هُنّ سويداءُ القلبِ … عظيماتُ مسيرة الحرّية

هُنّ سويداءُ القلبِ … عظيماتُ مسيرة الحرّية

                                                                         ساكينة جانسيز

                                                                                                 أفين گويي

                                                                         فيدان دوغان

                                                                                           ليلى شايلمز

إعداد الكاتبة والإعلامية: سوزدا أحمد

 

تأتين من رحم الصراعات ما بين الخير والشر

تأتين عندما يغيب شمس الحرية فتشرق لتعيد النور مرة أخرى

تأتين كأمسيات الثوار الخفية في إحدى زوايا القرى النائية

تأتين كربيع حل على ركام حطب نال منه الدهر

مع حكايات مدفونة بين كؤوس الشاي

مثل الف حكاية  وأسطورة تناقلت عبر العصور من جيل لجيل

 تكتنزن تاريخ

كأنها أنتن ساكينة وأفين وفيدان وليلى

ميزوبوتاميا هي نبع الثورات. والثورة الكردستانية ذات طابع أممي واضح؛ لأنها ذات تأثير قوي على النضالات التحررية للعديد من الشعوب، وهي التي تشعل شرارة لهيب نيران النضال التحرري في الساحة الشرق الأوسطية مما سيؤدي حتماً إلى طريق التحرر أمام شعوب هذه المنطقة.

 وكانت للمرأة دور مهم جداً في هذه الثورات والتي سعت هي أيضاً من خلالها لإحداث ثورة للمرأة، لتغيير الذهنية الذكورية السائدة في المجتمعات وتأثيرها على الشعوب الأخرى، فعملت المرأة عبر التاريخ ومن خلال الثورات الكردية وخاصة ضمن صفوف حزب العمال الكردستاني على بناء شخصيتها الثورية، ونشر أيديولوجية تحرير المرأة في كل مكان للتخلص من الحياة التي باتت تمثل اللاحياة بذاتها. هذه الحياة التي نشاهد فيها أفظع الممارسات بحق المرأة، من اغتصاب وإنهاء الحياة وقتل ومن بينها أيضاً؛ صفحات تاريخ كردستان وانضمام كافة النساء؛ وتاريخ الشعوب المضطهدة الساعية إلى الحرية والتخلص من الظلم والاستعباد.

كنتُ قد سمعتُ كثيراً عن نساء مناضلات نساء ضحين بحياتهن وكرسن جهدهن لخدمة قضاياهن، قرأتُ الكثير من كتب التاريخ على حياة نساء عشن سنوات من الكفاح والنضال حتى يحققن أهدافهن وليغيرن مجتمعهن. ولكل واحدة منهن ما يميزها عن غيرها، ورغم تشابه الأهداف، إلا أنه كان لكل واحدة منهن بصمتها الخاصة بها.

حتى من العصر النيولوتي تلك النساء اللواتي اعتمدن على ذواتهن للحفاظ على نسلهن وعلى أطفالهن، هن من سعين إلى الاكتشافات والابتكارات بين الطبيعة ومعرفة أسرار الحياة بحقيقتها، حتى الوصول إلى نساء هذا العصر. تأثرتُ بهن واحدة تلوى الأخرى، فتركت كل واحدة منهن بصمتها في حياتي، كما أثرن على الملايين من النساء غيري، فكانوا قدوةً لنا لنسعى نحن أيضاً لنيل حريتنا والمطالبة بحقوقنا التي سُلبت منا بشتى الطرق والأساليب على مر العصور والأزمنة.

وأكثرهن تأثيراً كانت المناضلة والشهيدة والثائرة ساكينة جانسيز والتي كانت أول امرأة كردية تكون العضوة المركزية الرسمية لحزب العمال الكردستاني، وهي التي بدأت المسيرة الثورية بنضالها ومقاومتها في الفعاليات التنظيمية والسياسية والعسكرية ومرحلة اعتقالها في سجون الدولة التركية. كثيرة هن الفتيات المناضلات في تاريخنا ولكن الشهيدة ساكينة جانسيز هي الثورية الأولى التي وضعت بصمتها التاريخية على كافة المجالات القيادية وفي الظروف الصعبة.

