نص مسرحي – الكاتبة والقاصة والمخرجة: فاطمة فواز أحمد

“حين أكتب القصة والنصوص المسرحية

لا أشبع من كتابتها.

أٌبحر في عمق المعاني وأبحث عن نوافذ الخلاص.

حين أكتب أريد أن أكتب المرأة والسعادة والأمل والحياة”

 

الكاتبة والقاصة والمخرجة: فاطمة فواز أحمد

نص مسرحي

حلمي كان

(إمرأة تجلس في المطبخ على الكرسي أمامها طاولة وبيدها قلم ودفتر صغير).

  • زينب: (متعبة) آه أحس اليوم بتعب، وإرهاق لستُ أدري لماذا؟

آه تذكرت عملت البارحة طيلة النهار، وكنتُ أحضّر مونة الشتاء من الحفر، العصر والكدس و…الخ حتى أغمي علي فاستنكر جسدي حالة التعذيب الذاتية، فأدخلني مرحلة لا وعي، وأختلس بضع دقائق من الراحة. ولكن هيهات قاومت تعبي وواصلت. حتى أولادي لم يساعدوني ولو بحمل ما ثقل علي، ولا حتى كلمة شكر لم أسمعها من أحد بعد هذا التعب.

 تأخذ نفساً عميقاً…

 – ماذا أقول! (بحزن)، تعودت على هذا الجفاء من الجميع، حتى أصبحتُ أكثر الأوقات صامتة لا أتكلم لأن كلامي دائماً يذهب بمهب الريح. حسناً قبل كل شيء سأحضر فنجان القهوة، وأجمع قواي وتركيزي، وأبدأ العمل فالوقت مازال مبكراً.

 تشرب القهوة

  • أين قلمي؟ آها… ها هو القلم والدفتر لأبدأ ما ينتظرني من الأعمال اليومية. اليوم يجب أن أذهب إلى طبيب الأسنان (تفكر) ولكن أسناني لا تؤلمني كثيراً، وأستطيع أن أتحمل الوجع، أمم … لن أذهب اليوم.. إذا زاد الوجع أقسم بأني سأذهب.

اليوم يجب أن أذهب إلى السوق لأشتري فستان، وحذاء لعرس ابن أخي مصطفى، فأنا عمته (تفكر وبحزن) لدي فستان، وحذاء أخذتهما منذ سنتين لا بأس بهما، سأوفر ثمنها وأضعها فوق ثمن آجار البيت، لأن صاحب البيت شخص طماع وزاد أجرة البيت وسيطردنا إذا لم ندفع له… هيا لا بأس.

ولكن الأطفال كيف سأتدبر أمورهم (تضع القلم بقوة على الطاولة) أوه قبل هذا وذاك ماذا سأحضر للغداء، وهم لا يعجبهم شيء، احترتُ يا ربي!

 أين الراديو لأستمع إليه قليلاً!

الراديو: صباح الخير: أعزاءي المستمعين تمنياتي لكم بيوم سعيد مليء بالخيرات والبركات أهلا بكم.

أعزاءي المستمعين موضوعنا اليوم يتناول (حلم طفولتك)، أو حتى في شبابك هل حققت حلمك أم لا؟

نكمل تفاصيل السؤال بعد هذه الأغنية (أغنية عن حلم).

 أعزاءي المستمعين نعود لموضوع برنامجنا، ما هو حلمك بالحياة ليستفيد الجيل الناشئ من تجاربكم هل حققت حلمك كيف ذلك؟ وإذا لم تحققه لماذا؟

ممكن تواصل على الرقم ….

تبدأ زينب وملامح الغضب مكشوفة على وجهها.

  • كفى…. كفى لا أريد أن أسمع أكثر ماذا حصل لي أحس بألم يسري في عروقي، ويقلب ذاكرتي رأساً على عقب فأنا أصبحتُ مثل كتاب قديم أكلت العفونة حروفه غطته تراب النسيان، ولم يعد يُقرأ.

تحمل الراديو، أعد السؤال مرة أخرى:

  • ماذا كان؟ آها تذكرت حلمي ماذا كان؟ الذي حقق حلمه لديه حكاية، والذي لم يحققه كذلك الأمر.

