أحلام دافئة – الكاتبة والقاصة ليلى خالد

 

“هنا الجدران والشبابيك تقاوم

هنا نبحث عن الأمان والسلام

بين ضجيج الحرب وقذارته

هنا الأحلام الدافئة يقظة رغم الألم”

 

الكاتبة والقاصة: ليلى خالد

الإدارة المشتركة لمنتدى حلب الثقافي

 

أحلام دافئة

 

في ليلة شبيهة بقبلة قمر دافئة، وفي صمت روحها ازدحمت المشاعر والانفعالات، تاهت المفردات مع ثورة أحلامها، كلها آذانٌ صاغية للسمفونية الجديدة التي أشعلت أحاسيسها، وهي تصدح في فناء الغرفة الطينية في البيت الريفي الصغير، أفراد الأسرة جالسون مع الضيوف حول موقد النار، بشكل نصف دائري يحتسون الشاي ويتسامرون حول حدثٍ قريب؛ وهو تخصيص مكان يضمُّ الأطفال، حيث يتلقون فيه التعليم بدلاً من جامع القرية، واسم هذا المكان (مدرسة).

عند سماعها لهذا الحديث، تغلغلت أمانيها في صميم وجدانها، وحلّقت روحها بخفة أوراق الشجر الخريفية في سماء أحلامها اليقِظة لا تدري في أي بقعة تستكين وتستريح.

زينب فتاة ذات العشر أعوام سمراء جميلة تتميز بعينين صغيرتين وعسليتين، وهي الأختُ الكبرى لثلاثة أخوة وأختٍ صغرى، تلعب مع رفيقاتها بخفة الغزالة على التلال، وفي المراعي تتزين بتاج الأقحوان الذي تصنعه لنفسها، وتعيش سعادة طفولية تخططها بعودٍ على التراب.

كانت في فراشها أثناء حديث والدها والضيوف حول المدرسة، تارةً تتقلب في فراشها وتارةً ترفع أذنها من على الوسادة لتفهم أدق التفاصيل وأخفض الكلمات المتداولة بينهم، إلى حين أن وقعت الجملة اليتيمة على مسمعها، وكانت كافية لتشتت كل الأحلام التي بنتها في مخيلتها، وهي قول أحد الجالسين: هل سَيُفْرَضْ علينا تدريس الفتيات أيضاً؟

وهنا تحدث الجميع مع بعضهم ولا أحد ينصت للآخر، وتضاربت الكلمات مع بعضها وباتت غير مفهومة.

وفجأة تعالَ صوت الرعد وتردد صداه في أرجاء الغرفة، والبرق أنار السماء في الخارج ليكشف عتمة الليالي التشرينية، وتبدأ جلجلة حبات المطر ترتفع رويداً رويداً، وهي تتساقط على الألواح وأوراق الشجر المصفرة، تغوص زينب في فراشها محتضنة أحلامها المبعثرة، وروحها المشتتة وتغرق في النوم وكأنها انهمكت من شدة العمل.

مع تزايد المطر وشدة الرعد الذي انساب إلى مسمع زينب استيقظت من نومها العميق، دارت بعيناها العسليتان في فناء الغرفة، الكل في ثباتٍ عميق، تعود بتفكيرها للأحاديث الماضية، وتُعيد ترتيب الكلمات لتصيغها من جديد وتقول في سرّها: في المرة الماضية منعني والدي من التعلم عند شيخ القرية، ولم أتجرَّأ آنذاك على الإصرار في طلبي، لكن هذه المرة سأطلب من والدي تسجيلي مع إخوتي وبإصرار.

 بهدوء ينبعث الدفء إلى قلبها، وتستقر عيناها على أعمدة سقف الغرفة وتعود بذاكرتها لأيام الربيع الجميلة المملوءة بالنشاط، وكيف كانت ترفل كالفراشات بين الصخور وفي أعالي الجبال مع قطعان الماشية وهي بصحبة أخيها أو والدها، هذه الذكرى بثَّت الحيوية في روحها، ونهضت من فراشها مسرعة وفتحت باب الغرفة الموصودة، وألقت نظرة من خلف الباب على أوراق الشجر المصفرة، التي تداعب فناء الدار الخالي من الأنفاس الدافئة لتبدو باردة وعقيمة.