كان اسمها دائماً يتردد على مسمعي، سواءً ضمن العائلة أو على شاشات التلفاز أو على المجلات، إلا أن قراءتي لكتابها الذي يحوي الكثير من المذكرات القيمة لمراحل حياتها باسم “حياتي كلها صراع”. جعلني أتعمق في معرفتها أكثر، الأمر الذي أثر في شخصيتي من خلال سيرة حياتها الشاقة والمليئة بالمجازفات. كانت تعمل على خلق الفرص لنفسها وتنظم ذاتها ومن حولها في خدمة الأهداف والطموحات التي كانت تسعى إليها، تعرّفت على فكرها الثوري وتأثرت بالقيم التي عملت على ترسيخها في شخصيتها، تأثرتُ وتعرفتُ من خلالها على معنى أن يعيش الإنسان مظلوماً، ومعنى أن يعيش الشعب الكردي تحت نير الاستبداد والظلم، فكانت مدرسة من المقاومة وكتاباً من نضال وفلسفة بحد ذاتها في صراعها مع صعوبات الحياة، وكيفية تجاوزها لتحولها إلى جسر تمر عبره إلى عالم الحرية رافضة الخنوع والاستسلام مهما كان الثمن.

الشهيدة ساكينة جانسيز أو “سارة” التي كانت تعتبر أيقونة للحرية والديمقراطية، فقد كان نضالها مسيرة كل القِيَم الجميلة والفاضلة المُحصِّنة لحركة التحرر الكردستانية، إنها تُمثِّل مجموع إرث العدالة، والحق، والمساواة، والوجدان، والحرية، والديمقراطية البارزة في كدح المرأة.

 ولدت ساكينة جانسيز في يوم 12 شباط 1958، في ليلة الزمهرير ليلة باردة جداً، إنها ولدت في قرية “عرش الخليل” التابعة لمدينة “ديرسم”، في أول العام، وسجلها والدها بعد عودته في إجازة، حيث كان يخدم في الجيش التركي، وبالفعل أصبح ميلادها الرسمي هو في منتصف شهر شباط، أو بحسب تعبيرها (من حسن الحظ أن أولد في بداية السنة الميلادية) في منتصف الشتاء في منطقة جغرافية تُعرف بشتائها المثّلج والقارص كالزمهرير.

 تميزت بخصالها القوية، اكتسبت خصائص النضال والمقاومة والروح الثورية من مدينتها، التي عرفت المجازر والإبادة والتطهير العرقي والإنكار، والإقصاء على يد الدولة التركية الحديثة، والتي كان آخرها “مجزرة ديرسم 1938″، حيث قتل الآلاف من العوائل، فهي سطرت تاريخاً عظيماً بمقاومتها.

وقد كتبت الشهيدة ساكينة في كتابة مذكراتها “حياتي كلها صراع“:

أمي وأبي: أبناء مجزرة ديرسم

“أمّوش” امرأة مختلفة عمّن حولها. وهي أرملة البيت المقابِل لمنزلنا، على الطرف الآخر من النافورة. فكل حركةٍ من حركات هذه الأرملة، التي هي أمٌّ لستة أطفال، كانت تلفت الأنظار، وتُسيء فهمَها. لذا، لَم تَكن تحبّها النساءُ الأخريات كثيراً. إذ يَعكس سلوكُها في علاقاتها حالتَها النفسيةَ كأرملة، ويثير الاستياء والشكوك والحسد. لذا، لم تنقص النميمة عنها أبداً. وعلى الرغم من ذلك، كانت قريتنا تتميز عموماً بالتناغمِ والعلاقات الحميمة والاحترام المتبادل وقلة الشجار بين أهلها. ولم تشهد الحوادثَ التي تُفسِدُ عليها نظامها هذا.

لَم أَنسَ قط العم إبراهيم الذي كان يستمع إلى الأغاني التي يبثُّها مذياعُه القديم باللهجة الكرمانجية من اللغة الكردية، والتي كنا نسميها “كرداسكي”. وعندما يبثُّ مذياعُه مواويلَ الفنانة “عائشة شان”. التي تشرح الصدور، كان يفتح الصوت إلى أقصاه، لدرجةِ أن أهالي قرية “شكرمان” المجاورة كانوا قادرين على سماع صوتها. وأحياناً كان صوت المذياع يأتينا من تلك القرية أيضاً. كان يحدث أن يستمعَ الأهالي بفضول واضح إلى نشرة الأخبار أحياناً. فيلتزم الجميعُ الصمتَ حينها، اعتقاداً منهم أنه ثمة أمور جدية تحصل. حتى نحن الأطفال، كنا نحاكي الكبار في التزامِ الصمت والتظاهر بالجدية، على الرغم من عدم فهمنا لِما يدور حولنا.

