عنقاء الحرية – الكاتبة والقاصة ليلى خالد
عنقاء الحرية
الكاتبة والقاصة: ليلى خالد
في كلّ ليلةٍ تبني أبراجاً من المستقبلِ الجميلِ في نيل أعلى المراتب في الدراسة، وترتّل للقمر ألّا يخونها القدر في قسوة الحياة التي تسلب من القلب نبضاته، وفي الصباحِ تفتح نافذة غرفتها، وتبدأ بلملمه شتات آمالها، وتمارس طقوس نهارها بهمةٍ ونشاطٍ، ترتدي ملابسها المدرسيّة، وعلى كتفيّها تنسدل خصلاتُ شعرها كالحريرِ، فتلمع عيناها الملوّنتان بِخُضرةِ الزيتون حالمةً دوماً بقدوم الأمل في حياتها.
إنّها نارين فتاةٌ مضطربةُ المزاجِ لكنها مفعمة بالحيويةِ والنشاطِ، ممشوقة القامة كالغزالة ودائرية الوجه كالبدر، وكأنّها سلبت حمرة الوجنتين من ورود الشقائق، وعلى خدها الأيسر تربّعت شامة بهيئة نجمةٍ في فضاءٍ واسع يتعانق فيه كلّ شيء جميل.
تجرُّ حقيبةَ أحلامها يومياً برفقة صديقتها سيدرا ملكة الإحساس، وصاحبة الروح الجميلة السمراء، التي تمتاز بشخصيتها الغامضة رغم هدوئها، وتشقّا طريقهما إلى المدرسة القريبة لترسما معاً خارطة مستقبلهما الغامض، ولكن كأنَّ شيئاً ما في داخلها محطَّم وحال وجهها القمري غدى وكأنّه في ليلة الكسوف، صامتة كغير العادة والخمول بادٍ على جسدها المخملي لم يكسر صمتها سوى سؤال صديقتها:
– ماذا هناك يا نارين؟ الصمتُ يخيّمُ على مشوارنا هذا اليوم! هل أنتِ بخير؟
ظلَّ الصمتُ يخيم مشوارهما فتوالت عليها الأسئلة، وانهمرت كزخاتِ المطرِ.
كسّرتْ نارين صمتها فأجابت: يا ليت الأمر يتعلق بي، أعتقد أنّي نوعاً ما أملك القدرة على التحدي، والقدرة على الجدال والرفض في بعض الأحيان، لكنها عاودت الصمت لبرهةٍ، ثمَّ أكملت حديثها والغصة في صوتها المبحوح، إنَّها أختي وابنتها التي جاءت وأضفت الألم على أرجاء بيتنا.
سيدرا تتوقف، وبكلّ دهشةٍ تسأل ما بها:
- هل كانت ابنتها تشكو من مرضٍ؟
بدأت نارين بالحديث، ولكن بصوت هادئ:
- لا يا صديقتي يا ليتها كانت أمور الحياة العادية، فأختي برفين الجميلة والبريئة، صاحبة الوجه الملائكي، والتي لا تقوى أن تبوحَ بأي أمرٍ ما مع من حولها، فقط تكتفي بالصمت، وهدر الدموع رغم أنَّها لا تفتقر للذكاء، وكانت مجدّة في دراستها وقدوتي التي كنت أتوسم الخير فيها، لكنها اليوم ضحية العقلية البالية والقديمة، لطالما رأيتها ذاك الملاك الجميل وتوسّمتُ لها بالمستقبل العظيم، لأنَّها كانت كتلةً من الذكاء المُتَّقِد، لكن آه… لا أعرف ماذا أقول!
كانت الآه… هذه كشرارةٍ خرجت من أنفاسها.
وضعتْ نارين يديها على كتف سيدرا، وهزّت رأسها وبدأت تبوح ما بداخلها؟
- إنّه القدر… يا عزيزتي… المرسوم من قبل الآباء، كبرنا وكلَّ شيءٍ محرَّم علينا، وكلَّ شيء يعتبرُ عيبٌ وحرام، كبرنا على كلمات اصمتي، لا تتحدثي بصوت عالٍ، اخجلي فالخجل من سمات الفتاة الصالحة، كبرنا لأجلهم، لخدمتهم، وإنجاب الأطفال لهم، وبتنا نبدع في ممارسة الخنوع والطاعة، يعتبروننا ضلعاً قاصراً، ولكن في الزواج يعتبروننا بالغاتٍ راشداتٍ في عمر مبكّر، كلَّ ذلك يُشعرني بالهذيان والضياع، لقد حكم عليها أبي بالزواج، وهي طفلةٌ تترفلُ كالفراشات في أرجاءِ حارتنا الصغيرة، لقد كان حكماً قاسياً دمر طفولتها دون أن يرف له جفن، وكل ذلك بدواعي الخوف والستر عليها، والآن يا عزيزتي أتساءل: ما الذي يجعل أبي يقف مرة أخرى كالجلاد على مصير حياتها ويهددها بالطلاق ورمي ابنتها الطفلة الصغيرة، والتي هي حفيدته الأولى؟! أختي المسكينة ضالة بين حريتها من براثن الزوج الظالم ورمي فلذة كبدها، منطق فطرة وغريزة الأمومة والحب.
