يستحيلُ احترام الأسرةِ المتأسسةِ على الجهل ذلك أنّ نصيبَ الأسرةِ هامٌّ في إعادةِ إنشاءِ الحضارةِ الديمقراطية
يستحيلُ احترام الأسرةِ المتأسسةِ على الجهل
ذلك أنّ نصيبَ الأسرةِ هامٌّ في إعادةِ إنشاءِ الحضارةِ الديمقراطية
“ سأثابرُ على مسيرتي اعتماداً على شخصيةِ الحقيقةِ
التي نالَت نصيباً وفيراً من الحقيقةِ لديّ،
ومتحصناً بالقوةِ الأخلاقيةِ والجماليةِ والفلسفيةِ والعلميةِ اللازمةِ لذلك؛
وسأَكسَبُ الحياةَ بناءً على ذلك، وسأَتشاطَرُها مع الجميع”
المفكر عبد الله أوجلان
العائلة هي الميدان الذي يعتمد على الفكر الاجتماعي والممارسة العملية كثيراً. فالأسرة هي النواة الاجتماعية التي يعتمد عليها كل إنشاء وكل مؤسسة في كردستان بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام، فهي الشيء المقدس الوحيد الذي بقي من المؤسسات والتكوينات الاجتماعية التي تعرضت كلها للتخريب والزوال على يد المفاهيم السلطوية وتحت اسم العادات والتقاليد.
إنَّ العائلة أصبحت النقطة المركزية الرئيسة للحياة وكل شيء يدور حولها. رغم الادعاء بأنها وحدة اجتماعية إلا أنها في يومنا هذا أصبحت مسرحاً لكل الممارسات الاجتماعية والثقافات الرجعية، وهذا الوضع يؤثر بشكل كبير على طبيعة التطور التدريجي والتحرر المجتمعي والوطني، ويربطها بأغلال ثقيلة من الرجعية. الأسرة التي تتألف من الرجل والمرأة والأولاد أصبحت كابوساً على الأفراد الذين يعيشون ضمنها، وهي التي تشغل فكر الأفراد كثيراً بمشاكلها وتعقيداتها، وهذه حقيقة ليست على الصعيد الاجتماعي وإنما على صعيد حزبنا أيضاً من حيث التأثير على الأفراد الذين ينضمون إلى صفوفه، فكثير من الرفاق يتعرضون للفشل نظراً لانشغال تفكيرهم بقضايا الأسرة. ونظراً لكل هذه الأمور فإن النضال في مواجهة العائلة لإيصالها إلى الحل يحظى بنفس الأهمية التي نعطيها لقضية التحرر المجتمعي وإيصال الفرد والمجتمع معاً إلى كينونته الحرة. وبمقدار انشغالنا بالمفاهيم الاستعمارية وشراسته، والنضال في مواجهته علينا أن نهتم بهذه المؤسسة والتي هي نواة المجتمع، وأن نقوم بتعميق أيديولوجية التحرير الذهني والولوج في حقيقة الوصول إلى مجتمع صاحب مقياس ومبادئ حرة.
إن ثقل قضية العائلة لدينا هي حقيقة أنها مصدر لكل الأمراض الاجتماعية. فالقضية ليس المديح أو كيل الشتائم، بل رؤية القضية كما هي على حقيقتها، وتحليل مفاهيمها من حيث القيم والتطور اللازم لأجلها. ولكنني أعتقد أننا جميعاً متأثرون بهذه المؤسسة من جميع الجوانب، مثل تطورها التاريخي وعلاقتها بالاستعمار، وارتباطها بالبنية الإقطاعية والعشائرية، وكمؤسسة لا زالت قائمة، لها مكانتها في بنية الوطن والتكوين الوطني، ودورها في التطور الاجتماعي، وكذلك التدقيق في البنية الداخلية لهذه المؤسسة، والعلاقات الداخلية بين الأب والأم والأولاد ضمن الأسرة. المفاهيم المتحكمة في طريقة أساليب التعامل الأسرية؛ هل هي قبلية أم إقطاعية؟ هل علاقتها ديمقراطية أم سلطوية؟ وأكبر مثال على ذلك؛ أن نماذج الموجودة ربما يكون الأب شكليا ديمقراطيا ولكن عندما يأتي الموضوع أو أي قضية على المرأة أو الأم ينظر إليها بشكل ناموس وشرف وستصغرها. هنا القضية الأساسية: أنه علينا تناول القضية أيضاً من ناحية كونها نتيجة لعلاقة الرجل بالمرأة وعلى هذا الأساس أن إقامة هذه المؤسسة هي هدف من هذه العلاقة، وأنهما طرفان مرتبطان بهذه المؤسسة. وحتى نستطيع أن نتناول الموضوع بشكل سليم ونحدد موقفنا منه علينا أن ندقق في علاقة هذه المؤسسة بالحرية والديمقراطية، وأن نقف على مهامنا الثورية نحوها وكيفية تناولها بشكل شامل.
