نحو تكوين عائلة ديمقراطية متحررة من الدوغمائية الفكرية

 نحو تكوين عائلة ديمقراطية متحررة من الدوغمائية الفكرية

“إن المرأة التي تبني العائلة الديمقراطية،

تعيد صياغة التاريخ على حقيقته،

الأم هي الدائرة الحلزونية لاكتمال التطور التدريجي نحو مجتمع ديمقراطي”

 

نرجس إسماعيل

 

إن وجود المجتمع الطبيعي الذي عاش فيه الإنسان لأجل استقراره، في الحقيقة هو نظامٌ للعيش المشترك والروح الكومينالية البعيدة عن الذهنية السلطوية أو الطبقية والاستغلالية. للمجتمع الطبيعي تأثيره العميق منذ المرحلة النييولوتية والممتدة قرابة أربعة الالف سنة قبل الميلاد. حين نتعمق في هذه الحقيقة إننا نجد بأنه، ومع مرور التأثيرات السلبية والتي مصدرها الذهنية الذكورية السلطوية حيث تعثرت تلك المصطلحات المتعلقة بالطبيعة البشرية الى تحولات كالصخور وخلقت كوارث فظيعة، هذه التحولات لا تتطابق مع الطبيعة البشرية ولا مع العقل المجتمعي.

بدلاً من مصطلح المجتمع الطبيعي تحول إلى مجتمع (فوقي – تحتي)، بدلاً من الحياة الكومينالية، وتحت اسم الحداثة أو التحضر، أصبحت (الفردية – الحرية الشخصية) هي البديلة للروح التعاونية الجماعية. بدلاً من التحلي بثقافة الأم وقيّمها، تحولت الركيزة الأساسية في المجتمع الى النظام (الأبوي – الهرمي المركزي/ الفوقي) المتحكم بكافة أمور المجتمع، والأب تحول الى المركز الرئيسي للحياة وليست الأم  وديمومتها المعطاءة والمضحية. انقلبت مفاهيم الحياة رأساً على عقب.

النواة التي أسمها العائلة والقبيلة والأخوة والحرية والمساواة والعدالة والمحبة والتآلف مصدرها جوهر الحياة الاجتماعية، ولا تزال موجودة. كثرة هي الكتب والأبحاث التي تنفي بين السطور هذه الحقيقة، وكأنه ولّى عهد الأمومة والمجتمعية، ولكنها مخفية بين ثنايا الحاضر الذي نعيش فيه. القضية الخاطئة هنا؛ أن النظام العالمي حوّلَ تلك النظرة إلى رؤية تلك الحقائق أنها تخلف وجهل وانتهى زمن الكومينالية والجماعية والمجتمعية، والأفضل هو التعايش مع الحياة الافتراضية (الحلول ترتكز على التطور التكنولوجي البحت)، وكأنه قدر لا محال وتعظيم للحرية الفردية.

حين يكون النظام المجتمعي والأهلي ملتف حول (المرأة – الأم)، فالتطور التدريجي يسير بمجراه الصحيح. حيث تكون طريقة التعامل والتفاهم والسيرورة الحياتية متآلفة وحتى وإن كانت الاختلافات موجودة، لأنه حينها (الاختلافات لا تكون سبب الضاد والسلبية) بل تكون محور تطوير التناغم والتنوع الفكري والثقافي الطبيعي. هنا؛ يكمن لب الديالكتيك الطبيعي، لأن مركز سيرورتها هي مفاهيم الأم وثقافة الأمومة المجتمعية. حين يكون النظام الفكري أمومي، فالجميعة ضمن نواة المجتمع (العائلة) أو المجموعة أو ما يسمى العشيرة والقبيلة تقوم على سيرورتها الطبيعية. حتى وإن وجدت المشاكل أو القضايا العالقة فإن هذه الديمومة تقوم بحلها بركيزتها ومفهومها الكومينالي الطبيعي.

النقطة الكأداء هي بعد تشكل المجتمع الذكوري تغيرت التصرفات ولغة الجسد وتفشت العائلة البطريركية. لأن الرجل تحكم بكل شيء، ومن هنا تغيرت ماهية الأسرة وخاصة من دور الأم وثقافتها، إلى الدور الرئيسي للأب والذهنية المتحكمة الفوقية التي محورها (المُلك – التملك). المرأة بحد ذاتها كانت تدير أمور الأطفال وتربيتهم، أمور المجتمع، هي التي ربت المواشي والاهتمام بالطبيعة وخيراتها. الأم؛ هي التي كانت تحل جميع المشاكل بطبيعتها المحبة للعدالة والململمة للدائرة الحلزونية المتكاملة للمجتمع. ولكن بعد سيطرة الرجل (الرجولة) إلى تقسيم تلك الروح الكومينالية إلى شروخات فكرية واجتماعية، حتى الأولاد الصغار ومنذ طفولتهم تربوا أن يكونوا حسب ذهنية الرجولة، وأصبح مفهوم الرجولة مصدراً للتحكم والسيطرة والاستعباد. تحوّلت الأم الى مُلك للأب والأب مُلك لجلاده (الدولة) والأولاد مُلك لقفص العائلة. من هنا انقلبت الكثير من الموازين التي كانت تعطي للحياة حقها في ممارسة ميزاتها الطبيعية والمجتمعية. وهذا فارق كبير وانشقاق كارثي.