صاح الديك صيحتان متتاليتان فابتسمت عن ثغر لؤلؤي وقالت: ها أنا والديك نشيطان، وتغلق الباب بقوةٍ متعمّدة لتوقظَ أخوتها وتفتح النافذة ليتسلل النور إلى داخل الغرفة، وتوجهت إلى المطبخ لتساعد والدتها. وقالت زينب:

  • صباح الخير ماما

ابتسمت أمها وهي تتأملها من بعيد:

  • صباح النور يا ابنتي، لقد استيقظتِ قبل أخوتكِ على غير العادة! والضجة التي أحدثتها ليست إلا لتوقظي أخوتك يا شقية!

زينب لم تهتم بكلمات أمها، كل همها كانت هي أن تسأل عن ذاك المكان وبصوت عالٍ قالت لأمها؟

  • أمي سمعتُ ما تداوله أبي والضيوف من أحاديث في الليلة الماضية، ترى متى سيفتح ذاك المكان الذي سيُعلمُ الأطفال بدلاً من شيخ الجامع؟ اسمه .. لا أتذكر اسمه!
  • ضحكت أمها:
  • غاليتي .. اسمها (المدرسة).

فجأةً طارت زينب من الفرحة وكأنها فراشة التقت مع رحيق الزهور.

  • نعم مدرسة.. مدرسة .. كم هو اسم جميل ورنان يا أمي. ولكن هل التعليم للبنات والصبيان وكافة الأعمار؟ أم أنها للفتيان فقط.. أريد أن أعرف يا أمي!!

بدأت أم زينب تشرح لها:

  • في البداية سيتمُّ تحديد المكان وبعدها سيبدؤون بتسجيل الأطفال، سَيُعْلِمُنا المختار بكل التفاصيل، لا تستعجلي وهلمي ساعديني، خذي إبريق الشاي للغرفة فقد اقترب موعد مجيء والدكِ من الحراثة.

في تلك اللحظة تطير روح وأفكار زينب بخيالها ليسطع ضوء الأحلام والأمنيات في مخيلتها وينير قلبها، فيحملها من الواقع اليائس إلى عالمٍ آخر، ويحلق بها كبساط الريح في أعالي القمم، وتتغير ملامحها في كل ثانية وكأنها الأرض التي تسعد بحبات المطر، وزهورها تفتَّحت للتو بعبير العشق في قلبها الصغير، الذي بدأ يخفق كجناحي عصفورِ فرحاً بعودة أمه.

وفجأة صاحت زينب:

  • آه … آه … يا أمي … آه.. أحرقتُ يدي بإبريق الشاي.

رفعت أمها صوتها:

  • آخ … لا أعلم أين تشردين … وتذهبين مع خيالاتكِ التي لا تنتهي!! بالله عليكِ اتركي هذه العادة السيئة.

باتت الأيام تمرُّ كخطوات السلحفاة وزينب بآذانٍ صاغية لا تبرح المكان الذي يجتمع فيه اثنان إلى حين مجيء اليوم المأمول.

وفي المساء يُطرق الباب الخشبي وتهرول زينب وقلبها يسبق خطواتها، كأنَّ شعوراً دفعها بسرعة البرق، تفتح الباب وتقول:

  • أهلاً وسهلاً عمي سعيد… تفضَّل.

 فدخل سعيد بصحبة زوجته وأبنائه، وجلسوا بجانب الموقد ليتدفؤوا من برد الليالي التشرينية، وذهبت زوجته للمطبخ تسلم على أم زينب، والأطفال اجتمعوا مع بعضهم يتداولون أحاديثهم الطفولية التي لا تخلوا من البراءة والصدق.

 يقول ابن عمها مصطفى:

  • هل تعلمين يا زينب!؟ سوف يسجلنا والدي في المدرسة. كم أنا سعيد جداً؛ لأننا سنذهب إلى المدرسة!

 تقاطعه أخته أمينة:

  • وأنا أيضاً سأذهب.. وقد وعدني والدي بذلك.

 صمتت زينب وكأنها لم تعد موجودة بينهم، عاودت عالم أحلامها وهي تداعب ضفائرها لتحلق والسعادة بادية على وجهها الملائكي، وكأنها تتجول بين الزهور والرياحين تستمع لأصوات الحاضرين، إلى أن لمع البرق في صوت والدها حين قال:

  • أنا سأسجل رضا ورجب، أما البنات مكانهنَّ في البيت ليساعدنَّ والدتهنَّ في أعمال المنزل ويأخذن مكانها أثناء غيابها.

 كانت هذه الكلمات كافية لِتُقطّع أوصال أحلامها فتصرخ باللاوعي:

  • وأنا أيضاً يا والدي … سأتعلم وسأكتب .. وليس كل شيء لأبنائك الفتيان فقط، أمينة فتاة مثلي وعمي سيسجلها في المدرسة.