لذلك علينا تعريف مصطلح الأسرة بشكل صحيح:
الأسرة:
الكلانُ بذاتها أقرب إلى الأسرة، وإنْ لَم تُوصَفْ كذلك. فالأسرةُ هي المؤسسةُ الأولى المتباينةُ ضمن الكلان. فبَعدَ العيشِ كعائلةٍ أموميةٍ مدةً طويلةً من الزمن، تمَّ العبورُ إلى عهدِ العائلةِ الأبوية تحت كنفِ السلطةِ الهرمية ذات الهيمنةِ الرجولية المتناميةِ بَعدَ الثورةِ الزراعية – القروية (في أعوام 5000 ق.م على وجه التخمين). هكذا تُرِكَت الإدارةُ والأطفالُ لحاكميةِ أكبرِ ذكورِ العائلة سنّاً. أما استملاكُ المرأة، فكانت الأرضيةَ لفكرةِ المُلكِيةِ الأولى. وعلى التوالي تمّ الانتقالُ إلى عبوديةِ الرجل أيضاً. هذا ونصادفُ أشكالَ حُكمِ الأسرةِ الواسعةِ النطاق والطويلةِ الأَمَد على شكلِ سلالاتٍ خلالَ عهدِ المدنية. لكنّ العوائلَ القرويةَ والحِرَفِيّةَ الأبسط ظَلّت موجودةً وباقيةً في كلِّ الأوقات. أناطَت الدولُ والسلطاتُ الرجلَ – الأبَ ضمن الأسرةِ بدورٍ طِبقِ النسخةِ مِن حاكميتِها. هكذا أُقحِمَت الأسرةُ في وضعِ الوسيلةِ الأهمّ على الإطلاق لشرعنةِ الاحتكارات. فأَدَّت دورَ المنبعِ الذي يُقَدِّمُ العبدَ، القِنَّ، العامل، الكادح، الجندي، وجميعَ أشكالِ الخدماتِ الأخرى لشبكاتِ الهيمنةِ ورأسِ المال. لهذا السبب أُولِيَت الأسرةُ أهميةً بارزةً وقُدِّسَت. ورغمَ حَظيِ الشبكاتِ الرأسماليةِ بأهمِّ مصادرِ الربحِ تأسيساً على استغلالِ كدحِ المرأة ضمن الأسرة، فقد مارسَت ذلك بشكلٍ مستور، وحَمَّلته بالتالي على الأسرةِ عبءٍ إضافيّ. لقد حُكِمَ على الأسرةِ عيشُ أكثرِ مراحلها تعصبيةً، بِتَصييرها صَمَّامَ أمانٍ للنظام القائم.
انتقاد الأسرة
انتقادُ الأسرةِ هام. إذ لا يُمكنها أنْ تَكُونَ العنصرَ الأوليَّ للمجتمعِ الديمقراطي، إلا على أساسِ النقد. ومِن دونِ تحليلِ الأسرة – وليس المرأةَ فحسب (الفامينية) – كخليةٍ أوليةٍ للسلطة، ستبقى الحضارةُ الديمقراطيةُ بطموحها وتطبيقها محرومةً من أهمِّ عناصرها. الأسرةُ ليست مؤسسةً اجتماعيةً يُمكن تجاوزها. ولكن، بالإمكانِ تحويلَها. إذ ينبغي التخلي عن مزاعمِ ملكيةِ المرأةِ والأطفال المتَوارَثةِ عن الهرمية، وألا يَكونَ لعلاقاتِ رأسِ المال (بشتى أنواعها) والسلطةِ دورٌ في العلاقاتِ الزوجية. بل يجب تَخَطّي التعاطي الغرائزيّ بذريعةِ استمرارِ الجنسِ البشري. الموقفُ الأمثل للوحدةِ بين الرجلِ والمرأة، هو ذاك الذي يَتَّخِذُ مِن فلسفةِ الحريةِ المرتبطةِ بالمجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي أساساً. والأسرةُ التي ستَمُرُّ بالتحولِ ضمن هذا الإطار، سوف تَكُونُ أكثرَ ضماناتِ المجتمعِ الديمقراطيِّ سلامةً، وإحدى العلاقاتِ الأساسيةِ في الحضارةِ الديمقراطية. الزواجُ الطبيعيُّ هامٌّ هنا، بدلاً مِن الزواجِ الرسمي. ولكن؛ على الطرفَين المعنيَّين أنْ يَكونا مستعدَّين دائماً لِقَبولِ حقِّ هذه الحياة. ولا يُمكن الحِراكَ بعبوديةٍ وعمى في العلاقات. جليٌّ بوضوح أنّ الأسرةَ ستعيشُ أكثرَ تحولاتها معنىً في كنفِ الحضارةِ الديمقراطية. هذا ومن المحالِ تطويرَ الاتحاداتِ الأُسَرِيّة القَيِّمة، ما لَم تَحظَ المرأةُ بالتقديرِ والقوةِ العظمى، بَعدَ أنْ خَسِرَت الكثيرَ الكثير من التقديرِ على مَرِّ آلافِ السنين. كما يستحيلُ احترام الأسرةِ المتأسسةِ على الجهل. بالتالي، ذلك أنّ نصيبَ الأسرةِ هامٌّ في إعادةِ إنشاءِ الحضارةِ الديمقراطية.
ومن الأهمية الرجوع إلى إعطاء المعنى الصحيح أيضا لحقيقة القبيلة والعشيرة:
القبائل والعشائر:
هي مِن أهمِّ العناصرِ الاجتماعيةِ الأكثر رقياً في مجتمعِ الزراعة – القرية، التي تحتضنُ العوائلَ في أحشائها، وتَحيا اللغةَ والثقافةَ عينَهما. وهي اتحاداتٌ اجتماعيةٌ ضروريةٌ لأجلِ الإنتاج والدفاع. ذلك أنّ الكلاناتِ والعوائلَ شعَرَت بالحاجةِ للتحول إلى شكلِ القبيلة، عندما باتت قاصرةً عن حلِّ قضايا الإنتاجِ والأمنِ المتصاعدة. كما أنها ليست اتحاداتٍ تَعتَمِدُ على رابطةِ الدمِ فحسب، بل هي عناصرُ نواةٌ للمجتمع، وضروريةٌ من أجلِ تأمينِ الإنتاجِ واستتبابِ الأمن. هذا وتُمَثِّل التقاليدَ المعمرةَ آلافَ السنين. أما إعلانُها كمؤسساتٍ رجعيةٍ يتوجَّبُ تخطيها بسرعة، فهو مِن أفظعِ الإباداتِ العرقية التي تُمارِسُها الحداثةُ الرأسمالية. ذلك أنه يستحيلُ تحويل البشرِ إلى يدٍ عاملةٍ سَهلَةِ الاستغلال، ما داموا باقين في ظلِّ اتحاداتٍ قَبَلِيّة. كما أنّ وجودَ القبيلة كان يعني – وبكلمةٍ واحدةٍ فقط – العدوَّ اللدودَ بالنسبةِ لأسيادِ العبوديةِ والإقطاع. حيث أنّ القبيلةَ لَم تَكُ تَفرضُ العبوديةَ والقِنانةَ والعُماليةَ على أعضائها.