أنا.. أنا سأحكي قصتي بصراحة أنا كنتُ فتاة جميلة جداً لم يكن في الحي الذي أعيش فيه من هي أجمل مني، وفي المدرسة كنتُ مجتهدة جداً، وكل المعلمين كانوا يحبونني، كنتُ متميزة بكل شيء، وكان لدي هوايات كثيرة. مثل الشعر، كتابة القصص، الرسم. كانت أمي تتمنى أن أصبح طبيبة، وأنا لم أكن أتحمل لون الدم. أتعلمون (تضحك) كنتُ أتمنى أن أصبح لاعبة جمباز مع أنني لم أتمرن أو ألعبه يوماً، (تضحك) كم كنتُ سخيفة، مشكلتي كنتُ أحلمُ وأحلم، ولا أسعى لتحقيقها، وكانت أحلامنا أكبر من طاقاتنا، ثم نكتئب ونندب حظنا العاثر ونبكي على ما نحن عليه.

تسكت قليلاً وتحزن…

  • حتى الآن لم أقل الحقيقة التي خبأتها منذ سنين طويلة، ولكن هذه القصة التي قلتها الآن كررتها مراراً حتى صدقتها وكنتُ أسردها لجميع أقربائي، وجيراني، وأتفاعل معها بكل كياني (تضحك)، كنتُ أبكي أو أضحك على وقائع وأحداث لم تحصل معي حتى أصبحت جزء من واقعي الوهمي الذي نسجتُه في خيالي.

           إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم الذي أصبحتُ أنا والحقيقة وجهاً لوجه، ولم أستطع نكرانها، وتلاشى     كل ما نسجته. قبل يومين فقط كنتُ على موعد مع الحقيقة، عندما زارتني خلات صديقة الدراسة، كذبتُ ناظريْ مراراً، ولكنها أكدت لي نعم، إنها هي خلات صوتها فقط عصف بذاكرتي، وأعادت الزمن للوراء، فتشكلت الأحداث، وارتسمت الوجوه أمام عيني من جديد، دمرتُ كل ما أقنعت به نفسي التي أخرستها منذ سنين، لأكون راضية ويكون بإمكاني مواصلة وتيرة الحياة، وتقبل روتينها.

خلات: طاب يومكِ يا خالة.

زينب: (وهي تخبئ وجهها) طاب يومكِ أيضاً.

خلات: (باستغراب) وكأن هذا الصوت أعرفه

زينب: تتشابه الأصوات كثيراً

خلات: ممكن، لماذا أنتِ متوترة يا خالة وتخبئين وجهكِ؟

زينب: أبداً، أنا مريضة، ولا أريد أن أنقل لكم العدوة، هيا اذهبي لا أريد أن أجري المقابلة معكِ.

خلات: ولكن أخبروني بأنكِ بحاجة إلى المال الذي سنقدمه لكِ.

زينب: لا …. لا هذا غير صحيح أنا لستُ محتاجة.

خلات: لماذا لا يا خالة هي فقط مساعدة صغيرة، وستصبح من نصيبكِ.

زينب: (بانفعال أدارت وجهها) أنا لستُ محتاجة لتتصدقي بها علي.

خلات: هذه أنتِ يا زينب يا لها من صدفة جميلة، قولي لي كيف حالكِ؟

زينب: (بخجل) بخير، قصدي لا بأس، يبدو أنكِ يا خلات قد حققتِ حلمكِ، وأصبحتِ صحفية مشهورة!

خلات: نعم، وفي أشهر وكالة للإعلام.

زينب 🙁 بحزن) هل أنتِ الصحفية المكلفة بإجراء المقابلة معي؟

خلات: (بفرحة) نعم يا زينب، وهو من حسن حظي أني قابلتكِ

زينب: أنتِ دائماً محظوظة.

خلات: أتتذكرين يا زينب، كان لدينا نفس الحلم عندما كنا طالبات في المدرسة، ألا وهو العمل في مجال الإعلام، والآن أحضّر رسالة الماجستير، وتناولتُ موضوعاً بعنوان (نساء حول السياج)، عن سيكولوجية النساء اللواتي تبقين في البيت أي لا يعملن، هل موضوعي الذي اخترتُه أعجبكِ؟

زينب: (بقهر) أنتِ تعمدتِ هذا أليس كذلك؟

خلات: ماذا تقصدين!

زينب: (بعصبية) نعم تعمدتِ اختياري كي تهينيني، وتقولي في رسالتكِ وللعالم كله بأنكِ المجتهدة الطموحة، وهذه صديقتي الأمية الجاهلة، المرأة التي تجلس في البيت فقط لتربي، وتأكل لتتحول من فراشة إلى بقرة، فقط ترضع وتتحول إلى كومة من اللحم ليس لديها أي قيمة في هذه الحياة!