صُدِمت أم زينب وفُزعت لتصرُّف ابنتها، وخافت أن يقوم والدها بضربها لارتدادها عن آدابها، لكن سرعان ما أعدمت الكلمات وتجمَّعت كل العبارات في حنجرتها وتجمَّدت لتردد مخنوقة:

  • أرجوك يا أبي.. سجلني مع إخوتي .. وأعدك أن أكون مجدة وأنتبه لإخوتي واعتني بهم، في الذهاب والإياب، أرجوك يا أبي.

 بعد أن رأى عمها سعيد حال زينب، احتضنها بكلماتٍ كحبات الندى على وجنتي زهرة وعَبِقَ الأماني في قلبها المنصهر، داعبَ ضفائرها وقال:

  • أخي أحمد، لن يخذلني، وسيعطيني صلاحية التصرف مع أولاده كما أولادي، أوليس كذلك يا أخي؟

لم يكن طلب اخوه سهلاً. قرد عليه ورأسه منحني:

  • يا أخي العزيز أنتم أتيتم لزيارتنا وأنتم تناقشون أمور المدرسة!! إن شاء الله، دعنا من هذا الحديث سنتحدث في هذا الموضوع فيما بعد.

بعد أن انصرف الضيوف تظاهرت زينب بالنوم؛ خوفاً من ردة فعل والدها والفكر متشبّث بحواسها لا يدعها لحالها، وهي تسأل نفسها؛ تُرى هل سينجح عمي في إقناع والدي وتأتيني السعادة الغامرة؟

ببطء شديد ومشاعر مختلجه تمر الأيام وكأنها سنين إلى أن جاء اليوم المأمول، شيخ الجامع ينادي أهالي القرية ليبادروا بتسجيل أبنائهم مصطحبين معهم دفاتر العائلة، ويبدأ القبول من عمر السابعة وحتى العاشرة بناتاً وبنيناً، والمدرسة عبارة عن بيت مكون من أربعة غرف.

 تُرسم الفرحة على وجه زينب البريء وتقتحم الابتسامة ثغرها بعكس بعض الأطفال الذين شعروا بالخوف والتوتر، وحصل اضطراب بين سكان القرية بين المؤيد والمعارض ،لتعليم الفتيات وقلب زينب يُعتصر كحبة زيتونة، وتتسمر في مكانها وكأن الدم تجمد في عروقها، وتغرغرت الدموع في عينيها وجف حلقها، لَمْلَمت أوصالها وقالت:

  • أنا فرحة جداً، لستُ متوترة ولا خائفة وسأكرر طلبي في التعلم، وإن رفض والدي سأترجاه وأتوسَّل إليه وربما أتمرَّد على قراره إن رفض.

 وتنغمس زينب في الحالة العقلية لها، وتبني آمالاً على ركام التوتر الحاصل في جوفها، يتسرب الأمل في قلبها المشرق وينتعش بندى الحياة، فتحتضن البهجة وتملئ مهجتها بالسعادة والسرور.

يدخل أبو زينب من باب الدار وينادي على زوجته:

  • هيا أسرعي وأعطني دفتر العائلة لتسجيل رضى ورجب في المدرسة فعمرهما بين السابعة والتاسعة.

ودون تردد صرخت زينب:

  • وأنا … وأنا يا والدي!! عمري عشرة أعوام وعندما نادى الشيخ الأهالي وقال من عمر السابعة وحتى العاشرة أرجوك يا والدي … أرجوك يا والدي.

ولكن والدها كان يتأملها وهو مصر على قراره:

  • لا.. لا.. أنتِ ستظلين برفقة والدتكِ تساعدينها في أمور البيت.

 ويدير لها ظهره ولا يدرك أنه رماها برصاصة ربما توقعها قتيلة. بدت زينب وكأنها في دوامة فيعلو بكاءها، وتسرع إليها والدتها وتهدئها فتقذفها بكلماتٍ مبعثرة حارقة لن أساعدكِ، ولن أبقى في المنزل، ولن أتناول الطعام بعد اليوم، وكل شيء للصبية، والمحبة والدلال والتعليم والأشياء الجديدة لهم أيضاً؟.

قلة الاهتمام واستصغارها لأجل الذهاب الى المدرسة، أشعرت زينب بالنقص والدونية ما ولّد فيها شخصية متوترة ومنفعلة.

تحاول الأم تهدئة غضب زينب باحتضانها وتقبيلها، ولكن دون جدوى فلا شيء يعادل إقصاء المرء من أبسط حقوقه، تغفو في نفس الدوامة غارقة بدموعها وأمعائها الخاوية وجفاف حلقها وتشقق شفتيها.