سيدرا بمشاعر مختلجه تكبّل آهاتها، وتلتزم الهدوء وتهدهد رأس نارين بين كتفيها قائلةً:
- لا تحزني يا غاليتي، أتمنى أن تكون الأمور على ما يرام إن شاء الله، لكن أنتِ تعلمين، وأنا أعلم أننا ضحايا عقليات آباءنا وأجدادنا، فأنا الآن أسمعك، وأتخيل نفسي مكان أختك وأمثالها.
- لم تكن مأساة برفين إلا صدىً يتردد في ذاكرة نارين، إنّني أخشى المصير ذاته رغم أنّني أرى نفسي أكثر جرأةً من برفين، وحالها يجعلني أكثر تمرداً، ويُرغمني على الغوص في قيعان الواقعِ المريرِ للبحث عن شيء ما أفتقده. آهٍ لو تعلمين يا صديقتي ما الذي يدور في عقلي من أفكارٍ متصارعة ومتضاربة؟ وما الذي أشعر به في قلبي الآن؟
لقد فتحتْ هذه المناجاة أبوابَ الألمِ في قلب نارين، فصورة أختها لم تكن في نظرها إلا المرآة التي تعكس من خلالها مستقبلها الذي تخشاه، أن يكون مصيرها كمصير أختها، أبٌ ظالم مستسلم ومكبّل بشكل كامل للأعراف والتقاليد، يقرر ويحطم كلَّ الأحلام في قفصٍ هو يراه السعادة لها، وهي تراه القيد والموت المحتم عندما يكون في غير وقته وزمانه وأوانه، ومع زوجٍ قد يكون ضبع يهوي بها في مهاوي الضياع، ويستأصل من حضنها فلذة كبدها.
كلَّ هذه الصور رسمتْ أمامها لوحةً سوداء أسدلت ستائرها على وجودها، فحياة أختها وزوجها كسرت كل الرؤى الجميلة والمقدسة للحياة بين ثنائية المرأة والرجل في مخيلتها في وقتٍ مبكّر، كصديقٍ وفي، وحبيبٍ صادق، وزوجٍ مخلص.
انتهى بهما المطاف أمام باب المدرسة، دخلاها وهما مشرّدتي الروح ومشتتي المشاعر، وبعد مرور أشهر من الزمن لا تزال برفين تذرف الدموع على طفلتها، وهي تغرز في ثوب القدر غرزة للموت وغرزة للحياة، إلى أن جاء الربيع بنسائمه وحلَّته الجميلة بعد عدة أشهر من الصراع المكشوف والمكبوت في داخلها.
جلستْ نارين أمام نافذة غرفتها تراقب الفضاء والطبيعة من حولها، واليأس يحاول الغزو على روحها، فتلمح عيناها شابٌ وشابة، بأزياء ملونة كألوان الربيع الشاب يبدو عليه ملامح الهيبة والشهامة، واسع المنكبين، ممشوق القامة، بجانبه تسير فتاة كالسنديانة في قامتها تتدلى ضفيرة كثيفة الشعر على كتفها الأيمن، جميلةُ الروح والمبسم، تمشي كالملكة واثقة الخطوات، وكأنّ روحيهما متحدة يكمل أحدهما الآخر، التمست شيئاً مما تبحث عنه، إنّه تقارب الأرواح، دققت النظر إليهما، إنّهما الثنائية التي تبحث عنها، كم يبدو عليهما التوافق والانسجام الكبير! كل شيء يدلُ على أنّهما قريبان، لهما ما يجمعهما، لباسهما، وابتسامتهما، والحديث الجاري بينهما، والذي بدا لها غير مفهوماً بسبب بعدهم عنها، وهذا ما شدَّ انتباه نارين بشكل أكبر، وأمعنت النظر فيهما، وهما يقتربان منها شيئاً فشيئاً، لتدرك حينها بأنهم يأتون باتجاه منزلها، وهي لا تزال جالسة أمام نافذتها، وبلحظةٍ كان باب دارها يُطرق وكأنَّها دقات قلب نارين يُسمع، فتحت أم نارين الباب ورحبت بهما، فدخلا إلى غرفة الجلوس، لم تدرِ نارين ماذا تفعل في حضرة هذان الملاكان، فقد حلّوا عليها ضيفان، شعرت وكأنَّها لمست الحلقة المفقودة في حياتها، وبصوتٍ مرتعش ونبرة مرتفعة غير معهودة رحبت بهما، لم تدركْ بعد لماذا؟ وكيف؟ لكنها كانت في قمة السعادة دون أن تعلم السبب. إنّه الأمل المنشود الذي لمع بحضورهم، وبصوت خشن مشبع بذبذبات الحنان. قال الشاب:
- نحن الرفيقان جكدار وسيلفان.