للقبائلِ حياتُها القريبةُ من الكومونالية. والقبيلةُ هي الشكلُ المجتمعيُّ الذي يَزدهرُ فيه المجتمعُ الأخلاقيُّ والسياسي بأقوى أشكاله. فظهورُ القبائلِ المتواصلُ كَعَدُوٍّ لدودٍ للمدنياتِ الكلاسيكيةِ متعلقٌ بمزاياها في المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي. علاوةً على أنه كان يستحيلُ غزوها. فإما أنها كانت تُفنى، أو تَحيا حرةً أبية. ولكن، شُوهِدَ أيضاً أنها عانت التفسخَ والانحلالَ مع مرور الزمن. ذلك أنّ العملاءَ المتواطئين مِن بين صفوفها، قد لَعِبوا أدواراً سلبيةً على الدوام، مثلما يُلاحَظُ ذلك ضمن العائلة أيضاً. ومع ذلك، فالقبائلُ التي يَطغى عليها الترحالُ الدائم، تُعتَبَرُ مِن القوى البَنَّاءةِ الحقيقيةِ للتاريخ. فالعبيدُ والأقنانُ والعمال لَم يَحيَوا الحالةَ الحرةَ مِن المقاومةِ والعصيان التاريخيِّ للقبيلةِ في أيِّ وقتٍ من الأوقات، بل باتوا بالأغلب خَدَماً صَدوقين وأكثر وفاءً لأسيادهم (فيما خلا الحالات الاستثنائية). وربما لو نُظِرَ إلى التاريخِ مِن زاويةِ صراعِ مقاوماتِ القبائل وتَصَدِّياتها، بدلاً مِن الصراع الطبقي، لَكان سيَسُود التعاطي الأكثر واقعيةً بكثير بشأنه. هذا ومِن أهمِّ تحريفاتِ مؤسِّسي تاريخِ المدنية هو استصغارُ دورِ القبيلة، والنظرُ إليها بعينٍ سلبيةٍ أحياناً، وعدم إناطتها بأيِّ دورٍ كان.
ميزة العشائر
تَمَيَّزَت العشائرُ بأهميةٍ أكبر كضربٍ من فيدراليةِ التجمعاتِ القَبَلية. وقد اكتَسَبَت وجودَها بنسبةٍ ساحقةٍ تجاه اعتداءاتِ المدنياتِ العبودية. فالحاجةُ إلى الاتحادِ والمقاومةِ في مواجهةِ الفناء، قد وَلَّدَت تنظيمَ العشيرة. إنها شكلُ المجتمعِ الذي تَحَقَّقَ تنظيمُه العسكريُّ والسياسي بسرعة. وهي تلقائياً جيشٌ وقوةٌ سياسيةٌ أساسُها الوحدةُ الذهنيةُ والتنظيمية. وتَحمِلُ معها ماضياً عريقاً وثقافةً سحيقة. وهي المصدرُ الرئيسيُّ لثقافةِ القوميات. هذا ولا يُمكن الاستخفاف بمساهماتها في الإنتاج. فبُناها الاجتماعيةُ الجماعيةُ تقتضي التعاونَ المتبادلَ أساساً. والروحُ الكومونيةُ وطيدةٌ في المجموعاتِ العشائريةِ والقَبَلِيّة. بالتالي، فهي مِن العناصرِ البَنَّاءة للحركاتِ الوطنية. ولكن، قد تَكُونُ أكثرَ خطورةً لدى تَطَوُّرِ العَمالة. إنها مِن أهمِّ القوى المُحَرِّكةِ للتاريخ، بالرغمِ مِن كلِّ مساعي مؤرِّخي المدنيةِ في الحطِّ من شأنها واعتبارِها. حيث ما كان للبشريةِ أنْ تتخلصَ من التحولِ إلى عِبادٍ وحشدٍ قَطيعيٍّ، لولا مقاومات العشائرِ في سبيلِ تقاليدِ الحريةِ والكومونالية والديمقراطية. وكونها مِن أهمِّ عناصرِ الحضارةِ الديمقراطية، إنما مرتبطٌ بمزاياها تلك.
تاريخُ الحضارةِ الديمقراطية هو بنسبةٍ كبيرةٍ تاريخُ مقاومةِ وتَمَرُّدِ القبائل والعشائر، وإصرارِها على حياةِ المجتمعِ الأخلاقي والسياسيِّ في سبيلِ الحرية والديمقراطيةِ والمساواة تجاه اعتداءاتِ المدنية. كما أنّ البُنى القَبَليةَ والعشائريةَ هي التي تُضفِي اللونَ الأصليَّ على المجتمعات. أما إفناءُ الدولةِ القوميةِ لجميعِ الثقافاتِ القَبَلية والعشائريةِ بوطأةِ مجموعةٍ أثنية، فهو إبادةٌ ثقافيةٌ بكلِّ معنى الكلمة. لا تَبرَحُ هذه الإبادةُ العرقيةُ الكبرى بِحَقِّ المجتمعِ تُشَكِّلُ التهديدَ الأخطرَ والأهم، رغمَ تَراخيها نوعاً ما. بمقدورِ القبائل والعشائرِ أداءَ دورها الرئيسيِّ في تكوينِ الأمةِ الوطنية، بدلاً مِن دولةِ الأمة أو أمةِ الدولة، وذلك بوصفها عناصر بَنَّاءةً فيها. إنّ اعتبارَ العشائر والقبائلِ عناصرَ أصليةً للحضارةِ الديمقراطية انطلاقاً مِن هذه الدوافع والماهياتِ أمرٌ مفهومٌ لأقصى درجة.
الحداثة الرأسمالية
التفكير بالحداثةِ الرأسمالية ضمن إطارِ ثلاثةِ أبعادٍ هامة، فمن الممكن سريانِ الموقفِ نفسِه على العصرانية الديمقراطية أيضاً. مقابلَ مجتمعِ الإنتاجِ الرأسمالي ومجتمعِ الصناعةِ ومجتمعِ الدولة القومية، التي يتم تَصَوُّرُها كمُتَقَطِّعاتٍ وماهياتٍ خاصةٍ أساسية بالنسبة للحداثة الرأسمالية؛ تَبرُزُ أبعادُ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي والمجتمعِ الأيكولوجي – الصناعيِّ، والمجتمع الديمقراطيِّ الكونفدرالي للمقدمة في العصرانية الديمقراطية. هذا وبالمستطاع الإكثار من تفاصيلِ الأبعادِ بالنسبة لِكِلا النظامَين. إلا أنّ هذه الأبعادَ الثلاثيةَ قد تَفِي بالمعنى من حيث تعريفهما بالخطوط العريضة. وقد كانت أبعادُ الحداثةِ الرأسمالية قد أُخضِعَت لتحليلاتٍ شاملة في الفصول السابقة. بينما بُذِلَت المساعي لإظهارِ العصرانية الديمقراطية من خلال سياقِ تَقَدُّمِها التاريخي وعناصرها الرئيسية ومقارنتها مع المدنية والحداثة الكلاسيكيتَين. لذا، فتقسيمُها إلى أبعادٍ أساسية، وتعريفُها عن كثبٍ أكثر سوف يُعَزِّزُ السردَ والتعاطيَ العملي لها.