أمي وأبي هما من أبناء مجزرة ديرسم. إذ وُلِدوا في تلك السنوات. أمي أصغر من أبي بعدة سنوات. وما يزال أبي يتذكر ويَذكرُ لنا المصاعب وحالات القمع التي شهدها بعد المجزرة. أمي هي ابنةُ “حسن حمد الكاليك” من قبيلةِ “كورايشان”، إذ يُعَدُّ جدي لأمي من وجهاء القبيلة، ويمتلك العديدَ من القرى والمطاحن والدكاكين. أي أن أمي تُعَدُّ ابنةَ عائلةٍ ميسورة. وقد تزوجَت من أبي وفق العادات والتقاليد. وهي تتسم بخصائص تتماهى مع الأعراف السائدة. أما عائلةُ أبي، فهي فقيرة. وقد تزوَّجَت جدتي لأبي مرتَين. إذ كان أبي وحيدَها من جدي لأبي، والذي كان يافع الطويل وسلس الخُلُق. ويبدو أن كُنيتَنا “جانسيز” تأتي من خصاله هذه.

لا أتذكر ملامح جَدّاي كلَيهما، لأنهما قَضَيا باكراً. تنتمي عائلةُ أبي إلى عشيرةِ “آل سليمان”، التي هي إحدى عشائرِ قبيلةِ “كورايشان”، والتي نلفظُها في لهجتنا الزازائية على شكل: “سلامان”. يبدو أن حميميةَ العلاقة بين جدي لأبي وجدي لأمي، قد لعبت دوراً مؤثراً في زواج والداي. لكنّ أمي هربَت في أول ليلة لها من زواجها، لتَعود إلى القرية، لأنها لم تَتقبّل حياةَ الفقرِ في عائلةِ أبي. إلا إن جدي لأمي رفض سلوكها هذا، وأصرّ على زواجِها، ورفضَ قبل ذلك كلَّ مَن تقدَّم بالزواج منها طيلةَ ثلاث سنوات. وقد عُرِفَت بلقبِ “عروسُ تلك العائلة” (في إشارة إلى عائلة أبي)، وفاءً لصداقتهم الحميمة. فعلى الرغم من كثرةِ المتقدمين للزواج منها، كان جدي لأمي يقول لابنته: “أنتِ عروسُ تلك العائلة، ولا يمكنني أن أزوّجك من أحد آخر”، مُعَبِّراً بذلك عن التزامه بوعده. وفي النهاية، يتمكن جدي لأمي من إقناع ابنته، لتَعودَ أدراجها إلى منزلها الزوجي. لقد حَزَّت هذه الحادثةُ في نفسِ جدي لأمي، لكنه واجهَها بالصبر والنضوج إلى أن أقنَعَها. وطالما روى لنا هذه الحادثة فيما بعد، كخيرِ مثال على مدى “إجحافِ” أمي على حد تعبيره.

كانت أمي في المهد أثناء أعوام مجزرة ديرسم. إذ لجأت جدتي لأمي، وزوجات أولادها، وأولادها الآخرون، وأحفادها جميعاً إلى غابةٍ كثيفة قريبة من “نهر منذر” للاختباء. لم تَكُن جدتي تَجدُ الوقتَ حينها حتى لإرضاعِ أطفالها. فكانت أمي تبكي جوعاً على الدوام. وخوفاً من أن يَفضحَ صوتُ بكائِها مكانَ اختبائهم، حاولَ خالي ذات مرة أن يرمي بأمي في النهر. إذ كان ثمة طريقٌ عُبِّدَت حديثاً، على الطرف الآخر من النهر مباشرة، وكانت العربات العسكرية كثيرة المرور بتلك الطريق، بل وتقف أحياناً للاستراحة هناك. لذا، كان احتمالُ سماعِ صوتِ البكاء وارداً بشدة. لهذا السبب، انتشلَ خالي أمي من حضن جدتي كي يرمي بها في النهر. إلا إن جدتي صرخت واستردت ابنتَها ثانية من بين يدَي خالي، وضغطَت على فمِها كي تَكتمَ صوتَها متوسلةً أخاها: “اهدأ، سوف أُسكِتُها، ولن يسمعَ أحدٌ صوتَها”. وهكذا تُنقَذُ حياةُ أمي. لذا، طالما سمعتُ أمي تقول، عندما تغضب أو تمرُّ عليها لحظاتٌ لا تطاق: “ليتهم رموا بي حينها في النهر ليخلّصوني من هذا العذاب!”.

جُلَّ ما كان أخوالي يروون لنا ذكرياتهم عن تلك الفترة المأساوية. لكنّ ذكرياتِ أبي حول تلك الفترة أثرت فينا أكثر. ذلك أن الأحداث التي مرّ بها كانت أكثر إيلاماً وأكبر وَقعاً. فضلاً عن أنه كان يروي الأحداث وكأنه يعيشها ثانيةً في كل مرة. كما كانت ذاكرتُه قويةً ومنتعشةً للغاية، ما دفعَه ذلك إلى عَكسِ ذكرياته تلك على أشعارِه وأغانيه وعَزفِه على البزق.