عاد الأب إلى المنزل وتحدَّث مع زوجته بلهجة صارمة وغاضبة، حول إصرار الإدارة على تسجيل زينب أيضاً، وثار بركان قلب الأم وأحرق جوفها الحائر بين رغبة ابنتها وعنصرية زوجها؛ فقالت بنبرة حزينة ومتلككة:

  • لا تغضب سيكون كل شيء على ما يرام، لكن هل سجَّل أخوك أولاده بناتاً وبنيناً؟

يرمقها أبو زينب بنظرة حادة، ويقول:

  • أحضري لي كأساً من الشاي.

هنا تصمت وتدرك بأنه لا جدوى من الحديث في حالة الغضب، فربما يزيد في الطين بلة، فأم زينب تمتلك الحكمة إلى جانب الحنان وتعي كيفية التصرف في المواقف.

يتكئ أبو زينب على وسادةٍ ويرفع العمامة من على رأسه ويضعها جانباً، ويخرج من جيبه علبة تبغه ويلف سيجارة بين أصابعه المرتجفة من توتر أعصابه، ويشغلها بقداحة الكاز ويشهق منها نفساً عميقاً، ويزفرها في السماء من بين شواربه المصفرة من كثرة التدخين ليغطي وجهه الأسمر مخترقاً خطوط جبينه المفلطحة.

يشرب الشاي ويغفو في مكانه إلى حين نادت عليه أم زينب ليستيقظ ويتناول الغداء، تحاول الأم إيقاظ زينب المتظاهرة بالنوم مع فقدانها رغبة تناول الطعام والجلوس معهم، ينادي عليها والدها بصوته الخشن فتتجمَّد في مكانها وتجيب:

  • لستُ جائعة.

رد عليها أبوها:

  • هيا انهضي وساعدي والدتكِ في تجهيز الغداء.

هنا قبضت على أعصابها ككماشة بيد حداد وقالت:

  • أرجوك يا أبي خذني إلى المدرسة، أتوسل إليك وأعدك أن أكون الظل لأخوتي وأيضاً سأساعد والدتي.

رمقها بنظرة غاضبة مزَّق أعصابها، فنهضت مسرعة وأحضرت الخبز والماء وعادت إلى مكانها مستلقية تائهة في مستقرها وصرخ والدها بصوتٍ عالٍ:

  • هيا انهضي إلى الغداء.

 جلست زينب معهم دون أن تُدخل لقمة في فمها. كزهرةٍ ذابلة تنظر إليهم. ما دفع عمها وأمها لإقناع والدها  ولم يتركوه حتى وافقهم، حينها بدأ النور ينقشع من خلف اليأس وتبدأ خدود زينب بالتورد من جديد بعد الحديث المطول، وفي صباح اليوم التالي تم تسجيل زينب، وبدأ التلاميذ يتوافدون إلى المدرسة، بحرصٍ شديد ترافق إخوتها وتساعدهم في تأدية الوظائف، كانت زينب متفوقة في صفوفها طيلة الخمس سنوات إلى أن تلقَّت صفعة بقوة سقوط في هاوية، لتتناثر كشظايا محطمة في كل مكان حين سمعت من والدها يقول:

  • هناك من طلب يد زينب للزواج.

 في تلك اللحظة فقدت الإحساس بكل ما هو حولها وتتدفق سيول الألم مع كل قطرة دمٍ يجري في جسدها وبدا أنين قلبها مسموعاً، اختارت الصمت لوهلة لكن البكاء فرض نفسه فرضاً لحظة عجز الكلمات عن البوح عما يدور في خلجها وقلبها وعقلها.

تُوّجت العروس بتاج الأسى وارتدت ثوب الخيبات وزُفَّت إلى عريسها بروح تقذفها رياح الوجع لدائرة اليأس وتنطفئ رغبتها في الحياة في لحظة بائسة، وتنتقل مع زوجها إلى مدينة حلب وتحديداً حي الشيخ مقصود الذي أوى وما زال يأوي كل من يلجأ إليه في طلب العمل، وتعيش حياة الخذلان مع زوج تقليدي ومتعجرف وتنجب منه أربعة أطفال. تحاول زينب التأقلم مع حياتها الجديدة وانتشال نفسها من بئر أوجاعها، تحاور روحها التي اعتبرتها جيشها أمام كل الخذلان والخيبات التي واجهتها، وتحيي في ذاتها روح التمرد لتقول في كل مرة؛ “هذه ليست الحياة التي كنتُ أحلم بها” ليست حياتي التي رسمتها في فلك مخيلتي، وفي كل مرة كانت تلتجئ لكتب أولادها لتغيير مِزاجها وشكل حياتها فتحملها بين كفيها وتشم رائحة الأوراق والأقلام، وتكتبُ على دفترٍ خاص بها بعضاً مما تقرأه وبعضاً مما دُوّن في ذاكرتها أيام الدراسة، فتملئ قلبها بالبهجة والسعادة لِتُنْعِشَ الجزء الخفي في داخلها، فالعشق الأول لا يزال يلازمها فتعيد إنعاشه بالقراءة.