المجتمع الأخلاقي والسياسي
عرضَ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي على شكلِ مجتمعٍ ديمقراطي (كومونالية ديمقراطية). فقد يَكُونُ ذلك تناوُلاً تصنيفيّاً أنسب مقابلَ المجتمعِ الرأسمالي. لكننا لَم نتجَنَّبْ استخدامَ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي اصطلاحاً تصنيفياً أكثر أساسيةً، نظراً لاحتوائه على المجتمع الديمقراطي ضمن طبيعته. وقد تم تناوُلُ الموضوع في فصول مختلفة. لذا، فما سأقومُ به هنا عبارة عن جمعِ مختاراتٍ أساسية. قبلَ توصيفِ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي، فمهما أُكَرِّرُ نقطةً معنيةً بشأنِ مضمونه، سيَكُون ذلك في محله. ألا وهي علاقةُ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي الجوهريةُ مع الفضيلة والسعادة والصواب والجمال من جهة، ومع الحرية والمساواة والديمقراطية من الجهة الثانية. الفضيلةُ والسعادةُ بالأصل تُشَكِّلان جوهرَ الأخلاق. والصوابُ معنيٌّ بالحقيقة. بينما البحثُ عن الحقيقةِ خارجَ نطاقِ المجتمع الأخلاقي والسياسي مجرد عبث. ذلك أنّ العاجزَ عن التحلي بالصفاتِ الأخلاقية والسياسية يستحيل عليه العثور على الحقيقة. أما الجمال، فهو المصطلحُ المَرامُ لعلمِ الجمال (الأستَتيك). وأنا لا أَعتَبِرُ الجمالَ الخارجَ عن المجتمع الأخلاقيِّ والسياسي جَمالاً. فالجمالُ أخلاقيٌّ وسياسيّ! في حين حُلِّلَت بإسهاب علاقةُ الثلاثيِّ الآخر، أي الحرية والمساواة والديمقراطية مع المجتمع الأخلاقي والسياسي. إذ ما مِن مجتمعٍ قادرٍ على إنتاجِ وتأمينِ الحرية والمساواة والديمقراطية بقدرِ المجتمع الأخلاقي والسياسي.
الأمرُ المختارُ الأولُ متعلقٌ بآفاقِ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي في القدرةِ على التغيُّر والتحوُّل. بل وبالمستطاع تَصَوُّرَه مجتمعاً ذا أوسعِ آفاقٍ، ما لم يَزُلْ بُعدُه الأخلاقيُّ والسياسيُّ ككيانٍ أساسيٍّ للتغيُّرِ والتحوُّل. لا ريب أنه يستحيلُ القضاء على الأخلاق والسياسة كلياً في أيِّ مجتمعٍ كان. ولكن، قد يُضَيَّقُ الخِناقُ على وظائفهما لأبعدِ حد. على سبيل المثال، فالأخلاقُ والسياسةُ مُختَزَلتان إلى أدنى مستوى في ظلِّ تَحَكُّمِ الدولة القومية ضمن مجتمع الحداثة الرأسمالية، بل وحتى ضُيِّقَ الخِناقُ عليهما لدرجة بلوغِهما شفيرَ الفناء. وقد كنا توقَّفنا كثيراً على أسبابِ ودوافعِ ونتائجِ ذلك. فهل يغدو المجتمعُ متغيراً في حالِ تحديدِ نطاقِ الأخلاقِ والسياسة؟ لا. وبالعكس، يَكُون قد حوصِر، وكُبِحَ جماحُ تَغَيُّرِه وتبايُنِه، بل وحتى أُرغِمَ على النَمَطية والتجانس وكُتِمَت أنفاسُه تحت وطأةِ الأوضاع القانونية الصارمة للغاية. لِنَدَعْ القدرةَ على التغيُّرِ جانباً، بل يَكُونُ قد حُدِّدَ نِطاقُه واختُزِلَ إلى قَرينةِ نحن – الآخَرون بذريعةِ تَكوينِ النمطيةِ وتنشئةِ مواطِنٍ وثقافةٍ من نمطٍ واحد. هذا ويُعرَضُ مظهَرٌ متعددُ الألوان وكأنّ المجتمعَ الحديثَ يَمُرُّ بتَغَيُّرٍ لا محدود. هذا منظرٌ إعلاميٌّ ودعائيٌّ تماماً. بينما الواقعُ المخفيُّ تحته ذو لونٍ واحد؛ إما قريبٌ من الرمادي، أو أسودٌ حالك.