استمرت مجزرة ديرسم، التي بدأت عام 1938، حتى أربعينيات القرن العشرين. إذ تعرّضت القرى للقمع حتى عام 1945، بحثاً عن أفرادِ قبيلةِ “دامانان”. فكان يُجمَعُ شبابُ القرية ويُرسَلون إلى المخافر. كل هذه الأحداث بقيت حيةً في ذاكرةِ أبي، الذي لم يتذكر كم كان عمرُه بدقة حينذاك. كم أتمنى أن أتذكر كلَّ ما قاله لنا، إذ نادرةٌ جداً المعلوماتُ التي علقت بذاكرتي.

قال أبي عن إحدى ذكرياته تلك: “أذكرُ جيداً أن قوات الدرك أتت في ذاك اليوم إلى القرية عبر “جسرِ باكس”، فجمعَت عدداً كبيراً من الشباب، بما فيهم أبي، في ساحة القرية. وقَيَّدَتهم جميعاً إلى بعضهم البعض، وتركَتهم هكذا مدة طويلةً للجوع والعطش تحت أشعة الشمس الحارقة. ثم نَقَلتهم جميعاً إلى مخفرِ “جسر باكس”. أذكر أنني ارتميتُ حينها في حضن أبي، متوسلاً إلى الدرك أن يأخذوني معه. لكنهم دفعوني. فأجهشتُ باكياً، وبَكَت معي أمي وبقيةُ نساء القرية. وفي اليوم التالي، تشكلت مجموعةٌ قصدَت المخفرَ لاستطلاعِ الوضع. فانضممتُ إلى تلك المجموعة. وعندما وصَلْنا، أَمَرونا بالانتظار في حديقة المخفر، وأهملونا. وذاتَ مرةٍ أخرى، أمرَ ضابطُ المخفرِ الحارسَ الكردي المحلي قائلاً: “اذهب إلى قرية شكرمان، واجلب لنا الأوراق اللازمة”. لكن الحارس ذهب وجمَعَ كل نساء القرية وأتى بهنّ إلى المخفر، لأنه فَهِمَ كلمة “الأوراق” على أنها “العَورات/النساء”. وعندما رآه الضابطُ مع مجموعة النساء، قَهقَهَ بصوتٍ عالٍ قائلاً: “من المؤكد أن هذا الحارس فَهِمَ كلمة الأوراق على أنها العَورات”. وطلبَ منه إرجاعَ النسوة إلى القرية على الفور. حينها ارتحتُ، بعدما كنتُ أرتعشُ لمّا رأيتُ ذاك المنظر، خوفاً من تقييد النساء واحتجازهن أو اعتقالهن، مثلما فعلوا بأبي وبشباب القرية”.

عادةً ما كانت عينا أبي تمتلئ بالدموع عندما يقصّ علينا تلك الأحداث وغيرها. وكان يَعِظُنا دوماً أن نبقى عقلاء، وأن نتصرف برُشد، كي لا نمرّ، نحن أيضاً، بالآلام والأحداث والمصاعب التي مرّ هو بها. وكأن لسان حاله يقول: “أنى لكم أن تدركوا معنى الحياة؟ فأنتم لم تروا منها شيئاً بعد. هاكم ما عشناه نحن”.

كل تلك الأحداث كانت تجري بحجة اختباء أفراد قبيلة “دامانان” في القرية. أي أن الناس كانوا يُجمَعون ويُقَيَّدون، ويُحتَجَزون، ويُعتَقَلون، ويُعَذَّبون بناءً على “الشك”. فماذا لو كانوا فعلاً مختبئين في القرية؟ تصوّروا ما الذي كان سيحدث حينها؟”

ومن هذا التاريخ ارتوت المناضلة ساكينة وهذا ما ساعدها لتدرك مبكرا التناقضات في مجتمعها،  فبدأت بالبحث عن الحقائق فكانت مرحلة الطفولة عبارة عن مرحلة لتكوين وبناء الذات، فكانت جريئة في طرح أفكارها، حتى ولو كانت تلك الأفكار عكس التيار، وربما هذا ما جعلها تترك أثراً غائراً في كل مكان وطأته، وفي قلب كل شخص التقى بها، رجالاً ونساءً، أطفالاً وشباباً وعجائز، وهذا ما جعلها تتحول إلى قيادية بامتياز في هذا العالم، الذي يشهد مجازر المرأة وإقصاءها من جميع مجالات الحياة، والذي يُعد المرأة مجرد سلعة أو مادة جنسية أو شيء أو مُلك. وبذلك تمكنت ساكينة أن تتحول إلى بحر معطاء لا يتوقف عطاءه  وتقود النساء ومن تعرف عليها نحو الحرية، على أمل أن تنعم البشرية بعالمٍ تسوده أخوّة الشعوب والمساواة والحرية، ويزدهر فيه العشق الحقيقي مرة أخرى.