العائلة التي يديرها الرجل هي نوع من أنواع العبودية. ولا يمكننا تحليل مستوى العبودية في المجتمعات، إلا بتحليل مستوى عبودية المرأة – بالتأكيد – بكافة جوانبها المتعددة. فالنموذج المتحقق في شخصية المرأة، ليس مجرد تبعية ذهنية وفعلية فحسب، بل إن كل عواطفها ومشاعرها، واحاسيسها وحتى تصرفاتها الجسدية، نبرة صوتها، وثيابها مرتبطة عن كثب بنمط العبودية المفروضة. وحتى الوشم والملابس التي ترتديها، وحتى مفهوم الاخلاق والشرف والناموس ضمن المجتمع انحصر في شخصية المرأة. كل هذا يحد من دور المرأة بيولوجياً أيديولوجياً وسياسياً واجتماعياً …الخ. وتُسلَب منها كل قيمها، لتغدو بذاتها مُلكاً. وحتى أوصل بهم الأمر استصغار قيمتها بمقدار مهرها أو الذهب الذي يقدم لها. تباع وتشترى وهي في عمق وحل العبودية.

وكما أكد القائد عبد الله اوجلان في تحليلاته القيّمة عن قضية المرأة والعائلة حيث قال:

يقال إنه لا حياة بدون المرأة، لكن لا يمكن العيش مع المرأة الحالية أيضاً. فحسب قناعتي، أن العلاقات الذكورية – الأنثوية الغارقة في العبودية حتى حلقها تغرق أصحابها معها أكثر من غيرها من العلاقات. ما دام الأمر كذلك فما هو منتظر من أصحاب العشق الحقيقي للخروج من فوضى النظام الرأسمالي الأخيرة. هو خلق القدرة العظيمة المتمحورة حول المرأة وتحقيق الانطلاقة بها. أظن أن هذا من أقدس وأنبل الأعمال التي سيقوم بها أبطال العشق الحقيقيين الذين وهبوا أفئدتهم وعقولهم للعشق بكل طواعية”.

هنا الأسئلة الملحة والتي تحتاج للإجابات الصحيحة؛ إلى أية عائلة نطمح؟ وإلى أية علاقات نطمح؟ ماذا نعني بالديمقراطية والعائلة الديمقراطية؟ كيف يمكننا التخلص من براثين 5000 سنة المتحكمة على الذهنية المجتمعية؟ الإجابات مهمة ليس بالنسبة للعائلة الكردية فقط بل والشرق الأوسطية وكافة المجتمعات.

ومن هنا؛ أن المرأة التي تبني العائلة الديمقراطية، هي التي تعيد صياغة التاريخ على حقيقته، الأم هي الدائرة الحلزونية لاكتمال التطور التدريجي نحو مجتمع ديمقراطي. تهميش دور العائلة في تطوير المجتمع، نابع من الذهنية السلطوية. وكثيرة من الممارسات اللاإنسانية التي تستخدم بحق المرأة، وفي كافة دول العالم منها؛ الصومال وحتى الجزائر وأفغانستان والكثير من الدول، حتى الدول الأكثر تداعيه للديمقراطية هي الأكثر تطبيقاً للعنف والشدة ضد المرأة.

مرة أخرى؛ أن تصحيح صياغة تعريف (العائلة) وما هي الأسباب التي تحولها إلى مصدر للاضطهاد والاستعباد والخنوع!! لهو واجب أنساني وأخلاقي قبل كل شيء. حيث تغيرت المعادلة؛ على أن (العائلة) هي نواة البناء والتكوين، وحلت الدولة محلها، فأصبحت هي مركز التكوين والشكل الذي تريده، وتطمح له.

وعلى هذا الأساس؛ نحتاج الى إعادة النظر في موضوع كيفية تكوين (العائلة الديمقراطية) المتوازية والموالفة فكرياً واجتماعياً مع الحياة. لذلك؛ محور العدد الثاني لمجلتنا المرموقة هي عن كيفية إعطاء التعريف الصحيح لمصطلح (العائلة الحالية)، وكيفية الوصول الى إنشاء (العائلة الديمقراطية)، العائلة الحالية تحولت إلى حفرة لا قاعة لها. فمن خلال المقالات والأبحاث التاريخية والرؤى السياسية والاجتماعية، أردنا أن نقدم للقرّاء الحلول المناسبة لإحراز المستوى المطلوب في هذا المحور. إن القرن الواحد والعشرون، هو قرن الثورات وأنجح الثورات هي الثورة التي تتخذ من فلسفة حرية المرأة ركيزة أساسية لانطلاقتها، ولأجل تكوين المجتمع الديمقراطي المتحرر والعائلة الديمقراطية.