خلات: (متفاجئة) لا… لا أبداً كلامك غير صحيح، فقد اقترحوا لي اسمكِ، كلها محض الصدفة صدقيني لم أكن أعرف بأنها أنتِ.

زينب: أنتِ تكذبين، منذ عرفتكِ وأنتِ تقصدين ذلك مع سابق الإصرار يكفي حتى أنني لم أكمل دراستي بسببكِ.

خلات: (بصدمة) أنا… بسببي!! أنا وأنتِ كنا أصدقاء وكانت مشاعري تجاهك صادقة فلم أفكر يوماً بأذيتكِ، فأنا أحبكِ كثيراً.

زينب: أنا لم أحبكِ يوماً …نعم …نعم هذه هي الحقيقة التي خبأتها في قلبي.

خلات: (بتعجب) كلا أنتِ لا تقولين الحقيقة.

زينب: وهل يظهر عليّ بأني أكذب أو أمزح معكِ!

خلات: كلا، تبدين جدية تماما، لا بأس اهدأي الآن.

زينب: لا تقولي اهدئي لتكوني أنتِ العاقلة الرزينة، وأنا الغبية المجنونة.

خلات: فقط بقي سؤال واحد لم أجد له إجابة إلى الآن.

زينب: ما هو؟

خلات: تفاجأتُ جداً عندما علِمتُ بزواجكِ، أتذكر كان عمركِ خمسة عشر عاماً فقط أليس كذلك؟ وفي ذلك الوقت لم ترسلي لي دعوة لحضور حفلة زفافكِ… لماذا؟

زينب: (لا ترد).

خلات: لماذا لا تجيبين! من حقي أن أعرف الإجابة!

زينب: (تدير ضهرها لخلات).

خلات: هيا زينب لا تديري ظهركِ، وأخبريني لماذا تركتي الدراسة بسببي أنا إذاً! وأحملتنِ ذنوباً لا علم لي بها، أجيبِ… من حقي أن أعرف ما هو ذنبي؟

زينب: (بحزن) أنتِ خلات بكر، الاسم اللامع في المدرسة كنتِ الأجمل ممشوقة القامة، رقيقة الملامح، حنونة، والكل يحبونكِ، والمعلمين لا يرفضون لكِ طلباً وأنا لا أحد يهتم لوجودي، أنا كنتُ أكرههم كلهم وخصوصاً تلك المعلمة السمينة، عندما كانت تناديني في الصف وتقول: تعالي يا فأرة. وكنتُ أخجل من شكلي، وكل الطلاب يضحكون حتى أنتِ يا خلات لم تدافعي عني وضحكتي معهم.

خلات: أنا لا أتذكر فقد مرت سنين طويلة.

زينب: ولكن أنا لم أنسى أبداً، فقد حُفرت هنا في ذاكرتي.

خلات: أنا آسفة لذلك.

زينب: كنتُ أحاول مجاراتكِ، وألبس الجديد، وكل الألوان الزاهية لكي أصبح جميلة مثلكِ.

خلات: زينب أنتِ جميلة أيتها المجنونة، جمال الروح والبسمة تفوق كل مقاييس الجمال.

زينب: كلا

خلات: اسمعي، مثله مثل كل الأمور قابل للتغيير وليس ثابتاً.. أما المبادئ والأخلاق تبقى ثابتة.

زينب: كفاكِ ثرثرة ومواعظ دعيني أكمل قصتي. قررتُ أن أتزوج قبلكِ وقبل كل الفتيات (تضحك) لأجعلكِ تغارين مني.

خلات: ثم ماذا زينب؟

زينب: (بحزن) ثم الندم، نعم فقط الندم فجأة أصبحتُ أم لأربعة أطفال وزوج كسول لا يتحمل المسؤولية، الكل يريد أن يأكل ويشرب ويرتاح إلا أنا …. أنا مستثنية من كل شيء، مثل محرك المعامل، ليس من حقها أن تتعب، إذا اشتكيت يقولون لي: لماذا ما هو الشيء العظيم الذي فعلته؟ وإذا شرحت كيف مضى يومي فأكون المرأة النقاقة والثرثارة، وإذا طلبتُ ما ينقصني فتكون أولويات البيت والأولاد أبدا مني، وكبرتُ فجأة، ودب الألم في مفاصلي، وملأ الشيب رأسي. أحس بأنني فقط خيال أعمل لأرضي الجميع.