 بلغت المرحلة الجامعية لتكبر وتكبر معها التناقضات يوماً بعد آخر في ذهنها، ومنذ ذلك الحين تشبثت بفكر الاشتراكية والديمقراطية على الدوام، تمردت على الواقع الذي يعيش فيه مجتمعها، فلم يجد اليأس طريقاً إلى قلبها النابض بالحيوية، بعد أن عاشت صراعاً مع ذاتها ومع من حولها، إذ كانت تحارب نقاط الضعف في نفسها، وتتغلب على نواقصها بكل جرأة، وتُعيد بناء ذاتها بكل همّة، وكانت تبدأ بانطلاقات مهمة في حياتها بقلبٍ يتّسع لكل الدنيا، هكذا علّمَتها حقيقة “ديرسم المتمردة”.

عرفت الشهيدة “ساكينة” بعملها كناشطة في الشبكات اليسارية المؤيدة للقضية الكردية في تركيا، بدأت مسيرتها بمبادرتها في العمل ضمن المصانع والمعامل لتوسع دائرة معرفتها بالشابات، وإيجاد الفرصة لفتح نقاشات معهن، وإرشادهن لطرق تنظيم الذات والتعرف على فكر المفكر والقائد عبد الله أوجلان، الذي أولى في بداية النضال أهمية كبيرة لحرية المرأة، وانضمت إلى حزب العمال الكردستاني، الذي أُسِّس من قبل 23 شخصاً من الناشطين الكرد عام 1978، فقد كانت واحدة من امرأتين وضعتا الحجر الأساس لتأسيس الحزب، وشاركتا في مؤتمره التأسيسي، ومنذ ذلك الوقت تم التأكيد على أن حرية المجتمع تمر من خلال حرية المرأة.

 فانضمامها إلى المجموعة، التي وجدت للنضال وتحرير كردستان تعدّ الولادة الثانية لساكينة جانسيز، كونها وجدت فيها حقيقة النضال والمقاومة، فقد أصبحت من مؤسِسات حزب العمال الكردستاني، واستطاعت أن تحول سريع الفاشية التركية إلى ساحات للمقاومة والنضال.

 باشرت الشهيدة ساكينة بتسيير الأنشطة التنظيمية في مختلف مدن باكوري كردستان (شمال كردستان)، وقادت حركة احتجاج اندلعت في سجن آمد في الثمانينات فشكلت مقاومة السجون نقطة حاسمة ونوعية ومن خلالها تم تحديد ملامح الحزب، فقد وتميزت ساكينة جانسيز بوقفتها القوية بوجه الجلادين الذين مارسوا شتى أنواع التعذيب، والظلم، واستطاعت بمقاومتها أن تسطر أروع ملاحم البطولة ورغم تجريمها لعضويتها في اللجنة المركزية واللجنة التأسيسية لحزب العمال الكردستاني، إلا أنها دافعت عن نفسها سياسياً في المحكمة في كل مرة، بل وحثت رفيقاتها على المقاومة، فقمن بالعمليات المشتركة، وبدأن الإضراب عن الطعام معاً، وخضن المقاومة جماعياً.

 وكتبت الشهيدة ساكينة جانسيز في مذكراتها عن فترة اعتقالها، وتعذيب المعتقلين الكرد في سجن آمد:

“كان السافل أسعد أوكتاي يعرضنا جميعاً لشتى أنواع التعذيب، لكنني وقفت أمامه، وحدقت في عينيه اللئيمتين، وبصقت على وجهه القذر”.

 لم تأبه ساكينة بما ستلقاه من عقاب مانحةً حياتها للثورة، وقد ذاع صيت فعلتها هذه، وعدها كثيرون أنها عملية جريئة للغاية في ظل التعذيب السافر، الذي يتعرضون له، تلك المحاولات كلها، باءت بالفشل أمام إرادتها، بل كانت تزيد من إصرارها على المقاومة، ولم يقتصر نضالها في السجن مع رفاق نهجها فقط، بل كانت تناقش وتحتك مع المساجين الآخرين قائلةً:

 “في هذا المجتمع يجب كسب الجميع، وتعريفهم على حقيقة التنظيم، وبالتالي حقيقتهم”.

