بطلة أعمالي هي المرأة – الفنانة التشكيلية : ملك زكي مسلم

بطلة أعمالي هي المرأة فهي زوبعة الحياة النقية

الفنانة التشكيلية: ملك زكي  مسلم

 

لازالت تلك الصورة الخلابة تتراءى أمام ناظري باستمرار. صورة من طبيعة قريتي الجميلة (قورت قولاق)، التابعة لمنطقة عفرين، لطريق ساحر مليئة بالأشجار الخضراء (أشجار الصنوبر)، وتليها مساحات شاسعة لأشجار الزيتون وذلك اللون (لون التربة) المليء بالعنفوان والحب. كنتُ أستمتع بالنظر إليها عندما كنتُ طفلة، وحتى وقت شبابي في كل مرة بينما نحن في طريقنا إلى منزلنا في القرية. وذلك الهواء الذي كان ينعش ثنايا الروح وكأنني أتنفس للمرة الأولى. هذه الصورة طُبعت في ذاكرتي منذ طفولتي ، بل حُفرت في مخيلتي. لا أرض أجمل من أرض عفرين، ولا رائحة اذكى من رائحة ترابها، ولا راحة وأمان إلا بين أحضانها.

جميع فصولها متميزة، كيف لا وهي أرض الأجداد أرض الزيتون ورمز السلام. أخص بالذكر فصل قطاف الزيتون ذلك الفصل المتألق كلمعان حبات الزيتون، عندما تسطع عليها شمس الصباح. ذلك الفصل الذي كان له نكهة خاصة وطرية. حيث رائحة الزيتون والمعاصر تعبق بكل الأرجاء، ودخان حطب المدافئ الذي كان يجتمع حوله الأهل بعد يوم شاق من قطف الزيتون. لا أنسى ابداً تلك الفرحة الغامرة والممزوجة بتعب لذيذ على وجه أبي وأمي وهما معاً يداً بيد، جنباً إلى جنب، قلباً على قلب وهم يجنون الزيتون، وصوت أبي الشجي وهو يغني لأمي بكل حب للفنان شڤان پرور (Lê Dotmam)، تلك الذكريات لن تُمحى من ذاكرتي ما حيّيت.

كل تلك الصور الجميلة في مخيلتي تأبى أن تصدق بأن هذه الأرض المباركة وهؤلاء الناس الطيبون تمت استباحتهم، وكل ذلك الظلم والاضطهاد الذي يمارس عليهم يأبى عقلي التصور ولو للحظة واحدة. فهي بذاكرتي وقلبي بذاك الجمال اللامتناهي وستبقى كذلك. وأتمنى أن نعود يوماً وتعود أرضنا لنا كما هي وستبقى لنا.

الرسم هو ذلك الركن الدافئ الذي يمدني بالأمان والطمأنينة، ويلامس روحي في ظل كل ما هو قاس وصعب في هذه الحياة. فهو أجمل أشيائي.

طموحي كبير ولا أظن بأني وصلتُ بعد لعتبات النجاح كما أتوق. لكني أتمنى أن أترك بصمة يوماً ما في هذه الحياة من خلال ريشتي ولوحاتي.

للحلم بقية بكل تأكيد وأنا محكومة بالأمل  وبالأمل فقط. رغم كل الظروف والمواقف العسيرة التي لطمتنا بها بحور هذه الحياة ولا زالت، فلا بد من الاستمرار، فلربما نظرة من طفلك/طفلتكِ كفيلة أن تمدك بطاقة هائلة لا حدود لها للمضي قدماً دون تذمر، وهذا ما نستمد منه قوتنا وعزيمتنا في هذه الغربة. الغربة التي تركت أثرها في نفسي وروحي وعلمتني الكثير؛ بداية من رحلة الهجرة عبر الحدود التي عشنا معها الويلات والقهر، وحتى أحياناً الانكسار الذي  كان يُرمم بكلمة صغيرة أو حتى نظرة منهكة من أولادي.

 

تلك النظرة التي كانت ترمم عظامي المتآكلة وأجنحتي المتكسرة، وتحولها إلى جبل صامد متين لأمضي صامدة وقوية ومقاومة. الحياة لا تفتح لنا أبوابها على مصراعيه بدون ثمن، فلا بد من الكد والكفاح. استطيع القول بأن الغربة صقلتني اكثر فأكثر وجعلت مني امرأة أنضج، وكما أثرت على أسلوبي في الرسم أيضاً. ففي سنواتي الأولى من الغربة كنتُ أرسم الوجوه البائسة والعيون الباكية، كنتُ اترجم كل الأوجاع على لوحاتي التي كانت تمثلني بشدة، فهو انعكاس لما مر علينا في هذه  الحرب وما خلفتهُ من التمزق الاجتماعي، بالإضافة إلى تلاشي كل الآمال والأحلام. فكانت كل اللوحات حزينة لدرجة أن أولادي كانوا يقولون: لمى كل هذا الكم من الألم يا أمي؟

تأملت بكلماتهم وتأثرتُ بهم وبدأتُ أغير مساري قليلاً، فالحزن والوقوف على الأطلال ليس هو المفتاح لأبواب الحياة المؤصدة!

 

المرأة هي أهم جزء من لوحاتي فهي بطلة أعمالي. المرأة تلك الإنسانة القوية والمقاومة والمليئة بالطاقة الإيجابية للحياة وتتوق للحرية والأمان دوماً.