كان لهذا المسمى وقعٌ مختلف على مسمعها طرق بكل قوة أبواب قلبها دون أن تدرك معناه، لكنها كانت كالناقوس الذي أمطر سماءها بكلّ ما هو جميل، ولبرهةٍ شردت بتفكيرها إلى البعيد في مقارنةٍ قاسية بين أختها وزوجها، أمها وأبيها وصورة الرفيق والرفيقة، لتدرك أن هناك صورة أخرى للرجل والمرأة بعيدة عن تلك الصورة النمطية في واقعها التي أثرّت على مخيلتها، وباتت تعيش كابوساً حياً، وصراعاً داخلياً غدت وكأنّها على فوهة بركان.
كانت هذه الوقائع تتوارد في خاطرها، وهي تستمع بإصغاء وشغف إلى أحاديثهما عن الإنسان والمجتمع والتاريخ والحرية، ومحاولة طمس الهويات من قبل الأعداء، والظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والقضية الكردية، كلمات لأول مرة تُسمع بين قواميس مفرداتها. وخاصة حين تحدثت الرفيقة سيلفان عن حقيقة المرأة والحياة والحرية. طرحها لحقيقة المرأة كان مبهراً وبدأت نارين كتلك العنقاء التي تحوم من حولها النار بإشعال نار الحرية، والبحث عن ذاتها الحرة بين هذه الكلمات. وبدأت بمسالة ذاتها! لماذا كانت أعيننا غاشية لا نبصر مثل هذه الأمور؟ لابّد أنّه هناك الكثير مما نجهله، ولابّد أنني لازلت أجهل حتى نفسي، الآن سأنهض من تحت الركام، سأنهض لأعلن عن حريتي من قيود الاسر. لكنها ترددت لبرهة وتساءلت هل سيقبلون بانضمامي إلى مسيرة الحياة والحرية؟
لملمت شتاتها وباللاشعور ركضت وأمسكت بيد الرفيقة سيلفان، وقالت:
- أنا أيضاً أريد أن أكون تلك العنقاء النارية، التي تحترق بجمال الحياة الحقيقية وقوية كقوة الحرية.
كان هذا الاندفاع كافياً ليحطم هدوء والدتها، التي فجرت نار بركان الحرية منذ الأزل بداخل مشاعر أمها، ومسكت بيد نارين وهي مرفوعة الرأس، وقالت لها:
- ابنتي الغالية هل تعتقدين أن مسيرة الحرية بهذه السهولة. أنتِ العنقاء الجميلة والقوية التي ربيتها وأنا فخورةٌ ولي كل الفخر بأن تكوني زهرةً من زهورِ ربيع الحياة. أنا لم أفهمْ من حياتي أي شيء فقط لأجلكم تحملت الآلام والمآسي وحتى لأجل إسعادكم تحملتُ متاعب الحياة. يا ليتني كنت بربيع العمر لأنضم أيضاً لمسيرة الحياة والحرية. ولكن العمر مضى. أتمنى أن تكوني واقعية فيما تقررين لأجل حياتك. وأنا أعطيكِ كامل الحرية بأن تبدئي مسيرتك، ولكن بقناعة وأن تملكي الجمال والقوة الكافية. آه يا ابنتي أنت ترين ما يحدث لأختك برفين المسكينة التي كانت مثل الوردة اليافعة، وترينها تحت اسم العادات والتقاليد تحولتْ من إنسانة مفعمة بالحياة إلى وردةٍ ذابلةٍ، ولا تفوحُ منها رائحة الحياة.