وتمكنت مع رفاقها من إصدار مجلة تتناول تاريخ كردستان، وتعريف حركة التحرر الكردستانية، استطاعت هذه المجلة أن تحتل مكانة كبيرة بين المجلات التركية، إلا أنه في الثاني والعشرين من أيلول عام 1988، اكتشف أمر مجلتهم فتم معاقبتها مع 130 شخصاً وتم نفيهم إلى سجن أماسيا في آمد، أفرج عنها عام 1991 لتذهب إلى أوروبا بعد تلقي التدريب في سهل البقاع، لتشرف هناك على تنظيم الأنشطة النسائية، لكن الانتربول الدولي كان قد وضعها على اللائحة الحمراء، فاعتقلت في آذار عام 2007 في فرنسا بموجب مذكرة توقيف دولية صادرة عن أنقرة، لتبقى قرابة شهر ونصف في سجن دامتور، وأطلق سراحها بعد ذلك.

تاريخ من النضال الدؤوب لن نستطيع التعبير عنها بالكلمات مهما مرت السنوات، ولن نستطيع اختصار حياة كاملة من القيادة والنضال والثورة والمقاومة ولو اجتمع كُتاب العالم وعباقرة العصور جميعاً، لن يستطيعوا إعطاء ميرتها الحافلة بالعظمة حقها، لأن حياتها النضالية جمعت ما بين فلسفة الحياة والموت، ما بين الحرية والمقاومة ضد الظلام والخنوع.

التاسع من كانون الثاني عام 2013، يومٌ تاريخي لن يُنسى، أنه اليوم الذي اغتيلت فيه المناضلة ساكينة جانسيز  بالقرب من المعهد الكردي في العاصمة الفرنسية باريس، من قبل الاستخبارات التركية مع رفيقتيها المناضلتين ممثلة المؤتمر الوطني الكردستاني فيدان دوغان، والتي كانت تعرف باسم روجبين والناشطة في مجال العلاقات الدبلوماسية، وممثلة حركة الشبيبة الكردية في أوروبا ليلى شايلمز، الاسم  روناهي، رمياً بالرصاص.

 في ذلك اليوم انتهت حياة ثلاثة نساء جسدياً، عشن حياة استثنائية، المجزرة التي استولت على أيامهن، ترك استشهادهن أثراً كبيراً في نفوس الآلاف، بعد نضال وكفاح في سبيل حرية المرأة، إذ كشف استشهادهن مدى تأثر النساء بهن، لدرجة أن المؤتمر النسائي الأول في الشرق الأوسط، والذي عقد في مدينة آمد بعد حادثة الاغتيال ببضعة أشهر، قد خرج بتوصيات من أهمها اعتبار التاسع من كانون الثاني يوماً عالمياً لمناهضة الجنايات السياسية.

 ارتكبت جريمة اغتيالهن بالتعاون مع الاستخبارات التركية، على يد “عمر گوناي” الذي اعتقل بعد الحادثة بأيام، وقتل في السجن من قبل تركيا لإغلاق ملف القضية وإخفاء الجريمة، لكنهم أثبتوا من خلالها مخاوفهم من المرأة الطليعية والمناضلة؛ فنضال المرأة ليس بنضال سهل بل إن نضال المرأة ومقاومتها حافل بالكثير من المخاطر لأنهم يدركون بأن المجتمع السليم يُبنى بفكر المرأة المناضلة  والواعية، وبالإصرار والعزم والمقاومة الفدائية والجرأة التي كانوا يتحلين بهن فأصبحن قدوة لكافة النساء في روجآفا وكردستان والعالم.

كما كانت حياة  الشهيدة ساكينة جانسيز “كلها صراع” فإن حياة ومسيرة الشهيدتان فيدان دوغان وليلى شايلمز، أيضاً كانت حافلة بالجهود التاريخية وكانوا  رونقاً مقدساً أعطت معنى الحرية والجمال لحكايتنا المدفونة في رحم الثورات في حياة نساء ناضلن ويناضلن بين صفحات المقاومة في وجه الرأسمالية، والظلم والاضطهاد، وهن رفيقات قائد الإنسانية عبد الله أوجلان إلى أن تشرق شمس الحرية من أرض ارتوت بدماء الشهداء والشهيدات، اللاتي قدمن الكثير والكثير لتحيا المرأة بكامل حريتها وكرامتها وكافة الشعوب أيضاً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هنا؛ وكان من المحزن أن تفتح باريس مرة أخرى ذراعيها لمجزرة ثانية في تاريخ 23/12/2022، بحق النساء المناضلات ومنهن أيضاً الشهيدة أفين گوي (أمينة كارا)، وزملائها (الفنان مير پرور وعبدالله كزل)، فحياة الشهيدة أفين گوي هي ملحمة من ملاحم مسيرة الحرية، علينا التعرف عليها  عن قرب:

الشهيدة أفين گوي(أمينة كارا):

ولدت القيادية أفين گوي اسمها الحقيقي (أمينة كارا)، عام 1977 في قرية “هلال” التابعة لناحية قلابان في منطقة جزيرة بوطان في شمال كردستان (باكوري كردستان). وفي عام 1994 أجبرت على الانتقال مع عائلتها إلى قرية أخرى بسبب قيام الدولة التركية بإحراق قريتها. تعرّفت على حركة الحرية وانضمت إلى صفوف حزب العمال الكردستاني، وكانت رائدةً من رائدات مسيرة ثورة المرأة، كما ساهمت في تطوير أيديولوجية تحرير المرأة، وانضمت أيضاً إلى ثورة المرأة في إقليم شمال وشرق سوريا وعملت في مجال تنظيم المرأة والمجتمع.

 ولعبت دوراً مهماً في كافة الميادين وساهمت في بناء الكومينات والمجالس وتطوير المرأة والمجتمع معاً من خلال عملها داخل الأكاديميات، وأصرّت على محاربة مرتزقة داعش والسير على خط حرية المرأة ضد وحشية داعش ونالت شرف هزيمة داعش.

وطالبت مثل كل امرأة بالحرية وناضلت من أجلها، لقد بذلت حياتها وعمرها في هذا النضال لمدة 34 عاماً، وعملت في كل جزء من كردستان، يمكن للمرء رؤية آثار عملها الجاد ومقاومتها في جميع أجزاء كردستان، وخاصة في الدور الذي لعبته في القتال ضد داعش والمسؤولية التي تحملتها، والجهود التي بذلتها والعمل الذي قامت بها تجاه المجتمع، ولقد قدمت عملاً عظيماً، واستطاعت أن تحصل على محبة الجميع، وهذه الميزة لا توجد لدى الجميع.

إن الشهيدة أفين كانت في خضم استعداداتها من أجل تنظيم مسيرة بمناسبة الذكرى العاشرة لمجزرة باريس الأولى، والانتقام لسارة وفيدان وليلى. لقد ركزت كثيرا على هذا الحدث، إيماناً منها بمقولة “إن قتل الشهيدة ساكينة جانسيز وزميلاتها هي بنفس الوقت قتل جميع النساء”.  الشهيدة أفين گوي لم تناضل لأجل النساء الكرديات فقط؛ بل ناضلت مع مختلف المنظمات النسوية والحركات المطالبة بحرية المرأة.

في 23 كانون الأول عام 2022، وقع هجوم مسلح على المركز الثقافي الكردي لـ  (أحمد كايا) في باريس عاصمة فرنسا التي أدت إلى مقتل القيادية أفين گوي (أمينة كارا) العضوة في المجلس القيادي لمنظومة المجتمع الكردستاني والفنان مير پرور وعبدالله كزل. مرّ عام على المجزرة الثانية، ولن ننسى بأنه حتى الآن لم تحاول الحكومة الفرنسية ملاحقة مرتكبي المجزرة الأولى 9/كانون الثاني/2013، فمن البديهي جدا أن نرى صمتها إلى الآن وعدم حراكها  تجاه المجزرة التي ارتكبت مؤخراً.

كل القوى التي كان لها دور في هذه المجزرة، قد تم إماطة اللثام عن وجوههم مرة أخرى. ففي نفس الدولة والعاصمة باريس تمت المجزرتين، ومن خلالها أرادوا أن يكسروا إرادة المرأة المناضلة والمكافحة والواعية وإرجاعها إلى خندق العبودية. ولكن لا يمكن لأحد أن يمنع هذا النضال، وكل جهودنا ونضالنا من الآن فصاعداً سيكون من أجل تحقيق عدالة المرأة. القوى التي قامت بهذه المجازر والقوات المتآمرة لن تنتصر أبداً، إن نضال النساء الكرديات وجميع النساء الأخريات من أجل الحرية سينتصر، وهذا بالتأكيد سيتحقق من خلال تطبيق العدالة الحقيقية.

بسبب رفض الشهيدة أفين گوي للواقع الظالم على المرأة، دائما كانت تبحث عن حياة مختلفة مفعمة بروح فلسفة الحرية. وتبين بأن القوة التي خلقت منها شخصية مميزة كان (فضولها)، على معرفة كل جديد، وأظهرت التفكير والتحقيق في هذه الأمور. وفي سن مبكرة ونتيجة ولعها بروح البحث اكتسبت شخصية فتاة مميزة، الأمر الذي جعلها تلفت انتباه الآخرين. كانت سباقة للتعرف على من حولها، والتحدث معهم ورؤيتهم، وخاصة الأمهات الكبيرات في السن، تحترمهن وتتسمع لسردهن. كانت تُخلق شعور الحب والارتباط مع المرء، كانت تُعرف بروحها المرحة وأسلوبها الملفت في التعامل مع الآخرين، وعملها المنظم وشخصيتها القيادية كانت جذابة.