المجتمع الديمقراطي
المجتمعُ الديمقراطي، الذي هو حالةُ الحداثةِ العصريةِ للمجتمعِ الأخلاقي والسياسي، هو المجتمعُ الذي يَحيا تبايُناتِه بأوسعِ نطاقاتها فعلاً. فكلُّ مجموعةٍ اجتماعيةٍ يُمكنها العيشَ معاً على أساسِ التبايُناتِ المتكونةِ التفافاً حول ثقافتها وهويتها الذاتية الخاصة بها، دون الحكمِ عليها بالثقافةِ والمُواطَنةِ ذاتِ النمطِ الواحد. كما بمقدورِ المجموعاتِ الكشفَ عن طاقاتها الكامنةِ وتحويلَها إلى حياةٍ فعالةٍ ونشيطة، بدءاً من تبايُناتِ الهوية إلى التبايُناتِ السياسية. كما لا تتوجَّسُ أيةُ مجموعةٍ من النمطية والتجانس. حيث يُنظَر إلى أحاديةِ اللون على أنها قُبحٌ ورذيلةٌ ومَلَلٌ وفقر. بينما تعدديةُ الألوان تحتضن في أحشائها الغِنى والسَّماحَ والجمال. والمساواةُ والحريةُ تَكُونان راسختَين أكثر في ظلِّ هذه الظروف. إذ أنّ المساواةَ والحريةَ لا تَكُونان قَيِّمَتَين للغاية إلا استناداً إلى التبايُن. أما الحريةُ والمساواةُ المتحققتان على يد الدولة القومية، فهما أصلاً من أجل الاحتكارات فقط، مثلما بُرهِنَ في كلِّ التجاربِ القائمة ضمن العالم. ذلك أنّ الحرياتِ والمساواةَ الحقيقيةَ لا تُمنَحُ باحتكاراتِ السلطة ورأسِ المال. بل يتم اكتسابهما بنمطِ السياسة الديمقراطية في المجتمعِ الديمقراطي، ويتم صَونهما بالدفاع الذاتي.
قد يُطرَحُ السؤالُ التالي: كيف يمكن لنظامٍ تَحَمُّلَ هذا الكَمِّ من التباين والاختلاف؟ الجوابُ الذي سيُعطى هو أنّ الوحدةَ تَكمن في أساسِ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي. فالقيمةُ الوحيدةُ التي لن يَتنازلَ عنها أيُّ فردٍ أو جماعة، هي الإصرار على البقاءِ مجتمعاً أخلاقياً وسياسياً. فالمجتمعُ الأخلاقي والسياسي هو الشرطُ الوحيد الكافي من أجل التباين ومن أجل المساواة والحرية. المجتمعُ الديمقراطي يُثبِتُ جدارتَه تدريجياً كحالةٍ عصريةٍ لذاك المجتمع التاريخي.
الليبراليةُ كأيديولوجيةٍ مركزيةٍ لنظامِ الحداثويةِ الرسميِّ تَستَخدِمُ كَمّاً كبيراً من الحجج والمُسَوِّغاتِ في سبيلٍ قلبِ هذه الحقيقةِ رأساً على عَقِب، بحيث تَكادُ تُطابِقُ نفسَها مع الديمقراطية، خالقةً بذلك معمعةً من الاصطلاحات المشوَّشةً. فرغمَ أنّ الليبراليةَ أيديولوجية، فمطابَقَتُها مع الديمقراطية التي هي نظامٌ سياسي، خيرُ مثالٍ على ذلك. بينما الليبراليةُ في مضمونها تَعني التدميراتِ التي لا يمكن كبحَ جماحها، والتي يتسبب بها الفردُ تجاه المجتمع. وهذا بدوره ما يُبَرهِنُ سيادةَ الاحتكاراتِ وحاكميتَها على المجتمع. وبدءاً من العائلةِ إلى الدولة، فهي تنزع نحو الديكتاتورية بسببِ شتى أنواع النزعة الفردية لديها، وبسببِ بُنيتِها اللاديمقراطية. بينما الشخصانيةُ الديمقراطيةُ مختلفة، حيث تُولي الأولويةَ للفرد بوصفه صوتَ المجتمعِ وقرارَه المشترك. فالفردُ لا يتميز بقيمةٍ ملحوظة، إلا لدى عمله أساساً بهذا الصوت والقرار. حينئذ يحتل مكانةً قديرة في المجتمع. الفرديةُ الليبراليةُ مناهِضةٌ للديمقراطية، باعتبارها ضرباً من الاحتكارات التي لا عدَّ لها ولا حَصر. وما مِن ثرثرةٍ أو معمعةٍ اصطلاحيةٍ ليبراليةٍ أو نيوليبراليةٍ بمقدورها تغييرَ خاصيتِها الأصليةِ هذه. فالليبراليةُ المستخدَمة، والتي تعني حرفياً مذهبَ الحرية، قد أَثبَتَت في التطبيق العملي عجزَها عن الذهاب بذلك إلى أبعد من التطورِ اللامحدودِ للاحتكارات فقط. فالحريةُ المعروضةُ ظاهراً مُكَبَّلَةٌ بشكلٍ ما على الصعيدِ العمليِّ بالأصفاد والأغلالِ الأيديولوجية والمادية المتعددة كثيراً بما لا مثيلَ له تاريخياً حتى في أنظمةِ الفراعنة. فالحريةُ الحقيقيةُ لا يمكنها اكتسابَ معناها في مجتمعٍ ما، إلا لدى تدعيمها بالبُعدِ الاجتماعي. بينما الحرياتُ الفرديةُ غيرُ المدعومةِ مجتمعياً، لا يمكن أنْ تعنيَ شيئاً إلا ارتباطاً بإنصافِ الاحتكارات. وهذا ما يُعَبَّرُ بدوره عن وضعٍ يَشُذُّ عن روحِ الحرية. أما المساواة، فليس لدى الليبراليةِ قضيةٌ من هذا النوع.