خلات: ومن يرضيكِ؟

زينب: (تضحك) ليس مهماً أن أكون راضية أم لا، عندما يأتي الليل وتأتي زائرتي وتقبع في كل تفاصيل جسدي، وروحي، ولا تجعل للنوم في عيوني مسكناً.

خلات: أحزنتني كثيراً يا زينب!

زينب: أتعلمين يا خلات… قبل عدة أيام رأيتُ روحي تنفصل عن جسدي، كنتُ مستلقية عندما حصل هذا، وكنتُ أراقبها عندما ارتفعت وقلتُ لها: “هيا ارحلي هيا، أشعري بالحرية، وتحرري من كل قيود الحياة“، وكانت تعلو أكثر فأكثر، وفجأة سقطت روحي على جسدي المتعب صرختُ بقوة لا لا، حزنتُ كثيراً يا خلات، وقلتُ لها: لماذا عدتي …لماذا! هيا اذهبي، وعودي إلى طريقكِ الأبدي أرجوكِ.. ولكنها خانتني وعادت، وإلى أي واقع ومستقبل لي عادت.

خلات: بالله عليكِ كفى يا زينب، كفى أحرقتِ كياني، أيتها المجنونة من منا اختار شكله، دينه، وطنه، وحتى أباه وأمه، نحن مسيّرون في هذه الحياة ولسنا مخيرون، هبة ربي خلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف، لكلٍ منا رسالة نقدمها ثم نرحل، هذه هي سنة الحياة.

زينب: (تبكي) عرفتُ.. عرفتُ تفاصيل الحياة، ولكن متأخراً جداً.

خلات: لا.. لا لم يفت الأوان بعد.

زينب: ماذا تقولين أنا لا …. لا أستطيع.

خلات: حاولي، أن ترتبي حياتكِ من جديد، وليكن حلمكِ من أولوياتكِ ولا تكوني في آخر القائمة.

زينب: سأحاول خلات (يتلاشى الخيال) أين أنتِ؟ … أين ذهبتي يا خلات تعالي وساعديني.

ظلام

 

“المشهد الثاني “

(تكون جالسة على الكرسي وتمسك قلماً وتكتب قائمة التزاماتها).

رأسي يؤلمني من كثرة التفكير والتعب، سأشرب فنجان قهوة، لا لا سأستبدلها بوجبة الفطور التي أحبها مع كأس من العصير ولماذا لا؟

اليوم يجب أن أزور طبيب الأسنان، فالوجع يزداد، ولكن مشكلة الغداء ماذا أفعل؟ سأحضر شيئاً خفيفاً، وليكن حساءً ولماذا لا؟ مما يشتكي فاليوم أنا مشغولة سأعوضها لهم غداً (تحمل القلم وتنظر إليه) هل أحاول؟ (بتردد) هل من الممكن أن أكون كاتبة في يوم ما؟

سأحاول أن أكتب سطراً.

قصر النظر مشكلة، والتقصير هو أيضاً مشكلة.

فالمشكلة تبدأ عندما يتنازل الإنسان عن حقه ومبادئه، فيخسر مع كل تنازل كيانه، يتدخلون في حياتك وقراراتك، نعم هو حق مشروع للجميع هم من يفكرون عوضاً عنك، ويقررون الأفضل لك، فأنت خسرت من أول تنازل، ومن بعدها تبدأ الهزائم، أعظم انتصار لك في هذه الحالة أن تنامي وتهزمي الوقت.

هذه أول مقالة لي سأرسلها إلى خلات لتبدي رأيها، أنا متأكدة أنها سوف تشجعني.

وأنا أعلم بأن أعظم انتصار لي أنني أحببتُ نفسي.

 

الكاتبة والقاصة والمخرجة فاطمة فواز أحمد/ تاريخ ومكان الولادة الدرباسية 1980/ الإقامة في الحسكة/ عضوة في اتحاد المثقفين في مقاطعة الجزيرة وعضوة في حركة هلالا زيرين – مركز كزوانا في الحسكة/ الكتب المطبوعة كتابان – كتاب عن المسرح باسم سرقة البستان تحتوي مسارح للأطفال/ وكتاب قصص قصيرة باسم سنعود إلى البيت/