لقد كانت ذات ابتسامة مميزة لا تفارق محياها، اتسمت شخصيتها بصفات المرأة الحرة، كانت منفتحة لجميع القوميات واللغات، إنها كانت قوية وشجاعة ومتفهمة، كانت دائماً تقول؛ “يعجبني تنسيق وأسلوب العمل وتعاون النساء معاً من أجل الوصول لحرية المرأة والمجتمع”. لطالما كانت الشهيدة أفين گوي تسعى للتعرف على النساء ومدى تطويرهن لذاتهن من أجل مساعدتهن والدخول معهن في نقاش عن العقبات التي تعترضهن.

 وكانت تطرح طريقة تخطي العقبات والمشاكل وكيفية  تطوير عملهن، وأن تسند النساء بعضهن في كل الأزمات؛ لأن المرأة لديها روح المساواة والعدالة والديمقراطية. وعلى جميع النساء أن تعتمد على ذواتهن، وأن ثورة المرأة هي فرصة لجميع النساء لتحرير أنفسهن والحياة والمجتمع، وعندما كانت ترى جميع النساء يسرن على طريق حريتهن ويناضلن تشعر بالفخر والاعتزاز.

الشهيدة أفين گوي تلك البرعمة الناعمة التي كانت  تتلمس نفحات الربيع في كل نفسٍ من أنفاسها . كانت  آنين ناي بوطاني تتحدث عن عشق زين للوطن وللجمال والتواضع.

هي أغنية الحرية  والحياة والمرأة البهية. بقدر حبها  للفن والطبيعة ولجميع زملائها وشعبها، كانت تطمح لحياة مسالمة وجميلة كـ جمال الفراشات والحمامات. أفين گوي كانت مثل خرير الماء وهدوء الينابيع.

ولأن تصعيد نضال حركة حرية المرأة أصبح أكثر تطوراً من أي وقت مضى، حيث بدأ نضال المرأة من أجل الحرية في  كردستان حتى وصلت إلى نساء الشرق الأوسط، لذا يتم استهداف رياديات الثورة دائماً، وهي إحدى تلك الرياديات اللواتي تم استهدافهن، وقد ناضلت وقاومت من أجل الحرية حتى آخر يوم في حياتها، وهناك أثر لنضالها في كل مدينة من كردستان وفي كل مكان ذهبت إليه جذبت انتباه الجميع بعملها وقوتها وقوة رفيقاتها.

إن القائد عبد الله أوجلان والنهج الذي قدّمه من أجل حرية المرأة؛ شكل مصدر قوة النضال للمرأة، وساهم في دعم النساء اللواتي أصبحن رائدات وقويات، ومع مرور الوقت أثّرت هذه القوة أيضاً على أسلوب حياة المجتمع، والعالم بشكل عام، وهذا هو سبب تعرض القياديات لاستهداف العدو والإبادة بحق النساء.

إن الناشطات والشهيدات ساكينة جانسيز، ليلى شايلمز، فيدان دوغان وأفين گوي جميعهن شكّلن شعلةً للحرية، التي تضيء طريقنا. إننا نرى المرأة الحرة في شخصيتهن القوية، لطالما تُستهدف المرأة القوية من قبل الديكتاتوريين والرجعيين فهم يخشون المرأة الحرة ذات الإرادة الجبارة. مؤكدة أن الكلمات لا تكفي لوصف شخصياتهن ونضالهن من أجل تحرير المرأة والمجتمع، فاليوم آلاف من النساء يسرن على خطاهن للوصول إلى الحرية، وطالبت الجهات المعنية لـ حقوق الإنسان إلى إعادة فتح ملف هذه القضية ووضع مرتكبي هذه المجازر في قبضة العدالة.

بريادة المرأة الحرة سوف تحيا كافة نساء العالم، ثورة ذهنية وفكرية تحررية مفعمة بالانتفاضات الحرة. ولن تصمت النساء، بل سيحاسبن جميع المجازر التي تم القيام به ضد المرأة (الحياة)، ورغم قبح الذهنية السلطوية إلا أن المرأة المكافحة  والمناضلة والثورية ستبقى شامخة ومقاومة كجذع الزيتون لأجل الوصول إلى عالم مسالم. لأرواحهن السلام.

                                 هُنّ شعاع فلسفة

                                                                 المرأة

                                                                        الحياة

                                                                               الحرية