المجتمع القانوني
يَحيا المجتمعُ الأخلاقيُّ حالةً قصوى من الحصارِ والعطالةِ والضمور في تاريخه ضمن ظروف الحداثة الرأسمالية. كما أُقِيمَت الشيفراتُ القانونيةُ مقامَ القواعدِ الأخلاقيةِ فيه بما لا مثيل له في أيةِ مرحلةٍ تاريخية. حيث تَفرُضُ البورجوازيةُ كطبقةٍ حاكميتَها بأدقِّ تفاصيلها بتشفيرها تحت اسم القانون، بعد تهميشِ الأخلاق، لِيَتُمَّ إحلالُ المجتمعِ القانوني محلَّ المجتمعِ الأخلاقي. إننا هنا وجهاً لوجهٍ أمام تغييرٍ هامٍ، حيث تُصادَفُ مساعي القوننة في التاريخ، لكنّ أياً منها لَم تُخنَقْ في التفاصيل مثلما الحال عليه في حداثةِ البورجوازية. فما يتحقق هنا في الحقيقةِ هو بسطُ احتكاريةٍ طبقيةٍ باسمِ القانون، وخلقُ احتكاريةٍ قانونية. ذلك أنَّ إدارةَ طبيعةٍ معقَّدةٍ للغاية كالمجتمع عبر القانون أمرٌ غيرُ ممكن. لا ريب أنه للقانونِ مكانتُه في المجتمع، بشرطِ أنْ يَكُونَ عادلاً، وحينها لا يمكن الاستغناء عنه. لكنّ ما يُفرَضُ على المجتمع من قِبَلِ الدولة باسم القانونِ الوضعيِّ ليس قانوناً عادلاً، بل هو احتكاريةُ الطبقةِ والقوميةِ الحاكمةِ المُضَمَّنَةُ ضمن القانون، أي، قواعديةُ الدولة القومية. إفسادُ الأخلاقِ رديفٌ لفسادِ المجتمع. والمُجرياتُ تؤيد مصداقيةَ هذه الحقيقة. فالمجتمعاتُ المُفَضَّلَةُ اليوم كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا عاجزةٌ عن إحياءِ ذاتها ولو ساعةً واحدة دون وجودِ الأوضاعِ القالبية، أي دون القواعدِ القانونيةِ الرسمية. ويتحولُ المجتمعُ إلى ميدانِ وحشيةٍ مُرَوِّعةٍ دون وجودِ القانونِ الرسميّ، مثلما نلاحِظُ في مراحل الأزمة الحرجةِ بين الحين والآخَر.
الدولة القومية
في حقيقةِ الأمر، فهذا الوضعُ يُعَبِّرُ عن حقيقةٍ ما. إذ كنا قد أشرنا لدى تعريفِ الدولة القومية إلى أنها حالةُ الحربِ المفروضةِ على المجتمعِ حتى مساماته. ويَثبُتُ برهانُ هذه الحقيقة في مراحل المأزق والأزمات. فأعلى مستوى من كمونِ الأزمةِ المستفحلة تَحمِلُه مجتمعاتُ القانونِ الرسميّ. والسببُ هو افتقارُها للمبدأ الأخلاقي. وإنْ كانت البيئةُ تحيا الأزمةَ بأبعادِها الكارثية، فالسبب في ذلك يَعُودُ إلى عدم تطويرِ قانونِ البيئةِ بعد، مقابلَ الافتقارِ للبُعدِ الأخلاقي. علماً أنّ البيئةَ ليست موضوعاً يمكن حمايته بالقانون، كونَها بلا نهاية، بينما فاعليةُ القانونِ تتمثلُ في التقييدِ لأقصى الدرجات. بناءً عليه، فالتَّجَرُّدُ من مبدأ المجتمع الأخلاقي يَكمنُ في أساسِ القضيةِ الأيكولوجية. وأيُّ مجتمعٍ عاجزٍ عن إيلاءِ الشأن المُستَحَقِّ لمبدأ المجتمع الأخلاقي، هو مجتمعٌ مفتقرٌ للقدرةِ على الديمومة، سواءً ببنيته الداخلية أم ببيئته. والواقعُ الراهنُ يُوَضَّحُ ذلك على أكملِ وجه.
النقاطُ عينُها تَنطَبِقُ على المجتمعِ السياسي أيضاً. فلدى وضعِ الإرادةِ البيروقراطيةِ العملاقة للدولة القومية محلَّ السياسة، لا تبقى هناك فاعليةٌ ديمقراطية للمجتمعات. وإداريةُ الدولةِ القوميةِ المتغلغلةُ حتى أدقِّ مسامات المجتمع بوَضعِه هذا، إنما تُعَبِّر عن الحالةِ المشلولة للمجتمعِ. فمجتمعٌ تَرَكَ كلَّ منجَزاتِه وأعماله المشتركة للبيروقراطية، يَمُرُّ فعلاً بحالةِ شللٍ ثقيلةٍ ذهنياً وإرادةً على السواء. وأوروبا المنتبهةُ لذلك لم يَكُ تَشَبُّثُها بكل طاقتها بالمبدأ السياسي الديمقراطي بلا سبب. وتَقَدُّمُها لِحَدٍّ ما – وإنْ كان محدوداً – ينبع من تَركِها المجالَ مفتوحاً أمام السياسةِ الاجتماعية إلى جانب البيروقراطية.
الحداثة القومية
حسبَ دولةِ الحداثةِ القومية، فالمجتمعُ السياسي خطرٌ يُهَدِّدُ وجودَها ووحدتَها وتكامُلَها. بَيْدَ أنّ إداريةَ الدولة القومية، التي تَعَدَّت نطاقَ تضييقِ الخناق على العنصر السياسي المعَبِّرِ عن حالةِ وجودِ المجتمع، لِتَجعلَه في حالةٍ معطوبةٍ فعلياً، لا تَقتصرُ على تسليطِ البيروقراطيةِ على المجتمعِ كَسَيفِ ديموقليس، بل وتَخنُقُ المجتمعَ بها على مدارِ الساعة. ومثلما تعَدُّ هذه القضيةَ قضية الفلسفةِ السياسيةِ الأساسيةَ على الإطلاق لراهننا، فهي أكبر عائقٍ على دربِ الحياةِ عملياً بوصفها فاشية. كنتُ قد بَيَّنتُ سابقاً أن هتلر شخصياً قد مُنِيَ بالفشل، لكنّ نظامَه حظي بالنصر. والدولتيةُ القوميةُ رديفةٌ لفاشيةِ هتلر من حيث قضائِها على المجتمعِ السياسي (هتلر هو الشخصُ الذي أَعلَنَ ذلك وتَبَنّاه رسمياً، ولو أنه ليس أولَ شخصٍ نَجحَ في ذلك بشكلٍ محض).
المجتمعُ المفتقرُ إلى المبدأ السياسي، أو لا يَعمَلُ به، أو أنه مُبادٌ لديه؛ إنما هو جثةٌ هامدة. وفي أحسنِ أحوالِه، فقد يُعَبِّرُ عن المجتمعِ المستَعمَر. لهذا السبب بالذات، فالوظيفةُ التي أناطَ المجتمعُ الديمقراطي المبدأَ السياسيَّ بها تتسم بأهميةٍ حياتية. وتَفَوُّقُه كنظام خيرُ برهانٍ أساسيٍّ على ذلك.