نشأتُ في عائلة محبة للعلم، وتلقيتُ تشجيعاً كبيراً من والدي مما كان له الأثر الاكبر في دفعي للأمام، وجعلي من الطالبات المتفوقات. دراستي الابتدائية كانت في مدرسة (فايز محمد)، في الأشرفية بحلب، ثم تابعتُ دراسة المرحلة الإعدادية ثم الثانوية العامة حتى التحقتُ بمعهد إعداد المدرسين /قسم التربية الفنية. إن الرسم كان الجزء الأكبر من طموحي الذي تحقق. تخرجتُ من المعهد في عام ٢٠٠٤، ثم تم تعييني كمعلمة  للتربية الفنية في مدرسة (يونس السبعادوي)، في الأشرفية عام ٢٠٠٩ حتى عام ٢٠١٤.

أثناء الحرب كنتُ معلمة للغة الكردية في مدرسة القرية ٢٠١٥. وبسبب ظروف الحرب التي فرضت نفسها علينا، أُجبرتُ مثل الآلاف غيري على الرحيل وأنا أعيش الآن مع عائلتي  في ألمانيا منذ ٢٠١٧.

حبي للرسم بدء منذ الصغر؛ حيث كنتُ أنال الإعجاب وكلمات التشجيع من محيطي ومدرستي. عندما كنتُ أرسم لوحة ما كان يمدني بحافز أقوى للمضي قدماً .

أجمل ما في الرسم أنه يأخذني من عالمي إلى عالم مختلف تماماً. عالم تتشابك فيه أصابعي مع الألوان، وتخرج مكنوناتي وأفكاري وأحلامي لتتراقص على بقعة بيضاء.

من خلال الرسم أعبر عن ذاتي بعيداً عن صخب الحياة وجنونها؛ بزاوية هادئة مضيئة بسكب الألوان على بقعة ناصعة لتتحول للوحة تتحدث عن جزء صغير مني .

أغلب لوحاتي هي بألوان (الإكرليك)، وبالرغم من أن الرسم بالفحم والرصاص يتطلب دقة أكبر ومجهود أكبر، لكني لازلت أعشق الرسم بالرصاص، وخاصة تلك الوجوه المسنة التي أتوق لرؤية كل تفصيلة وكل تجاعيده، والعيون التي تحكي الكثير بصمت والتي أستطيع أن أرى تاريخاً بأكمله من خلفهما.

المرأة هي جزء أساسي ومهم في لوحاتي؛ فهي تمثلني بالدرجة الأولى وتمثل الجمال والتأمل والتوق للحرية، فأغلب لوحاتي المتمثلة بالمرأة لها أجنحة، فهي دائمة التحليق حتى لو بخيالها فلها عالمها المتفرد الخاص .

أجد نفسي أنتمي للمدرسة الواقعية والتعبيرية أكثر من غيرها من المدارس الفنية. رغم أني لستُ مع تصنيف مكنونات الروح إلى مدارس فنية  .

فكوني نشأتُ في بيئة وعائلة تحترم المرأة وتقدرها ولها من المكانة الكبرى والشأن الأعظم في الحياة، فأنا لا أستطيع أن أرى المرأة إلا إنسانة قوية عظيمة وواثقة ومعتزة بذاتها. فهي كل الدفء والأمان، كيف لا وهي الأم والأخت والزوجة والحبيبة والصديقة والكادحة والنور والمقاتلة والحامية لروح الحياة التي تبعثُ السلام والراحة. فالمرأة والحرية متلازمتان فلا يمكن لمجتمع أن يكون حراً وتسوده المساواة إلا بتمتع المرأة بحقوقها وحريتها، فهي ليست فقط نصف المجتمع؛ بل هي أساس المجتمع وهي من تربي وتنشئ نصفها الآخر. لذلك المرأة بالنسبة لي؛ هي حالة استثنائية، ولها الدور الأعظم في لوحاتي، فكل بطلات لوحاتي متفانيات متأملات وجميلات وعظيمات.

أسعى لتطوير ذاتي باستمرار، فأنا أعتبر نفسي في درجاتي الأولى في سلم الفن. فأنا لا زلتُ أحبو ولدي طريق طويل لكني واثقة من وصولي إلى النهاية رغم كل الثغرات والصعوبات، وبُعد العين عن رائحة تراب عفرين وأشجار الزيتون الأخضر. الحلم والأمل أجمل ما يمد الإنسان بالعزم والإيمان، فقلوبنا الصغيرة مليئة بالأحلام التي لابد أن يتحقق في المستقبل. كلما أشتاق لعفرين أبدأ بالرسم. هنا الشوق والحب يحول ريشتي إلى أغصان تلك الشجرة الممشوقة القامة. سأرسم لأجلها، فهي الحياة والمرأة وجمالية الحرية بالنسبة لي.

ملك زكي  مسلم/ مواليد الديب الكبير ١٩٨٣ عفرين/الإقامة الحالية في المانيا منذ ٢٠١٧/  شاركت بعدة معارض مشتركة في مناسبات مختلفة/ أولى مشاركاتها كانت  في مدينة  بون من أجل دعم عفرين ٢٠١٩/ ومعرضين  مشتركين  في  مدينة (كريفيلد) مع جمعية (رنغ آرت)  في عامي ٢٠٢٠ و٢٠٢١/ ومعرض مشترك  مع مجموعة من الفنانين في مدينة (شفيرتيه) عام ٢٠٢٢/ وعملت مع منظمة AWO الالمانية كورساً للرسم وآخر للرقص الكردي بين عامي ٢٠١٨ و٢٠١٩/