- بعد هذه الكلمات الواقعية والجميلة التي خرجت من بين خلجات أمها أحست أن الدنيا لا زالت بخير. نارين حضنت أمها بدفء وحنان، وتأملت عيناها الممتلئتان بالدموع، وهي شامخة الرأس، وقالت:
- أمي… كم أنا فخورة! أنني زهرة من زهور ذاك الربيع الذي تحضنينه. أمي… يا حبيبة القلب، سأكون سعيدةً جداً عندما أقرر مصيري بنفسي. وسأكون تلك العنقاء التي تربت على يديك، وأصبحت منبع للجمال والقوة. أنني وجدت ذاتي والحلقة المفقودة في حياتي، وأتمنى أن تكوني بخير عندما أكون حرة وطليقة.
وبدأ قلب نارين يخفق مع سمفونية الوجود فتحتضن القدر بقوةٍ وإحكام، وكريشةٍ في مهب الريح تراقص روحها المستقبل البعيد دون سكون. نارين الحزينة تحولت إلى تلك العنقاء النارية التي تتراقص مع بركان الإرادة والعزيمة.
وتلألأ دمع عيناها في حلكة الدجى، ورمت بخوفها في دهاليز العذاب لينفجر ينبوع الحياة في قلبها الصغير، وبأضواء النجوم ترسم خطوط الكحل، وابتسامة الفجر في بأس الظلام، إنّها لذة البحث عن الذات المفقودة التي عززت فيها روح التحدي والتمرد لتجده في ساحة المقاومة والنضال، إنَّها الحرية التي كسّرت كلّ القيودِ أمام كلّ الصور البائسة في مخيلتها البريئة، حلّقت في فضاءٍ واسع.
ابتهجت مشاعر أم نارين كما تتقد نار الحرية بداخل نارين، واحتضنها بشدّة وقالت لها:
- ابنتي الغالية، أنا لست نادمة على أي شيء في حياتي. وبما أنك تريدين أن تكملي جمالك وقوة شخصيتك بنفسك، فأنا معك حتى آخر الأنفاس. مسيرة الحياة والحرية ليست بالسهلة، ولكنك قوية وطموحاتك كبيرة. سأكون بجانبك أينما كنتي. أنا أمُّك ولكن بعد الآن جميع أمهات الوطن هم أمكِ.
الرفيقة سليفان وجكدار يتأملون هذه اللوحة الجميلة، وهم مندهشين. وقالت:
أنتِ قويةٌ مثل والدتكِ يا نارين، ونحن أيضاً فخورون بكما لأننا نملك هكذا أمهات قويات، ولكن علينا أن نحلَّ مسالة أختكِ برفين وبعدها تستطيعين الانضمام إلى مسيرة الحرية التي تمثل الجمال والقوة. نارين باتت وكأنها في مخاضٍ وولادة من الخاصرة، تحلّق كالعنقاء تعلو وتعلو، وكأنّها تعرفت للتو على نشوة تحريك جناحيها في الفضاء الواسع. وهل سيكون بوسع أحد أن يقنعها بالتراجع عن قرارها، وهي تشعر بأنها في ذروة الحرية؟ حتماً لا فهي الآن العنقاء التي ستدوّن قصص ألف مقاومة ومقاومة. ونحن النساء إذا لم نعطِ للحياة معناها الحقيقي، فلن نستطيعَ العيش في وطن يملأه المحبة والسلام.
ومرّتْ عجلةُ الزمانِ ومضتْ الأيامُ، تمَّ طلاق برفين من ذاك الزوج الظالم، ودار المرأة تكفلت بإرجاع ابنتها لها، وهي انضمت للعمل في مؤسسات حماية حقوق المرأة، وكانت تمثل المرأة الفعالة في المجتمع، لقد تحقق حلمها، ولم تعد الدنيا تسعها من فرحتها. وبعد حل قضية برفين ارتاحت نارين نفسياً، وتأكدت أن انضمامها للنضال والكفاح يكون من أهم قرارات نجاح ثورة المرأة والتي هي الحياة وتستحق الحرية، وذهبت عند سيلفان وقالت لها:
- أنا العنقاء التي ستحلّق بدون خوف نحو سماء الحرية، وتصل إلى ربيع الحياة الحقيقية.
ابتسمت سيلفان وقالت:
- أهلاً بك في مسيرة النضال والكفاح “Jin, Jiyan, Azadî“.