الصراع الطبقي
تاريخُ المدنيةِ بمعنى من المعاني هو تاريخُ تضييقِ الخِناقِ على المجتمع السياسي، وتقزيمه وتهميشه بِشَلِّ وظيفته وفاعليته. وتَحَوُّلُ المجتمعِ طبقياً لم يَكُن ممكناً إلا بقمعِ النضال السياسي الشاقِّ والحاسم لصالحِ الدولة. يجب الانتباه بدقةٍ بالغةٍ لهذا الأمر. فحتى الماركسيون الأكثر انشغالاً بقضيةِ الصراع الطبقي ظلّوا عاجزين عن تشخيصِ طبيعةِ التحول الطبقي بشكلٍ صحيح. بل ولَم يتمالكُوا أنفسَهم من تقييمِ التحولِ الطبقي كفضيلةٍ تَحُثُّ على تَقَدُّمِ الحضارة. واعتَبَروا تناوُلَه كمرحلةٍ ضروريةٍ ينبغي على التاريخ أنْ يَمُرَّ منها بشكلٍ مُطلَق، وكعلاقةٍ جسريه لا بدَّ منها على أنه من ضروراتِ الماديةِ التاريخية. لقد قَيَّمتُ التحولَ الطبقيَّ في تحليلاتي بشأن المدنية على أنه تضييقُ الخناقِ على المجتمعِ السياسي والأخلاقي، وتعطيلٌ له؛ وشَدَّدتُ بأهميةٍ بالغةٍ على أنه كلما تصاعدَ التحولُ الطبقي، كلما خَضَعَ المجتمعُ لمزيدٍ من هيمنةِ السلطةِ والدولة. والتاريخُ بمعناه هذا عبارة عن صراعٍ طبقيٍّ محتدم. لكنّ التحولَ الطبقيَّ بِحَدِّ ذاتِه، دعكَ من أنْ يَكُونَ تَقَدُّماً أو تَطَوُّراً؛ بل بالعكس، هو تَراجُعٌ وتَهاوٍ اجتماعيّ. وأخلاقياً إنه تَطَوُّرٌ سيئٌ، وليس حَسَناً. أما الزعمُ بأنّ التحولَ الطبقيَّ محطةٌ لا مفر منها على دربِ التقدم، بل وتحديدُ ذلك بأنه تعبيرٌ ماركسي؛ إنما هو خطأٌ جَسيمٌ في نضالِ الحرية.
لدى مقارنتنا المجتمعَ السياسيَّ مع المجتمعاتِ الطبقية، فأصَحُّ تعريفٍ له هو أنه مقاومتُه الدائمة تجاه التحول الطبقي. فالمجتمعُ الأفضل هو الأقلُّ تَعَرُّضاً للتحولِ الطبقي. ونجاحُ النضالِ السياسي يتحدد بعدمِ إخضاعِه للتحول الطبقي. أي، لا يمكن إثبات نجاحِ أيِّ كفاحٍ سياسيٍّ، إلا بالحيلولةِ دون إخضاعِه مجتمعَه للتحول الطبقي، بالتالي بعدمِ إقحامِه إياه في العنفِ الأحاديِّ الجانب من قِبَلِ أجهزةِ السلطة والدولة. بينما الحديثُ عن نضالٍ سياسيٍّ ناجحٍ في المجتمعاتِ التي تعاني من عنفِ السلطة والدولة حتى حلقِها، فهو ضلالٌ جاد. أما الوضعُ الأمثل بالنسبة للمجتمعِ السياسي، فهو عدم الإذعانِ بتاتاً لعنفِ السلطةِ والدولة (بهذا المعنى، فلا أهميةَ ملحوظة لأنْ يَكُونَ العنفُ داخلياً أم خارجياً، قوموياً أم غيرَ قوموي)، أو هو الاعترافُ بالسلطةِ والدولة اعتماداً على الرضى المتبادَل حصيلةَ وفاقٍ يُحَدِّدُه نضالٌ محتدم.
العصرانية الديمقراطية
الحداثةُ الرأسماليةُ هي آخِرُ مراحلِ المدنية، وأكثرُها تضييقاً على المجتمع السياسي وتعطيلاً لوظائفه. ينبغي استيعابَ هذا الأمر جيداً. فحسبَ تعبيرِ الليبراليةِ كهيمنةٍ أيديولوجية، يُعَدُّ النضالُ السياسيّ، بل وحتى السياسةُ الديمقراطيةُ متطوِّرَين لآخِرِ درجة في عهدها. هذه المزاعِمُ التي تتبدى صحيحةً لدى النظر السطحيِّ إليها، إنما تُعَبِّرُ عن النقيض مضموناً. فهو العهدُ الذي يحيا فيه المجتمعُ الأخلاقيُّ والسياسي حالتَه المعطوبَةَ القصوى في التاريخ، حصيلةَ التطويرِ الأعظميِّ للنزعة الفردية والاحتكارية. فالدولةُ القوميةُ كأقصى سلطة، تعني المجتمعَ اللاسياسيَّ لأقصى درجة. أي أنّ الدولةَ القوميةَ تُوَلِّدُ هكذا مجتمع. بل ولا يَبقى في الوسط شيءٌ اسمه مجتمع، وكأنّ المجتمعَ مصهورٌ في بوتقةِ الدولة القومية والشركات المُتَعَولِمَة. ميشيل فوكو يَعتَبِرُ الدفاعَ عن المجتمعِ في هذه النقطة أساساً للحرية، ولا يَقتَصِرُ في تقييمِ ضياعِ المجتمعِ (من قِبَلِ الفردية المُتَطَرِّفة والاحتكارات كحداثةٍ بذاتِها) على أنه خُسرانٌ للحريةِ وحسب، بل وخُسرانٌ للإنسانِ أيضاً.
