراك فيما بينهما، أظنهم كانوا يتقاتلون أي شاحنة لأي فئة منهم، واشتد إطلاق النار ونحن بتلك العيون المغلقة والأجساد المكبلة، لم يكن بوسعنا سوى الانبطاح على أرضية الشاحنة التي ربما تصبحُ تابوتاً جماعياً، نتشهد كأنها لحظة سراب الرثاء الأخيرة، صراخ الطفلين كان يمزق أحشائي، وصراخ أرواحنا تتلقى صقعات الوجع من روايةٍ كنا شاهدين على أحداثها وكنا الضحية وكنا الثأر.

توقف صوت إطلاق النار، لا نعلم من مات أو من تبقى، فُتح باب الشاحنة، فبدأ أحدهم بفك الأربطة، من هم لا نعلم، لكن حتماً ليسوا من ربطونا، كانت ملابسهم عسكرية وفي لهجهم لباقة في التعامل. حتى أنني رأيت فتيات بملابسهن العسكرية معهم. فوراً تعرفت عليهم أنهم مقاتلي وحدات حماية الشعب YPG وبينهم مقاتلات وحدات حماية المرأة YPJ.

تكلم أحد المقاتلين باللغة الكردية والعربية:

  • “netirsin” (لا تخافوا).

أنزلونا من الشاحنات إلى سيارات مغلقة أخرى، سرنا قرابة ساعتين، هنا اعْتَرانا شعور الأمان الذي كنا نحتاجه. أنهم يشبهون ملائكة الخير في وسط عصرٍ عنيفٍ كله شر.

وصلنا إلى مكانٍ نظيف مبنى من ثلاثة طوابق، اِمرأة تطبخ شيئاً ما على النار في زاوية من حديقة صغيرة فيها بعض أنواع الأشجار والخضار الشتوية، والسماء تمطرُ بزخات خفيفة.

أتينا إلى هنا، ربما تحررنا، ربما أتيتُ أنا بقربانٍ متأخرة كمجيء فراغٍ دون صدى، لم يكن حلم يقظة لكنها لحظة الرثاء للعذاب، نعم انتهى ذاك العذاب وربما أعود إلى الديار، اشتقتُ إلى أمي، كذلك اخوتي، تُرى أين هم الآن؟، تراهم ينتظرون عودتي؟ أي عودة؟ كيف أعود وعقلي غوى النحت وقلبي معضلٌ بكثبان الألم، بقلبٍ مهترئ كيف أعود؟ ولكنني أبنت عفرين وأنا قوية كحبة الزيتون، خضراء وناصعة الجمال.

تمزقت أشرعة روحي وارتطمت بموجة قدرٍ قاسي عنيف. نعم…  سأعود وأخبرهم، كم صحراء مقرفة في تلك الزنزانات، سأخبرهم عن الأمل المخفي في القلب رغم سواد تلك الجدران وغدرها. سأخبرهم، كيف أنني لم أنساهم ولو للحظة، وأنهم كانوا لي الأمل وشعاع الشمس.

فكيف أعود؟!

نعم سأعود.. كما غصن الزيتون الأخضر البراق.. سأعود رغم الألم وغدرهم … سأعود … فأمي علمتني كيف أعود بعد كل انكسار… سأعود

 

خاتون إبراهيم/ تولد 1999 مقاطعة عفرين والشهباء/ معلمة لدى هيئة التربية والتعليم وعضوة في اتحاد المثقفين – عفرين/