تعمل زينب بكل طاقاتها لتوفّر أجواء الدراسة لابنتها وأبنائها الثلاث، تزرع فيهم حب العلم والمعرفة وهم يتسابقون في التفوق، ويُتوّجون والدتهم بنجاحهم في أعلى المستويات. ومع انتشار تنظيم حركة حرية كردستان استطاعت زينب إقناع زوجها لتناضل ضمن صفوف المناضلات. وقد استفادت جداً مما تعلمته في السنوات الخمس من القراءة والكتابة، وساعدها ذلك في تطوير شخصيتها لتطمح زينب للأفضل دائماً وتسعى له بكل طاقتها وجهدها وتزرع روح الوطنية في أبنائها.

تمر الأيام والسنون وبدأ الوطن يرتدي السواد حداداً على ما يفقده يومياً من شهداء وأمنٍ وأمان، وتعرَّض حي الشيخ مقصود لهجمات من المرتزقة الذين عاثوا في البلاد فساداً، وبما أنَّ هذا الحي يقطنه الغالبية الكردية ويمتلك الأرضية التنظيمية المعتمدة على العدالة والمساواة والوحدة بين أهالي الحي، وتكاتف جميع المكونات مع الإدارة الرشيدة لحماية الحي وسكانه، هذا ما شكَّل قوة لا يُستهان بها ووقفوا معاً ضد الارهابيين الذين سعوا جاهدين لضرب هذه الوحدة بينهم.

حيث شُكّلت مؤسسات الحي بإدارة مشتركة بين المرأة والرجل واعتمدوا فيها على إدارة الشعب نفسه بنفسه من خلال نظام الكومينات والمجالس. كانت زينب في الريادة دائماً، من ضمن هذه المؤسسات شُكّلت مؤسسة تعليم اللغة الكردية لكافة الأعمار. كان ذلك الخبر بمثابة ألوانٍ ربيعية لُوّنَتْ بها حلكة ظلام حياة زينب، لكن القدر المشؤوم لم يستثنيها، لتستقر شظية لعينة في جسد زوجها الذي خرج من الحي لجلب المواد الإغاثية للأهالي أوقعته شهيداً.

 لم تقف زينب عند هذا الحدث الأليم فسرعان ما لملمت شتاتها المبعثرة وأكملت نضالها التنظيمي، وتوجهت إلى مقاعد الدراسة لتكمل تعليمها باللغة الكردية “لغة الأم”، كانت تحضر محاضرات توعية حول دور المرأة وكيفية تفعيلها في كافة مجالات الحياة؛ بدءاً من البيت مروراً بالتنظيم وحتى الساحات القتالية وشرح كيفية تفعيل الإدارة المشتركة في كل المؤسسات لتثبت المرأة ذاتها في كل مجالات الحياة، كانت تلك المحاضرات مبشّرة بالخير لزينب ولكل النساء، تناثر من ثغرها درر وانبعثت من جديد.

 تألقت الدنيا مزدانة بعبير الحرية والمساواة، وبدأ الجميع بزرع وري بذور ثقافة الأمة الديمقراطية التي تحمل خصائص العدالة والمساواة في كل ما يخص الطبيعة والمجتمع. زينب تلك المرأة التي لم تهدر بأحلامها الدافئة ولم تنسى يوماً بأن الثورة سوف تكون مظلة الحرية لها وللكثير من النساء المقاومات ضد العادات والتقاليد البالية.

 

ليلى خالد كاتبة وقاصة/إدارة مشتركة في منتدى حلب الثقافي/سنوات الحرب والمقاومة علمتها الكتابة/ عاشت كل لحظات مقاومة شيخ مقصود وأحبت كتابة هذه المقاومة والقصص المعاشة/ من نتاجاتها الأدبية (شقيق الألم)/ ولها كتابات عديدة في المواقع الإلكترونية وزاوية في جريدة روناهي/