العصرانيةُ الديمقراطيةُ هي المَخرَجُ الوحيدُ لِنَيلِ الحرية بالتناسُبِ طردياً مع مدى حمايةِ المجتمع. فالمجتمعُ المدافِعُ عن ذاته بالسياسةِ الديمقراطية (تجاه النزعة الفردية والدولة القومية والاحتكارات)، يُصَيِّرُ ذاتَه مجتمعاً ديمقراطياً عصرياً من خلال تفعيلِه نسيجَه السياسي. بينما المجتمع الديمقراطي العصريُّ بدوره يُثبِتُ تَفَوُّقَه بإحيائه للتبايُن والاختلاف والتعددية الثقافية، وإنعاشِه للمساواة تأسيساً على ذلك، بوصفه مجتمعَاً يُفَكِّرُ ويُناقِشُ جميعَ شؤونِه الاجتماعية، ويَتَّخِذُ قراراتِه بشأنها لإدراجِها حيزَ التنفيذ. هكذا، فالعصرانيةُ الديمقراطية لا تَكتَفي بخوضِ الصراعِ الطبقي على أساسٍ سليمٍ وحسب، بل وفي الوقتِ نفسهِ، هي لا تَخنقُ مجتمعَها بخلقِ سلطةٍ أو دولةٍ جديدة (الخطأُ المأساويُّ التاريخيُّ للاشتراكية المشيدة)، ولا تَقَعُ في هذه المَصيَدَةِ التاريخية. فهي مُدرِكةٌ لأنه كلما تَحَوَّلَت إلى سلطةٍ أو دولة، فسيتنامى التحولُ الطبقيُّ بالمِثل، وبالتالي، فسيَخسَرُ النضالُ الطبقيّ. من هنا، عليها تحديدَ هذا الإدراكِ على أنه أحدَ أهمِّ مزاياها الأساسية.
وبالعصرانية الديمقراطيةِ لا يتم خلقُ نمطِ مجتمعٍ جديدٍ من قبيل الرأسمالية أو الاشتراكية. بل هي تُشير إلى أنّ هذه المصطلحاتِ دعائيةٌ بعيدةٌ عن توصيفِ المجتمع. لا شك أنه يتحقق مجتمعٌ ما. لكنّ هذا المجتمعَ مجتمعٌ ديمقراطيٌّ عصريٌّ يُؤدي فيه المبدأُ الأخلاقيُّ والسياسيُّ دوراً عظمياً، وتَعجَزُ الطبقيّةُ فيه عن إيجادِ فرصةٍ للتطور الملحوظِ ضمنه، بالتالي، إما أنّ أجهزةَ السلطةِ والدولة تبقى عاجزةً عن فرضِ تَعَسُّفِها وعنفِها، أو أنها تتحقق بالتأسيس على توافُقٍ متبادَلٍ مُعتَرَفٍ به، وتَنتَعِشُ فيه الوحدةُ ضمن التبايُن، وتُعاشُ فيه المساواةُ والحريةُ والشخصانيةُ (وليس النزعة الفردية) كخاصيةٍ للمجتمعية. ذلك أنّ المزيدَ من المساواةِ والحريةِ والديمقراطية ثمرةٌ للتغيُّرِ والتطوُّرِ الذي أفسَحَت مؤسسةُ السياسة الديمقراطية المجالَ أمامه بِحُكمِ طبيعةِ هذا المجتمع.
إذن، والحالُ هذه، وفي حالِ خروجي من السجن، فأينما كان مكاني أو اللحظةُ التي أحياها، فإني حُكماً سأواظبُ حتى آخِرِ رمقٍ على خوضِ الكفاحِ المتواصلِ بشتى أنماطِ القولِ والعمل من أجل المجتمعيةِ التي جهدتُ لتحقيقِ الانتماءِ إليها؛ ومن أجلِ الكردِ الذين يَحيَون حقيقتَها الأكثرَ مأساوية، وتحوُّلِهم الوطنيِّ الديمقراطيّ، الذي هو سبيلُهم إلى الحلِّ والتحرر؛ ومن أجلِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطية”، الذي هو سبيلُ الحلِّ والخلاصِ بالنسبةِ لشعوبِ الجوارِ أولاً ولكافةِ شعوبِ الشرقِ الأوسطِ التي يُعَدُّ الكردُ جزءاً منها؛ وكذلك من أجلِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطيةِ العالمية”، الذي هو سبيلُ الحلِّ والخلاصِ بالنسبةِ إلى جميعِ شعوبِ العالَمِ التي تُعَدُّ شعوبُ الشرقِ الأوسطِ جزءاً لا يتجزأُ منها. وسأثابرُ على مسيرتي اعتماداً على شخصيةِ الحقيقةِ التي نالَت نصيباً وفيراً من الحقيقةِ لديّ، ومتحصناً بالقوةِ الأخلاقيةِ والجماليةِ والفلسفيةِ والعلميةِ اللازمةِ لذلك؛ وسأَكسَبُ الحياةَ بناءً على ذلك، وسأَتشاطَرُها مع الجميع.
إذن، والحالُ هذه، وفي حالِ خروجي من السجن، فأينما كان مكاني أو اللحظةُ التي أحياها، فإني حُكماً سأواظبُ حتى آخِرِ رمقٍ على خوضِ الكفاحِ المتواصلِ بشتى أنماطِ القولِ والعمل من أجل المجتمعيةِ التي جهدتُ لتحقيقِ الانتماءِ إليها؛ ومن أجلِ الكردِ الذين يَحيَون حقيقتَها الأكثرَ مأساوية، وتحوُّلِهم الوطنيِّ الديمقراطيّ، الذي هو سبيلُهم إلى الحلِّ والتحرر؛ ومن أجلِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطية”، الذي هو سبيلُ الحلِّ والخلاصِ بالنسبةِ لشعوبِ الجوارِ أولاً ولكافةِ شعوبِ الشرقِ الأوسطِ التي يُعَدُّ الكردُ جزءاً منها؛ وكذلك من أجلِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطيةِ العالمية”، الذي هو سبيلُ الحلِّ والخلاصِ بالنسبةِ إلى جميعِ شعوبِ العالَمِ التي تُعَدُّ شعوبُ الشرقِ الأوسطِ جزءاً لا يتجزأُ منها. وسأثابرُ على مسيرتي اعتماداً على شخصيةِ الحقيقةِ التي نالَت نصيباً وفيراً من الحقيقةِ لديّ، ومتحصناً بالقوةِ الأخلاقيةِ والجماليةِ والفلسفيةِ والعلميةِ اللازمةِ لذلك؛ وسأَكسَبُ الحياةَ بناءً على ذلك، وسأَتشاطَرُها مع الجميع.